|
في ذكرى رحيل بدر شاكر السياب
وليد الزوكاني
الحوار المتمدن-العدد: 1408 - 2005 / 12 / 23 - 06:51
المحور:
الادب والفن
" أدخل المستشفى بتاريخ 6/7/64 ، حيث كان طريح الفراش يشكو من شلل تام في أطرافه السفلى وضمور شديد في جميع عضلات الجسم وفقدان السيطرة على التغوط مع قرح جلدية عميقة في منطقة الورك كذلك كان يعاني آخر أيامه من اضطرابات نفسية حادة (...) أخبر الطبيب أنه يعتقد أن سبب مرضه هو الظروف القاسية التي مر بها سياسياً ومادياً (..) قضى فترة ما يقارب الستة أشهر في المستشفى الأميري (..) كان المرض يتطور من سيء إلى أسوأ مع كافة مضاعفاته إلى أن وافاه الأجل الساعة 2,50 صباحاً يوم 24/12/64 " ( من تقرير المستشفى الأميري في الكويت )
"ولقد حمل علي السبتي جثمانه وسار به إلى البصرة . كان الجو ممطراً والشوارع مقفرة . وحين وصل بيته لم يجد أحداً . لأن الشرطة كانت قد أخرجت عائلته من البيت في ذلك اليوم نفسه ، (..) لأن عائلة بدر لم تدفع المتأخر من الإيجار ونفقات الكهرباء " علماً أن البيت للدولة – مصلحة الموانئ *
الهوّة عميقة ياصديقي - 1 - قبل 41 عاماً ، حين مات بدر شاكر السياب ، حمل كفنه ، كما يحمل المغتربون غنائم السفر وهداياه ، وعاد إلى بيته . دقّ الباب ، دقَّ ... ثم دق ! لا أحد يخرج للقائه ، لا ضوء يصحو في النافذة ، ... أين ذهبوا ؟؟ كانت إحدى المحاكم العراقية قد أمرت بإخلاء المسكن من أسرته ، وتم إلقاء الزوجة والأطفال في الشارع ، كأشياء عديمة الجدوى . السياب أحسّ ذلك ، وقبل أن يقع الهواء عليه ، أو يصحو أحدٌ ويتصرّف بحماقة ، حمل جثّته واختفى ، لأن دوائر الفضيلة والقانون ، ستعتبر الجثة نفاية ، وربما تأمر البلدية بوضعها في كيس أسود ، وإلقائها في أماكن لا تليق كثيراً بالشعراء .
- 2 - نحن الشعراء الصغار جداً جداً ، الواقفين على هامش البلاغة ، المُختفين تحت النصوص المثيرة ، الصامتين ، مثل الأشياء العابرة في الزمن السريع . كلما أضاءتنا مزقة من قصائد السياب ، أو شظية من ملا محه الهادئة ، انتبهنا إلى ظلِّنا الصغير على الأرض ، كم يبدو محنيَّ الظهر . أبداً ليس من خنوع ، ولو أنه من ذهب وقلائد وأوسمة ، ولا من ذُلٍّ ، ولو أنه سِمَةُ مواطنة وصلاح ، ولا من تواضع ، آخر رذائل السادة التي يتباهون بها أمامنا بكل صفاقة ، بل من وجع ؛ وجع يلازمنا مثل دقات قلوبنا ، نتنفَّسُه مع الهواء ، ونخاف أن يفارقنا ، فنفقد ملامحنا !، منذ زمن بعيد ، صرنا نستمدُّ هويتنا من كمية الرعب التي نرثها ، والتي يؤكدها واقعنا اليومي . أيها الغريب ، كم كانت القدم التي داست ظهرك وكسرته ثقيلة ، آثارها لم تزل على ظهورنا ، لم نزل مكسورين . ألهذا كلما كتب شاعر منا ، سارع بالخروج من الشارع المجاور ، ومن نافذة العائلة . ضوء قادم من النهاية ، صوت نعي مُبهم ، نعي يدخل من ثقب الباب ، لننتبه أنَّنا طوال الوقت ، كنّا خارج الوقت . لم نعُدْ نَسْتشرف أبعد من باب الدار ، من مواقف الباصات ، من غدٍ يتربَّص بنا ... المجد للخبز ، للمحيط ، للخليج ، للطغاة الخالدين ، للطغاة القادمين ، للوطن الذي يتسع يتسع ، يغلق المكان علينا ، للتاريخ الممجد وراءنا ، مثل سجادة تتزخرف بالقهر . والطريق أمامنا كحكاية عجوز ، معروفة جيداً ، وذاوية ، ذاوية لدرجة لا الكلمات تسعفنا ، ولا نغمة الغناء .
