|
كمال الابراشى .. والسادات .. والسفير الإسرائيلي!
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1410 - 2005 / 12 / 25 - 11:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كل عابر سبيل بمنطقة "وسط البلد" بالقاهرة، وبالتحديد بالقرب من تقاطع شارعي 26 يوليو وطلعت حرب .. يقرأ منذ سنوات وعقود لافتة مكتوب عليها اسم الدكتور كمال الابراشى . وبعض هؤلاء لم يكتف بقراءة الاسم المكتوب على اللافتة، بل دخل عيادة الدكتور كمال ليصلح له ما أفسده الدهر، ويخلصه من آلام الأسنان الرهيبة. لكن قلة نادرة من هؤلاء وأولئك كانت تعرف أن كمال الابراشى ليس مجرد طبيب أسنان بارع وليس حتى مجرد واحد من أهم الأساتذة الجامعيين لهذا الفرع من الطب في الشرق الأوسط بأسره، الأمر الذي جعل الرئيس الراحل أنور السادات يختاره من بين كافة أطباء الأسنان لعلاجه. الرجل كذلك بالفعل .. مع إضافة جوهرية، هي أنه كان واحداً من كبار المثقفين. قارئ محترف يلتهم أهم ما تنتجه المطابع المصرية والعربية والإنجليزية من جديد في عالم الفكر والفروع المختلفة للعلوم الإنسانية. وكاتب صاحب قلم ذكى ينافس الكتاب المحترفين. ومتذوق واع للفنون والآداب .. لا يفوته حضور معارض الفنون التشكيلية للفنانين الموهوبين، حتى لو كانوا مغمورين ومن غير المشاهير. ولا يكتفي بالمشاهدة و"الفرجة" بل يقتنى الكثير من هذه الأعمال الإبداعية، يحتفظ لنفسه منه بنصيب، ويدخر جزءاً منها لإهدائه لأصدقائه في المناسبات التي تستحق ذلك. كل ذلك في إطار من الاهتمام الجاد بالشأن العام وقضايا مصر والشعوب العربية. وهذه الاهتمامات السياسية والثقافية، المشروعة ، أدت بهذا العالم الكبير إلى السجن. وعلى يد من ؟! على يد نفس الرئيس الذي اصطفاه من بين آلاف الأطباء لكي يكون طبيبه الخاص؟! فأثناء وجود هذه العلاقة المهنية بين الدكتور الابراشى والرئيس السادات حدثت التطورات الدراماتيكية التي أخذت السادات إلى القدس ثم كامب ديفيد وتوقيع اتفاقية الصلح مع إسرائيل ثم فتح سفارة للدولة اليهودية في القاهرة. وذات يوم قال السفير الإسرائيلي للرئيس السادات أنه يعانى من آلام في الأسنان فأشار عليه السادات بأنه يتجه فوراً إلى الدكتور الابراشى لأنه الأفضل. وفعلاً .. فوجئ الابراشى بالسفير الإسرائيلي فى عيادته. فماذا يفعل؟ التقاليد والأصول المهنية تملى عليه واجب علاج أي إنسان يلجأ إليه حتى لو كان عدواً .. فقام بفحصه .. وبعد الفحص قال له أن علاجه ممكن، ولكن التكلفة ستكون باهظة في عيادته الخاصة .. وقال له أنه يمكنه أن يبحث عن العلاج في مكان آخر بتكاليف أقل. أصيب السفير الإسرائيلي بالغيظ من ملاحظة الابراشى التى تنطوى ضمنا على تلميح للبخل اليهودى التاريخى، وقال له أنه مستعد لدفع التكاليف المطلوبة مهما كانت باهظة، وأخرج دفتر الشيكات وسأله عن المبلغ الذي يريد أن يدونه في الشيك. طلب منه الدكتور الابراشى مبلغاً كبيراً .. فكتبه السفير على مضض. لكن المثير أن الابراشى استطرد قائلاً : الأهم من المبلغ هو اسم الشخص المخول بصرف الشيك. رد السفير باستغراب : اسمك طبعاً عاجله الابراشى بالرد الصاعقة : لا يا سعادة السفير .. اكتب الشيك باسم ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. بوغت السفير الإسرائيلي وخرج من عيادة الابراشى مذهولاً، ليتصل بالرئيس ويبلغه بما حدث من "طبيبه الخاص"! لم يتكلم السادات مع الطبيب الذي رفض "التطبيع" بصورة عملية خالية من الجعجعة والاستعراض، لكنه ظل كاظماً غيظه حتى يوم 5 سبتمبر الأسود الذي تم فيه اعتقال المئات من رموز الأمة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومسلمين وأقباط، وشيوخ وشبان. وكان اسم الدكتور كمال الابراشى على رأس القائمة لينتقل من قصر الرئاسة إلى مزرعة ليمان طره! هذا الموقف الذي يعبر عن يقظة الضمير الوطني لهذا العالم الجليل، كما يعبر عن شجاعته السياسية، ويعبر أيضاً عن إعطائه الأولوية للمصالح الوطنية على مصالحه الشخصية وارتباطاته مع الرئيس السادات، كان له فى ذلك الحين مفعول السحر في الأوساط المناهضة لسياسة الرئيس السادات، وأعطى دعماً معنوياً هائلاً لمناهضي التطبيع. وكانت النخبة تتداول هذه القصة شفاهة وسراً لأن الحكم فى ذلك الحين وضع أقفالاً من حديد على أفواه كل من كان له أي شكل من أشكال النقد للصلح مع إسرائيل، سواء