|
قصة قصيرة/ هكذا تكلم النمر
عادل كامل
الحوار المتمدن-العدد: 5257 - 2016 / 8 / 17 - 12:17
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة
هكذا تكلم النمر
[لكن ماذا افعل غير أن افترس أشلاء الحالمين، كي لا احلم!]
عادل كامل ـ أعرف انك، في يوم ما، كنت نائبا ًلفخامته...، ثم عزلت، ولا أقول طردت من السلطة...، فلا أنت فكرت بالعودة لها، واستعادتها، ولا أنت غبت ومحوت ما خلفته من صخب ولغط و...، مفضلا ً الصمت، والتندر، وكأن شيئا ً لم يحدث! نظر النمر إلى الأرنب بلا مبالاة، ولم يرد عليها، مع انه كثيرا ً ما وجد في أحاديثها ما يشبه قضاء الوقت، والتسلية، وهي لا تجهل ذلك، لأنها طالما كانت تكرر بان الغباء لا يكمن في عقولهم، بل في أكثر العقول تميزا ً بالعبقرية، وان أكثر الأذكياء وحدهم يبذلون جهودا ً خرافية في حماية الأغبياء، وديمومة أمجادهم..! تراجعت خطوة إلى الوراء، لأنها فكرت ان تذهب مباشرة لمقابلة السبع، في قفصه، لتخبره بما سمعت، عبر فضائية الحديقة، مع انتشار إشعاعات متباينة، ومختلفة، خاصة بما يحاك حول المصائر! ولكنها أدركت انه لن يصغي لها، ولن يمنحها فرصة للعبث بمشاعره، بعد ان أدمن على النوم، أو كما اعترف لها ذات مرة، بان النوم هو الذي غدا المفتاح والقفل، فلا معنى من قلب الحقائق، وتزويرها، أو التمويه على الرأي العام، وكتابة التاريخ بالمقلوب. رفع النمر رأسه قليلا ً لمنعها من الابتعاد، بالأحرى، للحفاظ على وجودها، محاورة له، ناقلة للتصريحات النارية، الاستفزازية، أسوة بمثيلاتها العاطلات عن العمل، لا شغل لديهن سوى التحريف، التحريض، إثارة الفتن، والتهويل، بقصد البلبلة، أو التسلية...! فأدركت انه فكر بما دار برأسها، مصغيا ً إلى صوتها النائي، مع إنها لم تفتح فمها بعد ان حدجها بنظرات ذات مغزى. اقتربت خطوة، ولامست المشبك الحديدي، ونجحت في جذب انتباهه، لتخبره بما جعلها تزداد ارتباكا ً، لكنه أذن لها، بحركة من إذنيه، بالإيجاز، موضحا ً لها ان أهمية الوقت، ليس في استثماره، أو في هدره، بل في منحه معناه الذي مكث ملغزا ً حتى عليه. فضحك النمر بفم مغلق. لأنها لم تفكر بالعثور على كلمات سلسة، أو جذابة، بل كي لا تبدو ـ كما دار بخلده، إنها ناقلة للأخبار، وللتلاعب بالزمن، ومداعبة المجهول، فاعترضت: ـ بل أنا لا أتوخى إلا تحليل المعلومات ... والتحذير! فاخبرها إنها أضاعت عليه اعز اللحظات التي ود لو كان فيها وحيدا ً، أو غارقا ً في النوم، بدل منح الخبر صياغة مشوشة، تذهب ابعد من موقعها في السياق! تشنجت وقالت: ـ جاء في التقرير، يا سيدي الموقر، ان الجرذ الواحد، يستطيع ان ينجب، خلال تسعة أشهر، مليون جرذ! ولو افترضنا ان هناك ألف جرذ، فكم سيكون العدد، بعد ربع قرن...؟! نهض منتفضا ً، ودار دورة كاملة حول جسده، ثم اقترب منها، وقال: ـ أكملي...