|
أطفال الحصار - للمخرج عامر علوان: ضحايا اليورانيوم المنضّب والأسلحة المحرّمة دولياً-
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1407 - 2005 / 12 / 22 - 11:20
المحور:
الادب والفن
في الأفلام التسجيليلة العراقية، غالباً ما يكتب المخرج السيناريو، ليحقق البنية الموضوعية التي يريد أن يصل إليها في فيلمه. وبالرغم من أن المخرج عامر عامر علوان لا يتدخل كثيراً في طبيعة العدسة، وما تلتقطه من حقائق دامغة لا يتسرّب إليها الشك أو التشويه أو التزوير، إلا إنه يبني في ذهنه بناءً درامياً أرسطياً بحيث يمكن لنا كمشاهدين أن نشعر بالوحدات الثلاث " زمان ومكان وحدث " ولكن ميزته كمخرج مبدع هو أنه يجعل منا " مشاهدين فاعلين " نندمج بالحدث، ونتفاعل معه، ونصنعه في بعض الأحايين، أي أنه لا يميل إلى فكرة المتلقي السلبي الذي يريد أن يعرف السبب والنتيجة، ولا يكلف نفسه عناء التفكير والاستنتاج. ولهذا فإن بنية الفيلم هي بنية تتابعية تبدأ بالصبي العراقي اليتيم، والمريض " سيف "، الذي لا يستطيع أن يؤمّن ثمن الدواء، نادر الوجود أصلاً، وغالي الكلفة، وحينما يجد هذا الصبي فرصة للعمل، ويجمع ثمن الدواء، ويذهب للصيدلية على أمل الحصول على الدواء الذي جلبته منظمات تابعة للأمم المتحدة يكتشف أن الدواء قد نفذ، وليس أمامه من حل سوى أن يفوّض أمره لله سبحانه وتعالى. بين إطار هذه البنية المحبوكة تكمن التفاصيل المروّعة التي يتناوب على سردها عدد من الرواة والساردين، بعضهم منغمس بالهمَّ الفردي أو العائلي مثل الصبي اليتيم، وبعضهم منهمك بالهم الوطني مثل الدكتور باسم الطلال، والبعض الآخر من هو منشغل بالهم العالمي، ومستغرق فيه مثل البروفيسور الألماني غونتر، والصحفية بياتريس. وهناك عدد آخر من الشخصيات التي أطلت هنا وهناك، ولعبت أدواراً محدودة في الكشف عن المحنة الكبيرة التي كان يعاني منها العراقيون خلال سنوات الحرب الظالمة والحصار الجائر. وقبل الدخول في تفاصيل هذا الفيلم التسجيلي القصير " 27 ق " لا بد من الإشارة إلى أن المخرج وكاتب السيناريو عامر علوان كان قد غادر العراق إلى باريس عام 1980 لغرض مواصلة دراسته العليا. وبعد عقدين من الزمان، كان العراق قد خاض الحرب العراقية- الإيرانية، وغزا الكويت، وتعرض بسبب حماقة " قائده " لأبشع عدوان حربي شنته جيوش " 33 " دولة، بعد أن فُرض الحصار الظالم على شعبه، عاد عامر علوان ليبحث عن الصورة الجميلة لوطنه، ومدينته، وحيه الشعبي، شأنه شأن الكثير من العراقيين الذين تخلّوا عن طموحاتهم وأحلامهم وذكرياتهم هناك، وغادروا الوطن مضطرين، مُكرهين، بعد أن سُدَت بوجههم السبل والمنافذ. حينما عاد المخرج رأى رأي العين البنى التحتية المُدَمَرة، والخراب الذي يعّم الوطن من أقصاه إلى أدناه، وكان يتساءل بصوت عالٍ قائلاً " إذا كان بالإمكان ترميم هذه البنى التحتية المقوَّضة والمُنهارة، فهل بالإمكان أن نرمم الإنسان العراقي؟ " ومم نرممه؟ أمنَ الجوع، أم من الأمراض المزمنة الفتاكة، أم من اليأس والقنوط والكوابيس الثقيلة المرعبة؟ وماذا عن الأمراض المميتة، تلك الأمراض التي سببتها الأسحلة الممنوعة والمحرَّمة دولياً مثل الطلقات والقذائف المطلية باليورانيوم المنضّب الذي ثبت استعماله في حرب الخليج الأولى والثانية، وفي حرب الإطاحة بالنظام الشمولي في العراق. وفيما يتعلق بالأمراض الفتاكة والمزمنة فهذا الطفل الأنموذج يعاني من مرض يعيق نموه، وهو يحتاج بالتالي إلى إبرة تسمى " Growth-Hormone " وهي غير متوفرة بسبب الحصار الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق، لذلك فإن نموّه سيظل متعثراً بسبب إنعدام الدواء. ومن النتائج السلبية لهذا المرض فإن الطفل يفكر بين أوان وآخر بالإنتحار نتيجة لتفاقم أوضاعه النفسية، فهو مريض، وشحاذ، ولا أمل له في الحصول على الدواء، كما أن أمه مصابة بأمراض مزمنة في القلب، وأن أباه قد توفى في الحرب التي شنتها أمريكا على العراق. وإذا كان هذا الطفل يمثل الشريحة الاجتماعية المسحوقة في العراق فإن الكاميرا تريد أن ترصد الحقيقة وتوثقها، لذلك فقد ذهب المخرج وكادر التصوير إلى مدرسة أهلية، وتعجب من توفر كل مسلتزمات الحياة المرَفهة حتى أنه وصفهم في تعليقه " بالبراءة المُصانة " لكنه اكتشف بعد مدة قصيرة جداً بأن هؤلاء هم أطفال المسؤولين والدبلوماسيين والناس الأثرياء، ففي زمن الحروب والحصارات، يزداد الأغنياء غنى، ويزداد الفقراء فقراً. فهؤلاء الأطفال المترفون، والمُصانون يجدون ما لذّ وطاب، بينما لا يجد " سيف " اليتيم، والشحاذ الذي ترك المدرسة حتى الحقنة التي تفتح شهيته للطعام، وتعجّل في نموه البدني. ولأن الأفلام التسجيلية تحتاج إلى أرقام وبيانات وحقائق دامغة كي تكون مُقنعة، وتقتل الشك باليقين لدى المُتلقي الذي يشاهد هذا النمط من الأفلام التسجيلية، فقد وفرّها المخرج، وأقنعنا بها. فبحسب إحصائيات الأمم المتحدة لعام 2000 فأن %50 من طلاب المدارس الابتدائية قد تركوا مقاعد الدراسة، وأن أكثر من نصف مليون طفل عراقي قد لقوا حتفهم خلال سنوات الحصار بسبب عدم توفر الغذاء والدواء وتفشي الأمراض الغريبة التي لم يكن للعراق سابق عهد بها، فخلال الحروب الثلاثة التي شنت ضد العراق منذ عام 1991 وحتى الآن فقد أثبتت التقارير والفحوصات المختبرية بأن الجيش الأمريكي قد استعمل أسحلة محرمة دولياً ومن بينها الطلقات والقذائف والصواريخ المطلية باليورانيوم المنضب الذي يسبب أمراضاً مهلكة وتشوهات خطيرة على الإنسان والحيوان والنبات والأرض أيضاً. وهذا ما أكده البروفيسور الألماني سيغوارت غونتر الذي قال بأن الجيوش الأمريكية قد ألقت على العراق والكويت ما زنته " 320 " طن من الأسلحة المطلية باليورانيوم المنضب، وبالتالي فإن الآلاف من أطفال العراق قد تعرضوا للإصابة بالمرض القاتل سرطان الدم أو ما يعرف علمياً باللوكيميا. وكما أكد ألدكتور باسم الطلال فإن الكثير من الأطفال العراقيين قد تعرضوا إلى إصابات مرضية خطيرة كالالتهابات الباطنية، والتشوهات الجنينية، والتهاب الكبد جراء التعرض الإشعاعي، واشار إلى أن العديد من الأطفال قد تعرضوا لهذا الاشعاع نتيجة عبثهم ولعبهم " بالظروف الفارغة للطلقات ". وبحسب العلماء المتخصصين فإن التأثيرات الشعاعية ستبقى لمدة أربعة ملايين سنة! الصحفية والإعلامية بياتريس سلطت الضوء على الصمت الدولي، والمداهنة التي تمارسها بعض الدول المرموقة التي خبأت نبأ إصابة بعض جنودها باليورانيوم المنضب مثل فرنسا التي لزمت الصمت لوقت طويل حتى تجرأ أحد الجنود الفرنسيين وقال بأنه مصاب إصابة خطيرة نتيجة تعرضه لإشعاعات اليورانيوم المنضب! في واحدة من أكبر مستشفيات بغداد ثمة حالات مرضية كبيرة يعاني منها الأطفال العراقيون الذين يحلمون بالعلاج، ولكنهم لا يستطيعون السفر إلى الخارج. وكما تقول الصحفية بياتريس أن الآباء العراقيين يهمسون في آذاننا بصوت خفيض " خذوا أطفالنا معكم، فيمكن أن يجدوا في بلدانكم فرصة للحياة! " وكان جوابها طبعاً " ما الذي يمكن أن نفعله لكل هذه الأعداد الهائلة من المرضى بالمصابين بسرطان الدم وغيره من الأمراض الفتاكة؟ ". وفي نهاية الفيلم لم يجد سيف الدواء الذي جلبته الأمم المتحدة لأنه نفد قبل أن ترمش عينه، وفوض أمره لله سبحانه وتعالى. لا بد من الإشادة بقدرة المصوِّرَين العراقيين حميد مطلك وعبد الرحمن أحمد اللذين أثبتا قدرة إبداعية فائقة في رصد هذه المشاهد المؤثرة التي لا يمكن نسيانها بسهولة، وكأنهما كانا يدرسان مع المخرج كل لقطة على حدة، فثمة لقطات فنية ناجحة هي أقرب إلى المَشاهد والتكوينات التشكيلية المدروسة بعناية فائقة تكاد تتجاوز الثيمة لتجسّد العنصر الجمالي المشترك الذي يمكن أن نراه في الصورة الفوتوغرافية أو التشكيلية واللتين تعدان الأساس الحقيقي للصورة السينمائية. ولا بد من التنويه بقدرة المُمنتج الفرنسي فاليري بريكان الذي شذَّب الفيلم، وجعل إيقاعه متواتراً لا يتسرب إليه الملل. ويمكن القول أيضاً أن هذا الفيلم التسجيلي كان البؤرة التي أسس عليها المخرج عامر علوان فيلمه الروائي الأول " زمان رجل القصب " الذي يناقش ثيمة الحصار، وتأثير الأسلحة الفتاكة على الشعب العراقي، بحيث تموت " نجمة " بسبب مرض غامض وخطير كان سببه تلك الأسلحة المحرمة دولياً والتي جربوها على العراق أول مرة! كما يُعّد فيلمه الأخير " زمان رجل القصب " أنموذجاً للمزج والتلاقح بين تقنيات الفيلم التسجيلي والفيلم الروائي والذي قدّمه ضمن إطار " الواقعية الجديدة " التي ينتمي إليها، ويسعى لتأكيدها في مجمل تجربته الفنية.
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخادمتان- باللغة الهولندية ... العراقي رسول الصغير يخون جان
...
-
خادمات - رسول الصغير: البنية الهذيانية والإيغال في التغريب-
-
استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية/ الروائي جاسم
...
-
في ضيافة الوحش - لطارق صالح الربيعي: سيرة ذاتية بإمتيار يتطا
...
-
الفيلم التسجيلي - مندائيو العراق- لعامر علوان: فلسفة الحياة
...
-
استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي/ الشاعر وديع العبيدي: -
...
-
-استفتاء الأدباء العراقيين من المنافي العالمية /مهدي علي الر
...
-
(استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية / الشاعر كريم
...
-
رسام الكاريكاتير الجنوب أفريقي زابيرو جونثان شابيرو ينال الج
...
-
استفتاء الأدباء العراقيين: زهير كاظم عبّود: إن العراق حاضر ف
...
-
الإرهاب الأسود يغيّب المخرج العالمي مصطفى العقاد الذي روّج أ
...
-
تقنية - الوسائط المتعددة - في مسرحية ( أين ال - هناك -؟ ) تم
...
-
فلاديمير بوتين أول رئيس روسي يزور هولندا بعد ثلاثة قرون: هول
...
-
عزلة البلَّور
-
د. نصر حامد أبو زيد يفوز بجائزة - ابن رشد للفكر الحر - لسنة
...
-
استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية / الشاعر باسم
...
-
استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية: د. حسين الأنص
...
-
الناقد عدنان حسين أحمد ل - الحوار المتمدن -: أنا أول من يخوّ
...
-
المخرج المسرحي المغربي الزيتوني بو سرحان ل - الحوار المتمدن-
...
-
استفتاء الأدباء العراقيين في المنافي العالمية / الشاعر سنان
...
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|