|
حكايات رقابية
ثائر زكي الزعزوع
الحوار المتمدن-العدد: 1408 - 2005 / 12 / 23 - 11:16
المحور:
الادب والفن
(1) في الطفولة ينشأ أي كائن بشري قُدِّر له أن يُولد في عالمنا العربي- الإسلامي على مفردتين تلازمانه في حِلِّه وترحاله منذ أن يُطلق صرخته الأولى، المفردتان هما في الوقت نفسه سرّان تربويان يستطيع المربي من خلالهما فرض شروطه الاجتماعية والثقافية على الوافد الجديد الذي لا يكون مهيئاً اجتماعياً للانخراط ضمن القطيع، وصفة القطيع لا يُراد منها الحطُّ من شأن مجتمعاتنا على اعتبار أنها مفردة لطالما ارتبطت بعوالم المواشي والأبقار، وإنما يُراد بها الوقوف على المسار الاجتماعي المتفق عليه في مختلف مناحي الحياة. المفردتان هما (العيب) و(الحرام) فكلّ ما لا يمكن تأويله أو تفسيره أو يُمنع الاقتراب منه أو الخوض فيه أو تجاوزه يقع حتماً تحت أحد هذين السقفين فإما أن يكون عيباً أو حراماً. *** ومن خلال التسمية يبدو واضحاً بجلاءٍ أنّ (العيب) هو حاجزٌ أو سقفٌ بُني على مدى قرون ليحدّ من جنوح وجموح وحرية الخيال الخصب للوافد الجديد تجاه قضايا اجتماعية وثقافية لا يسمح تجاوز خطوطها الحمراء، فترسّخت المفردة شيئاً فشيئاً لتنتقل عبر التداول أولاً من جيل إلى جيل، ثم، بشكل أو بآخر، صارت جزءاً لا يتجزّأ من تكوين الكائن الشرق أوسطي بكلّ تفاصيله، ولم يعد وارداً التدخّل في مدى اتساعها أو ضيقها، فهي صارت من المسلّمات. أمّا (الحرام) وهي مرتبطة ارتباطاً كلياً بالدين قبل أي شيء آخر فإنّ خطورتها تبدو أشدّ على اعتبار أنّ الاقتراب منها أو محاولة تجاوزها يحمل في طياته الكثير من المخاطر لأنه يعني المسّ بالمقدّس وهذا دُنوٌ من نار جهنم وبئس المصير. وعلى اعتبار أن لا اتفاق على ما هو العيب وما هو الحرام أو ما هي حدود كل واحد منهما فإن سقفهما يضيق أو يتسع وفقا للرغبات التي تحكم المزاج العام، وإن ضريبة أو عقوبة مخالفة أحدهما تتوقف أيضاً على طبيعة الجهة التي تحمل لواء الحفاظ عليهما أو محاسبة المخالفين. *** الأمر الخطير في استخدام (العيب) و(الحرام) هو أنه لا يترك أية مساحة بعده للحوار أو للنقاش، فكلا المفردتين تنهيان أي شيء بعدهما، وتلغيان الفعل أو القول ما قبلهما أي أنهما تقطعان بالتوقف، والصمت.... (2) بالعودة إلى اللغة، وفي لسان العرب نجد (العيب) و(الحرام) معرّفين بالآتي: (العيب): العَابُ والعَيْبُ والعَيْبَةُ: الوَصْمة، والجمع: أَعْيابٌ وعُيُوبٌ؛ يجوز فيه أَن يكون العَيَّابُ اسماً للعَيْبِ، كالقَذَّافِ والجَبَّانِ؛ ويجوز أَن يُريدَ عَيْبَ عَيَّابٍ، فحَذَفَ المضاف، وأَقام المضاف إِليه مُقامه. وعابَ الشيءُ والحائِطُ عَيْباً: صار ذا عَيْبٍ. وعِبْتُه أَنا، وعابه عَيْباً وعاباً، وعَيَّبه وتَعَيَّبه: نَسَبه إِلى العَيب، وجعله ذا عَيْبٍ. و مايهمنا من كل التفصيل السابق أنّ العيب هو الوصمة، والوصمة تقود إلى العار، فما أسهل المفردة التي تستخدم للدلالة على الشائن من الأمور فيقال (وصمة العار)، ويقال موصوم إذا ارتكب الواحد عاراً يُلحق به الوصمة، أما أن يستخدم (العيب) للحدّ من الاستطراد في الحوار والتعلّم، فهذا ما طرأ في مجتمعاتنا بفعل لغة القمع التي جهد المجتهدون على نحت مفرداتها وتعاليمها حرصاً منهم على مكتسبات، أو إرضاء لهذا أو ذاك من الولاة والخلفاء قديماً، ثم للزعماء التّاريخيين أو غير التاريخيين لاحقاً. ولعلّ الطفل في أول نشأته يرتطم كثيراً بهذا الحاجز الكتيم إذ يسأل: ما هذا؟ فيقال له: عيبٌ. وأما (الحرام) الحِرْمُ، بالكسر، والحَرامُ: نقيض الحلال، وجمعه حُرُمٌ؛ وقد حَرُمَ عليه الشيء حُرْماً وحَراماً وحَرُمَ الشيءُ، بالضم، حُرْمَةً وحَرَّمَهُ الله عليه، والحَرامُ: ما حَرَّم اللهُ. والمُحَرَّمُ: الحَرامُ. والمَحارِمُ: ما حَرَّم اللهُ. ومَحارِمُ الليلِ: مَخاوِفُه التي يَحْرُم على الجَبان أَن يسلكها. إذن... فالحرام مرتبط كلياً بما حرّم الله، ولا يمكن اعتبار الخوض في مسائل لم يحرمها حراماً، وهو السائد في أثناء تداول أية قضية لها علاقة بـ(المقدس) بحيث يتم بتر النقاش بـ(حرام) فلا يعود ثمة إمكانية للمضي قدماً للبحث في التفاصيل أو فيما وراء العبارة. وقد قال النبي الكريم: (الحلالُ بيّن والحرامُ بيّن)، ولكنّ غالبية العاملين في الشأن الديني، يصطلحون محرماتٍ ليست محرمة، ويكسبون بعض المحلّلات صفة التحريم، وباعتقادي فإن المبرّر لفعلهم إما ضعف الحجة أي عدم الدراية بما يتحدثون، أو الخوف من نبش قضايا قد تؤلِّب العامة على قضايا مسكوت عنها انتقلت إلينا عن طريق التواتر خطأ وتم الحفاظ عليها كما هي، أي أُخذت على علاّتها، وأمثلة ذلك كثيرة يلمسها كل متقصٍّ أو باحث أو كاتب... وليس خفياً أو سرياً ما يفعله (الأزهريون) نسبة إلى الجامع الأزهر في مصر.... (3) مدى الإنجاز الهائل لاستخدامات (العيب) و(الحرام) في ثقافتنا العربية الإسلامية مدى شاسع لا يمكن الإلمام أو الإحاطة بكل مفرداته التي ابتدأت مع أول دعوة للصلاة أطلقها بلال الحبشي مؤذناً بفجر الإسلام، وحتى يومنا هذا... فقد اختلفت وتنوعت وتعددت طرق إطلاق إحدى المفردتين أو كلتيهما للسيطرة على حالة (التفلّت) التي كانت سائدة قبل ظهور الإسلام، وهو العصر الذي اتفق على تسميته عصر الجاهلية. وليس من شك أن الذاكرة بإمكانها استدعاء كعب بن زهير ثم الحطيئة وسواهما ممن عدا داعيين إلى الكفر أو مختلفين عن النمط السائد، أي أنهما كانا يحملان شيئاً من بذور (المعارضة) الثقافية السياسية، فحُورِبا وعُزِلا حتى ثابا إلى رشدهما... وإذ تطور مفهوما (العيب) و(الحرام) بشكل تدريجي ليأخذا مكاناً بارزاً في الواقع الثقافي والنقدي والاجتماعي فإن تسميتهما تطورت أيضاً ليصير الخوض فوق سقف أحدهما (ممنوعاً) وهنا برزت مفردة (المنع) التي اختصرت تاريخاً كاملاً، لينحصر استخدام (العيب والحرام) في الأوساط الاجتماعية التربوية أي العائلة والمدرسة والمجتمع الضيق، بينما ارتقى مفهوم (الممنوع) ليصير أداة في أيدي (القيّمين) سواء أكانوا رجال سياسة أم رجال دين. وعليه فإنهم طوروا أدواتهم ووسائلهم التي تكفل لهم باستمرار عدم تجاوز حاجز (المنع) الذي يملكون هم فقط أسراره وشيفراته. إذن فنحن الآن أمام مفهوم آخر، ولكنه يحمل في مضامينه ومعانيه معاني ومضامين المفهومين السابقين، لكنه في الوقت نفسه أكثر قسوة وصرامة إذ أن مقترحيه والقائمين عليه رأوا أن يكون (المنع) عقوبة كل من يخوض في (الممنوع)، و(الممنوع) هو باختصار شديد (العيب) و(الحرام) وما شابههما، ورأوا أيضاً أن يكون المشرف المنفذ والأداة لتنفيذ (المنع) وكشفه (رقيباً). *** لنعد بالذاكرة قليلاً إلى الوراء لنستحضر مشهداً سينمائياً جسده نور الشريف في فيلم المصير ليوسف شاهين، وهو الفيلم الذي تناول مرحلة من مراحل حياة المفكر العملاق ابن رشد... المشهد مفصّلاً يروي حادثة حرق كتب ابن رشد على أيدي (الظلاميين) بعد اتهامهم ابن رشد