، فلا جديد في هذا التقرير! صدمت، فقد أحبطها الرد: ـ يبدو إنني أخطأت وأخفقت في نقل الخبر.... فسألها بصوت متردد: ـ ما المقصود من إثارة هذا الموضوع...؟ ـ آ .....، أنت تبحث عن العلة، أو الجدوى، أو الحصيلة...؟ ضحك، وكاد يعترف لها بما لم يبح به لأحد، لكنه تريث، وانتظر معرفة ما تخفيه: ـ لا اخفي شيئا ً...، لأن كلماتي لا تتستر على نوايا شريرة، فانا لست جرذا ً، ولا انتمي إلى فصيل الثعالب! لم يعترض، فقد استعاد أحداث السنوات التي اشرف فيها على الحديقة....، مستعينا ً بذاكرة لم تخمد بعد: ـ فالمشكلة إذا ً تكمن في عدم التوازن...، أي، سيدي، في نمو فصيل على حسلب فصيل آخر، ومنها الجرذان...؟ فأنت اعرف مني بالرد على سؤال: لماذا لا يحدث العكس؟ ـ وما شأني أنا بهذا...؟ اقتربت، ولامست المشبك الحديدي البارد، بأنفها المدبب: ـ ربما لأنك تمتلك قدرات تنفيذية لا امتلكها أنا. ضحك: ـ اتسخرين مني وأنت تشيرين إلى حجم جسدي المترهل...؟ ـ لم آت ـ سيدي ـ للمناورة، أو للخداع، أو حتى للتمويه...، ولا لقضاء الوقت، بل جئت أحذرك، وأنبهك! ـ اقتربي...، لطفا ً، فعلي ّ ان أعود إلى مغارتي للنوم. ـ حسنا ً، أنا سمعت المستشارة تتحدث عن الأمر..، وتقول: ان وضع الولادات مرهون بالجذر الأول! ـ آ ...، بالذرة الخالقة للبذرة! ـ أحسنت...، ففي السياق العام، لا اختلاف في البرمجة...، لأن العوامل هي ذاتها تنسحب على نتائجها. ـ أين الخلل...؟ ـ هذا الإفراط في نمو هذا الجنس الفاسد...؟ صدم، فرفع رأسه، وسألها: ـ أأنت مرسلة من السماء أيضا ً...؟ ـ لا، لا، لا، لا علاقة للسماء بهذا الأمر، ولا بسواه! ـ من ...إذا ً ...أرسلك، في هذا الصباح البارد...؟ شرد ذهنها. فراحت تبحث عن رد، مع نفسها، لم تعثر عليه، إلا وقد استعادت قواها في مواصلة الحوار: ـ ربما لأنه لم يعد لدي ّ إلا ان أموت! ـ وما علاقة هذا بموضوعك؟ ردت بصوت واهن: ـ تعرف ان جنسنا يتعرض لحملات إبادة تكاد تمحونا من الوجود، فباستثناء المحميات، لم يبق لنا ملاذ يذكر! ـ فهمت: الجرذان أصبحت تشكل خطرا ً على الحياة...، وفي الوقت نفسه تتعرض الطيور والأسماك والنبات إلى ... الإهمال؟ ـ بل ...قصدت .. البشر، سيدي! ـ أووووه، هذه هي مشكلة الأغبياء الكبار! ـ ماذا قلت؟ ـ قلت: ان اشد الناس ذكاء ً لا يهدرون أزمنتهم إلا في ديمومة عصور الغباء. ـ عصور الأغبياء، سيدي، تكاد تنبثق من العدم، أو تهبط من السماء! فأنت تعرف ان الغباء سابق في وجوده علينا! ـ لم أقصدك أنت أبدا ً! أيها البلبل غرد؟ ـ آ ....