|
فنّ ماني.. وكهف النبوّة
عضيد جواد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 5259 - 2016 / 8 / 19 - 03:48
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تمتع ماني بطبيعة ذات نزعة جمالية ، فقد أحب الرسم والموسيقى التي نسبها أتباعه الى أصل سماوي ، ومع ذلك فقد شغل انجاز ماني في مجال الرسم دوراً بارزاً بالنسبة للأجيال المقبلة ، وكان ماني قد أرسل الكتّاب والرسامين مع مبشريه على حسب تقديره الخاص مما يستلزم من الصور الموضحة لكتاباته ان تكمل تعليم الناس وتوضح الأشارات لهم ، وبذلك تجعل الرسالة اكثر سهولة وأقرب تناولا للفهم . صحيح ما تم التأكيد عليه من ان ماني قد اتبع في مجال التوضيح لرسائله لتقاليد كانت متبعة وتطورت من قبل في الأوساط الغنوصية ، وتزودنا المخطوطات المندائية أحيانا ، كما هي الحال في " ديوان أباثر أو أواثر " برسوم تهدف الى توضيح مشاهد وردت في النصوص ، كما ان الكتابات القبطية من ذات النوع الغنوصي مثل كتب " يهوا " موضحة بالرسوم في بعض الاماكن ايضا . ولسوء الحظ ان المعرفة بالمنمنات الدينية في سوريا وأرمينيا في العصور القديمة ضئيلة جداً، وحينما تصادف ان تجد بعض الكتب المقدسة الموضحة بالرسوم ، نجدها تلتزم بتقاليد فنية تختلف عن تلك التي مثلها في النمط المانوي . ويجب رؤية ماني وفنه قبالة خلفية الحضارة الفرثية التي كانت سائدة في بلاد الرافدين في القرن الثالث بعد الميلاد ، كما ان الرسوم الجدارية في " دورا أوريوس " في سوريا ، وفي القصر الجبلي في " كوهي خواجا " في ايران الشرقية ، تعطي انطباعا مجزوءاً عن وضع اللوحات الجدارية الجصّية المرسومة في العصر الفرثي المعاصر لها ، ولا يوجد دليل مباشر حول المنمنمات ، وهو التقليد الذي يوضع ماني فيه ، بل يمكن استخلاص بعض الأستنتاجات بوساطة الاستدلال فقط ، ومن المؤكد على الأقل ، ان المدرسة الفنية التي انتسب اليها ماني تتطابق تماما مع المدرسة التي يطلق عليها " المدرسة الفرثية ــ القونية " . ولقد تم الى حد ما نشر الادب الهلنستي ، والهلنستي ــ اليهودي في وقته الطبيعي على شكل مخطوطات موضحة بالرسوم مفرطة بالتبذير دائما ، كما صيغت اللوحات الجدارية الجصّية المدهونة نفسها على غرار المنمنمات . وبما ان يهود بلاد الرافدين بأعدادهم الكثيرة وفي حالتهم المزدهرة ، بمكن الافتراض ان المخطوطات المزودة بالرسوم التوضيحية المكلفة كانت كثيرة الأنتشار بينهم ، وبالتالي أقتبس ماني الى درجة معينة ، عادة مضاعفة الكتابات الهامة وخاصة على شكل ملفات مخطوطة وكتب مخرجة بشكل فخم ، وهذه عادة أخذ بها المانويون وسكان بلاد الرافدين الذين أصبحوا هلينستيين ، وليس من المؤكد اذا كان المسيحيون قد اتبعوا نفس الخطى في التاريخ ، اي في بداية القرن الثالث الميلادي .
تشهد جميع المصادر التأريخية الشرقية على صحة خبر أن ماني نفسه كان فناناً محترفاً ، وبقي احد اقواله الذي عنى فيه أنه عدّ تدوينة لتعاليمه بالشكل المفهوم والسهل عن طريق الصور ، ميزة سما بها دينه على الأديان الاخرى ، ونسمعه يقول : ( وأما بالنسبة الى جميع اخواني من الرُسل الذين جاؤوا من قبلي ، فإنهم لم يدونّوا حكمتهم كما دونّت حكمتي ، ولم يرسموا حكمتهم بالصور التي رسمتها ) .. وبالفعل ان ماني هذا المؤسس الديني قد نال البقاء من حيث كونه رساما في التقاليد الفارسية الجديدة ، وهنالك قصة عند المؤرخ " ميرخوند " تتحدث عن كيف أنجز ماني عمله في كتابه ( أردا هانغ ) العظيم ، الموضح بالرسوم ، وتقول القصة : سافر ماني في تلك الايام لمناطق الشرق باستمرار ، ووصل في يوم من الايام الى جبل فيه كهف ، ولم يكن في هذا الكهف تيار ضروري من الهواء فحسب ، بل ونبع ماء أيضا ، كما لم يكن له سوى مدخل واحد أيضاً . أحضر ماني الى الكهف زاداً من المؤن بقدر يكفيه لمدة عام ويزيد ، دون ان يراه أحد ، ثم تكلم مع أتباعه بشكل مقنع بهذه العبارات : " سأحمل نفسي الى السماء ، وسيدوم مكوثي في القصور السماوية لمدة عام كامل ، وسأعود من السماء الى الأرض عند انتهاء الشهر الثاني عشر ، وسأجلب لكم البشائر من الرب " ، ثم تابع توجيه خطابه للناس قائلاً: " ترقبوني بدقة وعناية في بداية العام القادم ، وفي هذا المكان على مقربة من هذا الكهف " . وتوارى بالابتعاد عنهم بعد اختتامه لهذه الموعظة ، وصعد الى الكهف ، وبقي يعمل هنالك لمدة عام كامل بالرسم ، ورسم مجموعة من الأعمال الفنية الرائعة بالغة الدقة والأبداع على أحد الألواح ، ودعا هذه الاعمال بأسم " أردا هانغ ماني " . وبعد مرور عام ، أظهر ماني نفسه للناس من جديد في جوار الكهف ، وكان يحمل بيده اللوح الملّون برسوم رائعة والمزين بأشكال متعددة ، وقال جميع من شاهد هذا اللوح : " رأت الدنيا آلافاً من الصور أكبر من هذه ، لكن لم يظهر مثل هذه اللوحة بيننا حتى الان " . قالوا هذا وقد وقفوا لايحيرون حراكاً لدهشتهم أمام اللوح ، وهنا أعلن ماني لهم قائلا : ( احضرت هذا اللوح من السماء معي حتى يكون بمثابة معجزتي النبوية ، وبناء عليه ، عليكم الألتزام بالعقيدة نصّاَ وروحاً... ) .