من حيث المبدأ أو حتى من حيث الهرولة وسوء إدارة المفاوضات وتقديم تنازلات مجانية على النحو الذي دفع أربعة وزراء خارجية للاستقالة تباعاً. لذلك سيسجل التاريخ للدكتور كمال الابراشى موقفه فى تلك الأيام الغابرة. أضف إلى ذلك أن هذا الفارس الشجاع كان أبعد الناس عن الجمود الفكري، ومن ثم عن ضيق الأفق. فقد كان ليبرالياً .. لكنه كان ينتقد بشدة من لبسوا قبعة الليبرالية مؤخراً كتأشيرة مرور إلى الغرب، وبالذات إلى أمريكا، وكان من أوائل من أطلق على هؤلاء اسم "المارينز" .. لأن الحرية عنده كانت مفهوماً متماسكاً يجمع بين حرية الوطن وحرية المواطن ويستنكف أن تكون المتاجرة بحرية المواطن تكئة للتفريط فى حرية الوطن. ولذلك أيضاً .. ولأنه كان ليبرالياً حقيقياً، يؤمن حقا وصدقاً بالرأي الآخر .. فان أقرب أصدقائه كانوا من الماركسيين والقوميين واليساريين عموماً . ولم يكن من باب الصدفة أن يكون بيت أستاذنا وعمنا وتاج رأسنا وصديقنا الحميم محمد عوده هو المحل المختار للقاءاتنا ومناقشاتنا ومشاجراتنا ومساجلاتنا منذ السبعينات حتى إصابته منذ بضعة شهور بالمرض الملعون الذى كان الوحيد الذي تمكن من إسكات الصوت الرنان والمجلجل لكمال الابراشى . وعندما عاد من لندن – بعد أن تبين للأطباء أن الداء قد استشرى ولم يعد ممكناً مواجهته – ذهبت إليه مع صديق العمر المشترك محمد عوده والشاعر الجميل أحمد إسماعيل، وكان ممدداً على السرير بمستشفى القصر العينى وتملكه الوهن .. لكن ما إن رآنا حتى ملأت الحيوية وجهه وانطلق في الحديث فى السياسة والاستفسار عن التطورات التي حدثت أثناء غيابه في لندن .. والسؤال عن الأصدقاء. وكان اللقاء الأخير.
ملاحظة ورجاء : الملاحظة هي أن أنس الفقي ابن أخت الدكتور كمال الابراشى كان طالباً في المدرسة الثانوية آنذاك ولم يكن له علاقة بوزارة الإعلام أو الحكومة ، وبالتالي لم تكن شبهة نفاقه واردة من أي من أصدقاء خاله،وحتى عندنا تولى رئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة ثم وزارة الإعلام .. لم يقل لنا الدكتور الابراشى أن هذا النجم الصاعد ابن أخته .. واكتشفنا ذلك بالصدفة فيما بعد وأشبعناه مشاكسة بسبب ذلك. أما الرجاء: فهو لك عزيزي القارئ .. عندما تمر في وسط البلد وترى لافتة الدكتور كمال الابراشى .. تذكر أن هناك أناس محترمون يتخذون مواقف شجاعة في تواضع وصمت .. ويدفعون الثمن غالياً من صحتهم وأجمل سنوات العمر. وداعاً .. يا صديقي !
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
برلمان الهراوات والعمائم!
-
أخيراً.. جامعة في أرض الفيروز
-
هل الأزهر فوق القانون ؟!
-
احتفال -تحت الأرض- لجماعة -الأخوان-!
-
فقر العرب!
-
نريد المعرفة.. والحرية
-
أطاح بالملك فاروق .. وهزمه إخوانى -فرز ثالث-
-
-الاخوان- و-الأمريكان-
-
المواطنة.. لا تعني مساواة المسيحيين بالمسلمين
-
من الذي حول -طحينة- البحر الأبيض إلى -خل أسود-؟!
-
السحل فى أرض الكنانة .. ياللعار
-
»فتح مصر«.. يا حفيظ!!
-
مطلوب إعادة الاعتبار إلي «فكرة» الانتخابات
-
رسالة »الإخوان« للحزب الوطني: وجب الشكر علينا
-
-أبانا- الذى فى البيت الأبيض!
-
صدق أو لا تصدق: إسرائيل أخضعت -السادات- لاختبارات كشف الكذب!
-
!أبو الغيط يؤذن فى المنامة
-
السودانيون يتدخلون فى الشئون الداخلية ل -جمهورية المهندسين-!
-
اغتيال -الحرية والإخاء والمساواة- فى عقر دار الثورة الفرنسية
-
برنامج الثلاث كلمات
المزيد.....
-
حفل توزيع جوائز غرامي.. ما المنتظر منه؟ ولماذا لم يتم إلغاؤه
...
-
الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع يصل الرياض في أول زيارة ر
...
-
مزاد تاريخي في ألمانيا.. مرسيدس تبيع سيارة سباق نادرة بأكثر
...
-
ملك بريطانيا على الشاشة.. وثائقي جديد يكشف دور تشارلز الثالث
...
-
إيران والحرب في غزة والتطبيع.. هذه هي الملفات الأكثر سخونة ف
...
-
وزير الخارجية المصري: لدينا رؤية واضحة لإعمار غزة دون تهجير
...
-
قلق دولي وتحذيرات أوروبية من -ثمن باهض- لرسوم ترامب التجارية
...
-
أنقرة: نأمل أن تحل مسألة القوات الكردية في سوريا دون إراقة ل
...
-
ناشطون يتداولون وثيقة صادرة عن القضاء السوري بإلقاء الحجز ال
...
-
الحوثي يعزي -حماس- والشعب الفلسطيني في محمد الضيف
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|