، لا مجال للتأويل، فانا واضحة في كلامي، فلقد قلت لسيادتكم ان السيدة المستشارة اخترعت عقارا ً يضع حدا ً لنمو البذرة! ـ تقصدين، بالمعنى المباشر: تعقيمها! ـ أحسنت! وشرحت له: ـ فالزيادة المحتملة للجرذان، من واحد إلى 15 مليون، ستحافظ على نسق السلسة! أي لا ينجب الجرذ إلا جرذا ً واحدا ً؟ ـ والأمر ينطبق على الأسماك، والحشرات، والطيور، وباقي الأنواع...؟ ـ بالتحديد...، ولكن .. مر غزال سمع أطراف الحديث، فتوقف مصغيا ً. لم يتدخل. فعادت الأرنب تتكلم: ـ ولكن القضية مازالت محدودة، فكبير الجرذان تسلم منصبا ً رفيعا ً ولم يعد يمثل إلا نفسه...، كما ان كبير الحمير ارتد، مثله مثل الغراب، والبوم، والسبع! ـ أسس...، لا تمس سيد غابتنا بكلمة سوء. ـ بالعكس، لا تظن إنني هوجاء، أو مهرجة، ولكن انقراض آلاف الصنوف يمهد لنهاية مؤكدة... تراجع خطوات إلى الوراء. فالنمر كان، هو الآخر، وحيدا ً. كان يعيش عزلته معاقبا ً، فقد تم استبعاده من السيرك، ومن الجولات الحرة، مما سمح له بفرصة للمراجعة، والتأمل. اقترب النمر من الأرنب وقال بطلاقة: ـ مع ان هذه المعضلة شغلتني كثيرا ً...، إلا إنها لم تعد معضلة، فانا لست مسؤولا ً عن التوازن، ولا عن القوانين السابقة في وجودها على وجودنا! ـ سيدي...، انه الاجتثاث! ـ ليكن...، فأين ذهبت الديناصورات؟ كادت تتراجع خائبة، لكنه سألها: ـ انظري إلى هذا الغزال.. وتأوه النمر: ـ أأنت ذكر أم أنثى؟ رد الغزال بفزع: ـ لا اعرف...! فقالت الأرنب وهي تحدق في عينيه: ـ مختلط! فأنت تعرف، سيدي، انه لم يولد في البرية! أليس كذلك...؟ رد الغزال: ـ لم يخطر ببالي هذا السؤال. فانا الآن غير مقيدة! قال النمر للأرنب: ـ ماكنة! ربوت! هذا هو نسل الحواسيب الجديدة! صاحت الأرنب: ـ هذا جيد...، لكن الجرذان لم تنقرض، ولا البعوض، ولا البرغوث، ولا القمل، ولا باقي الحشرات والديدان والجراثيم الضارة؟ ـ كالإنسان؟ ـ لا ..، سيدي. وهمست بالذبذبات، فأدرك إنها تشير إلى قرارات لا تتلاعب بزيادة السكان، ورفعت صوتها: ـ فأنت تتذكر ان المخلوقات الحية تتضاعف رياضيا ً....، أي ان 2+2 = 4 ...، وان 4+4 = 8...، وان 8+8 = 16...الخ، أما الإنتاج الموازي لهذه المعادلة فيحافظ على مضاعفاته الحسابية مما شكل حقبة طويلة زاخرة بالتصادمات والعنف والإبادات! ـ آ ... وسألها: ـ أأنت متأكدة من سلامة عقلك؟ ـ أنا ولدت في الحفرة، من سلالة لا غبار عليها، ولم تتعرض جيناتنا للتعديلات ! ـ إذا ً فأنت خارجة على القانون! ـ لا، لا تتخبط أيها النائب؟ ـ بل هذه هي الحقيقة! ـ ما ...هي ....هذه الحقيقة؟ ـ إننا ماكينات تؤدي عملها بنظام لا علاقة له بنا...، لا بمشاعرنا ولا بأحلامنا ولا بعقولنا! ـ سيدي، هذا ما صرحت به السيدة المستشارة أيضا ً؟ ـ وماذا قالت؟ ـ قالت ان اللعبة تجري بدوافعها لتحقيق كل ما هو ابعد من محاولات السيطرة عليها! ـ أنا قلت كلاما ً آخر. ـ الم تتحدث عنا بوصفنا آلات...، أدوات، تمهيدا ً لزمن تزول فيه رواسب الهمجية، ودوافعها الشريرة، وننتقل من عصور الزوابع والبراكين والزلازل إلى العصر الناعم، الشفاف...؟ هز رأسه: ـ لم اقل هذا أيضا ً...، بل قلت انه صراع أدوات ...، لا تنتصر السكين العمياء على العقل ذاتي الذكاء، أليس دماغك آلة كونية لا احد يعرف كيف نشأت وما الغاية منها وما هو مصيرها؟ ـ سيدتنا المستشارة قالت انه آن أوان استخدام العقار الجديد. ـ ضد الجرذان، البعوض، البرغوث، والحشرات الضارة؟ ـ لا ...، بل قالت ضد العقول الضارة، وقصدت: العقول الذكية! ـ لا، لا اصدق ان لديها قدرات استثنائية للبت بمصائر هذا الاختلاف بين الدب والقملة، ولا بين النسر والضفدعة، ولا بين التمساح والنملة...، فالمشكلة لا تحل بمثل هذه الدعوات.... ـ بل قالت ان العقار الجديد، سيسهم بنمو المعدلات الإجمالية للطاقات الكامنة في الخامات...، فبدل استخدام 15 مليون جرذ في الحد من زيادة الجراد والآفات الزراعية سيتم إنتاج آلات بديلة تعمل على تحويل العناصر إلى تنوع غير محدود للطاقات. فكر النمر بصوت خفيض: ـ لا معنى لإنتاج مليار كائن سيشكل عبئا ً على الموارد...، فإنتاج أجهزة ذكية تحول العناصر إلى أجهزة ذكية تحول العناصر إلى موارد سيحدث التوازن إذا ً...؟ اختفت الغزال. ليقترب بعير كان يتنزه مع فيل. قالت الأرنب للنمر: ـ سيادتكم اعلم بان الموارد لا تنضب ...، ولكن استهلاكها العشوائي أدى إلى اختلال في التوازن...، وما صرحت به المستشارة الحكيمة، لا يعني اجتثاث الصنوف الأقل فائدة، بل الحد منها. ـ آ ....، طالما كان هذا هو مصدر إرباك لعقلي..، فالكائنات عديمة النفع تتزايد، كالجرذان، والقمل، والبرغوث ...، لتحد من التطور. قال البعير: ـ أنا نفسي قلت ذلك....، ما هي فائدة الجراد، أو بنات أوى، أو حتى القطط...، وقد أيدت المشروع. أجاب الفيل مؤيدا ً: ـ وجود عدد مناسب من الفيلة ومن الجرذان ومن البلابل سيسهم بالحفاظ على التوازن، ولن يحدث إرباك للخلود! صاحت الأرنب: ـ لكن المشكلة، يا سادة، ان الخلل يكمن في التوازن نفسه! فإبادة نوع برمته لم يؤد إلا لوجود نوع آخر أكثر إثارة للقلق والمشاكل.... اللا منظورة. سألها النمر: ـ تقصدين زيادة المخلوقات غير المتوقعة أو المستحدثة الخارجة عن ـ وعلى ـ هذا البرنامج؟ ـ بالضبط...، لأن الخطر... صاح النمر: ـ عن أي خطر تتحدثين؟ ـ خطر إنتاج مخلوقات تدمر بعضها البعض الآخر...