ويعزو مصدر من المصادر الشرقية ، وهو نص تركي ، صورا جدارية جصّية الى ماني ، حيث يروي وجود معبد في ذلك المكان في " سيغل " ، زخرفت جدرانه بالصور من قبل ماني نفسه . هذا وقد تنافس عدد من المفكرين الشرقيين بعضهم مع بعض في التغني بمدائح ماني كرسّام وفنان ، فلقد وصفه " ابو المعالي " في كتاب له عن الملل والنحل بقوله : " كان هذا الرجل معلماً في فن الرسم ... حتى ليحكى أنه رسم صورة على قطعة من الحرير الأبيض ، بحيث لم يبق عليها أثر ظاهر للصورة عندما سحبت خيوط القطعة واحداً بعد آخر " . وروى " ميرخوند " ( في تأريخ الساسانيين ) : " ان ماني كان رسّاماً لانظير له ، حتى انه تمكن ، كما قيل ، من ان يرسم دائرة قطرها خمسة أذرع ، ولدى تفحص هذه الدائرة لم يلاحظ وجود أي شذوذ أو أنحراف في الأجزاء المستقلة من محيطها " .
بعد الربط الوثيق بين النص المكتوب والتوضيح المرسوم ، أمرا نموذجيا يدل على التقديم الدقيق الذي اعطاه المانويون لكتبهم ، وبالنسبة للتنقيط غالبا ما استخدموا نقاطا سوداء محاطة بأشكال بيضوية قرمزية ، وبزهور متعددة الالوان هي وعلى العموم جميلة جدا ، ويمكن الكشف على المخطوطة بنظرة واحدة اليها ، وذلك بالاستناد الى علامات التنقيط هذه . وجرت كتابة الاحرف الاولى بشكل اكبر ، وتم منحها شكلا فنيا بصورة خاصة ، حيث احتويت ضمن مجموعة من الأوراق والأزهار وأوراق النباتات ، وواصل المانويون إتباع هذا التقليد الخطي الممزوج بالابداع الفني حسب هذه الطريقة التي اصبح الشرق مشهورا جدا بها ، وما الزخرفة الفنية الاسلامية الا وهي نموذجا متطورا من الخط والفن المانوي الجميل ...
#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التنجيم المانوي.. والأبراج
-
الايمان بالآخرة والجنة الموعودة في العقيدة المانوية
-
عيد الوليمة المقدسة والعشاء الربّاني في المانوية
-
التعميد عند المانويين
-
التنظيم اللاهوتي والعقيدة المانوية ( الحلال والحرام )
-
ترتيلة الروح (اللؤلؤة ) الرافدينية
-
أمراء الكورد البوتانيين في طور عبدين
-
الآراميون والوطن الأم ( الرّها )
-
ملحمة نيوما ايليش البابلية ( اسطورة الخلق )
-
كنيسة القيامة.. خربت ثم قامت
-
عراقيون منسيّون .. الأقليّة السوداء في العراق
-
الطب الإغريقي وأثره عند المسلمين العرب
-
الثورة العراقية 1958 برؤية برفيسور أمريكي
-
أحكام الإعدام للمرأة الايرانية في الجمهورية الإسلامية
-
المرأة الايرانية ..بين عنف الدولة وعنف المنزل
-
المرأة الايرانية..عقل نيّر، وحق مهضوم
-
نبوخذنصر.. لم يكن مجنونا !
-
الرؤية الفلسفية لكلكامش
-
ممالك الأخلامو الآراميين
-
موطن السومريين في بلاد مابين النهرين
المزيد.....
-
ترامب يهدد بفرض رسوم جمركية.. كيف يؤثر ذلك على المستهلك؟
-
تيم حسن بمسلسل -تحت سابع أرض- في رمضان
-
السيسي يهنئ أحمد الشرع على توليه رئاسة سوريا.. ماذا قال؟
-
-الثوب والغترة أو الشماغ-.. إلزام طلاب المدارس الثانوية السع
...
-
تظاهرات شعبية قبالة معبر رفح المصري
-
اختراق خطير تكشفه -واتساب-: برنامج قرصنة إسرائيلي استهدف هوا
...
-
البرلمان الألماني يرفض قانون الهجرة وسط جدلٍ سياسيٍ حاد
-
الرئيس المصري: نهنئ أحمد الشرع لتوليه رئاسة سوريا خلال الم
...
-
إسرائيل.. تخلي حماس عن السلاح أو الحرب
-
زكريا الزبيدي يتحدث لـRT عن ظروف اعتقاله
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|