- 3 - جئتَ غريباً على الخليج ، ورحلتَ غريباً ، وأطفالُكَ ، كنتُ أسأل نفسي دائماً ، أيَّةُ هاوية تفَتَّحتْ في أعماقهم ، بين أن تركوا البيت وبين وصلْتَهم ميتاً . أوَثِقْتَ أنَّنا سنتقصَّى هذه الفواجع ؟ ، مؤكّدُ لم يخطر في بالِكَ أنّنا لن نقدرَ أبداً ؛ الهُوَّة عميقةُ ياصديقي ، والشعر لن يقدرَ على الصعود !.
- 4 - في ليالي الشتاء الطويلة ، الباردة ، كانت امرأتُكَ تعاتبكَ ، تقسو عليك ، وكنت رحلت صغيراً بعمرٍ قابل لأن يُقْسى عليه ، بجسد لمّا يزل يقوى على عَنَف الحب . وكلّما انفتحتْ أعماقها على برار خائبة كيديكَ ، نادتْكَ : لماذا ذهبت بعيداً يا بدر ، لماذا ...؟ كلما جاء شتاء كنتَ تتركنا ، تذهبُ ، تحْتطِبُ من جسمك الناحلِ ، توقد الشعر لتدفئنا ، وأراكَ ، ترتجفُ حتى آخر جذوة في آخر نفَس . لكن لم يخطر لي أبداً أن تأتي هكذا ، أن تصعد الفُجاءةَ إلى فوَّهات قلوبنا ، أن تطلَّ علينا من سقف لوعتنا ، من موتِكَ الشَّفَّاف . لو كنتَ أرسلتَ شيئاً لانتظرناك أمام الباب ، وذهبنا معاً إلى قرارةِ بُوَيْب**.
- 5 - كنتُ دائماً أحرص علبى حسِّكَ الرَّهيف ، العاشق للموت كجناح فراشة ، ومثل كل الأطفال العنيدين ، تحب أن أنتبه إليكَ ، أن أسَعكَ ، حين تحدِّقُ في الظلام والصمت . إلا هذه المرّةَ ، تعودُ وحدكَ ، تخرج من كفنكَ ، تناديني ، تسأل الحيطان عن وِجْهَتِنَا ، تتجمَّعُ بين يديكَ الصحراء ، تّطْفَحُ علينا ، تهجُرنا للأبد .. ؟. لو كنتَ ارسلتَ لي لأَوْقفتُ المارَّة ، لحفرتُ اسمكَ على الإسفلت ، لأوْقدتُ شعر العالم في قُدَّاس دافئ يليق بك ، لانتزعتُ دِجلة من مائهِ ، وغرستُهُ شاهدة على قبركَ الفسيح ، لهيَّأتُ في زاوية القبر طاولةً ، وكرسيّاً ، والكثير من الحزن والنبيذ وقلت : هات أوراقكَ أيّها الفارس ، آن لكَ أن تترجَّل . --------------------------------------------- * ناجي علوش – ديوان بدر شاكر السياب . دار العودة . بيروت ** نهر في قرية الشاعر . ذكره كثيراً في شعره
#وليد_الزوكاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرب
-
من هو العدو
-
الرّاحلة
المزيد.....
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|