بالزندقة، والزندقة هي واحدة من مسمّيات (الممنوع) فمارس (الظلاميون) دور (الرقيب) وطبّقوا قرار (المنع) بإحراقهم الكتب على مرأى من المؤلّف والناس... وهذا شاهد من آلاف الشواهد التي يمكن استحضارها. (4) محنة العقل العربي التي لا يمكن تلخيصها بسهولة بسبب وجود الكم الهائل من التفاصيل الرقابية تعيدنا إلى الجذر اللغوي الذي استمدت منه كلمتا (الرقيب) و(الممنوع) فكلاهما استمدتا من أحد أسماء الله الحسنى ليكون لهما بالمقابل دوراً زجرياً بالإضافة إلى الدور الذي أريد أن تلعباه أصلاً فالرقيب كما جاء في لسان العرب (في أَسماءِ اللّه تعالى: الرَّقِيبُ: وهو الحافظُ الذي لا يَغيبُ عنه شيءٌ). وكذلك فإن المنع جيء به من (المَنْعُ: أَن تَحُولَ بين الرجل وبين الشيء الذي يريده، وهو خلافُ الإِعْطاءِ....والمانِعُ: من صفات الله تعالى) والشرح أيضاً على ذمة لسان العرب. وعليه فليس من باب المصادفة الإتيان بهاتين المفردتين لتوضعا سلاحاً في أيدي أولي الأمر القيّمين على أمور العباد والبلاد، ولو استطردنا في التفسير قليلاً لرأينا لا فيما يرى النائم ولكن بأمّ أعيننا المبصرة المتبصرة أن سلاح الرقابة أيا تكن الجهة التي تستخدمه فإنها تستمدّ مقصّاتها وسكاكينها من تحالف مقدّسين هما: نظام الحكم والأوصياء على الدين اللذان يكمل أحدهما الآخر بانسجام تامّ ودون أي إخلال وفق شروط متّفق عليها علانيةً أو سراً... فلم يحدث على مرّ التاريخ الرقابي أن اختلفت السلطتان/ المقدّستان في شأن من الشؤون بدءاً بصلب الحلاّج وحرقه وصولاً إلى تحريم وتجريم حيدر حيدر ووليمته.. *** العقل العربي عقل يتكون في بداياته على القمع بسلاح الرقابة ويستمر إلى أن ينضج وهو يمرّ في صراع مستمر مع مرض الخوف من تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعت في طريقه وفي داخله وصارت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته بحيث أنه يمكن أن يتميز بها عن الآخرين، وإلى أن يحين الوقت ويعي تماماً ما المعوقات التي تحدّ من انطلاقه يكون قد أنفق قسطاً وفيراً من العمر وهو يتدرّب على كيفية عدم التجاوز، ثم عليه بعد ذلك أن يأخذ دروساً في كيفية الالتفاف على حزمة النواهي والأوامر التي لم يكن له يدٌ في خلقها أو ابتكارها، وإذا فكّر في تحطيمها والتخلّص منها فقد يكون زنديقاً أو معارضاً. *** في أثناء الكتابة تعتري القلم رجفة... تجعله متوترا مستفزاً فما يريد أن يقوله قد (...) وعند هذه الـ(قد) الهائلة المرعبة يتوقف مصير حامل القلم، فإما أن يمر وإما أن... ويغدو الإبداع لا في قيمة النص فحسب بل في قدرته على الالتفاف، وعلى تمرير رسائل أيا يكن نوعها من تحت إبط الرقيب المتيقظ الذي لا يغيب عنه شيء
#ثائر_زكي_الزعزوع (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كل عقل نبي
-
كلّ عقل نبيّ-3 السيد بوش أم الحاكم بأمر الله
-
كل عقل نبي-2
-
كل عقل نبي-1
-
يا زمان الطائفية
-
جناية المتنبي
-
كفى بك داءً
-
رسالة مفتوحة إلى السيد علي عقلة عرسان:
-
توت...توت....توت
-
في الحديث عن الانسحاب
-
بين -الفيدرالية- و-ماريا-
-
هيكل يحاكم التاريخ! فمن يحاكم هيكل؟
-
أخاف عليك يا أرشاد مانجي
-
تفاؤل..ولكنه حذر
-
فضائيات بفتح التاء
-
ديمقراطيون ولكن بالمجان
-
عندما نبعث نحن الموتى
-
بعيدا من السياسة
-
ما الذي يعنيه أن تكتب في السياسة
-
لماذا التنكيل بسوريا؟
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|