، كما ساد عبر العصور الهوجاء، سيدي! فتارة الأبيض يفترس البنفسجي، والطويل ينتهك حرمات النحيل، والفصيح يمحو الأكثر فصاحة، والثري يسحق المعدم، والبليد يتحكم بمصائر النابهين ... ـ وهل جرى تعديل على الأصل؟ هذا هو السؤال الذي يوازيه: هل ثمة قطيعة مع الجذر؟ وأرسل نظره إلى الأشجار: ـ اذهبي واسألي الغراب، اسألي الهدهد، اسألي الأفعى، اسألي البوم.... ـ لم ْ افهم..؟ ـ الم اقل لك إنني حريص على ساعات نومي...، وها أنت افسد على ّ أحلامي أيضا ً. ـ أنا أم هذا العقار الذي سيصيبك أنت يا سيدي قبل سواك، فماذا لو غابت النمور من هذا الكوكب الفضي؟ ـ يصيبنا؟ ـ نعم..، فأنت لن تجد حتى ما تسد به قوت يومك...، سوى ذرات ماء تحولت إلى غذاء كوني! ـ ليكن...، بدل ان اضطر إلى افتراس غزال أو حتى ...لو...، أصابني الجوع، لقتل فيل، أو التهام شجرة؟ صاح الفيل غاضبا ً: ـ اخرس، فانا سأمسحك بالأرض! فقالت الأرنب: ـ حذار...، لم نأت للعراك..، ثم ان كبير الجرذان يقترب. اقترب كبير الجرذان، مع حرسه الخاص، وسأل الأرنب: ـ من آذاك، أرى محياك شاحبا ً؟ ـ لا احد ...، سيدي. فقال البعير ضاحكا ً: ـ كنا بصدد شرح فلسفة التوازن، والاعتراف بالحقوق بوصفها استثمارات .. هز الفيل خرطومه: ـ مع إنني أتمتع بحقوقي كاملة، إلا انه يتوجب العمل بجهد مضن وكبير للعبور إلى العصور الناعمة القائمة على التوازنات ... قال كبير الجرذان: ـ ماذا تفعلان هنا؟ ـ ها أنت ترى إننا لا نفعل شيئا ً خارج حدود هذا الجناح...، فانا كنت أتنزه، فرأيت البعير مصادفة، وسألته: هل ستشارك في المهرجان ..، فأكد انه من المؤيدين لكل مشروع يضع حدا ً للبعوض، والبرغوث.. أمرهما بالابتعاد...، وقال للأرنب: ـ الم نطلب منك عدم إثارة عواطف شيخنا النمر؟ هز النمر رأسه بهدوء: ـ لا تغضب ..، فما جرى هو بمثابة حلم مر سريعا ً، ككل الأحلام..، وأنا سأعود إلى ركني، كأنني لم أفق، ولم أر شيئا ً مكدرا ً، أو صور بغيضة، أو كلمات رمادية...، لأنه لم يبق لدي ّ ما اغضب عليه! ضحك كبير الجرذان: ـ لا تناور ...، فانا وأنت، منذ أول الدهر، لا نجهل أسرار اللعبة، المخفي منها والمعلن! فقال النمر للأرنب، بعد ان غادر كبير الجرذان: ـ الم أخبرك بان القضاء على الأشرار، الفاسدين، الحمقى، شبيه بخدعة وجود حديقة فاضلة! لأن الأشباح، هي الأخرى، تعدل جيناتها بذكاء يتفوق على غباء الأذكياء، بل وعلى مهارات الأغبياء الذكية! ابتعدت الأرنب قليلا ً، ثم تذكرت، فاقتربت: ـ كلما فكرت بالعدل، والعدالة...، اذهب إلى متحفنا، وأحدق طويلا ً في المنقرضات، وكلما احزن، اذهب واقف عند المحرقة، أر لهبها يتوهج وهي سعيدة تنادي: أما من زيادة! فاهرب إلى جناح الرماد، حيث لا اسمع إلا صمت موتانا يرتل بالشكر والامتنان. فأعود مسرعة إلى حفرتي، واخلد إلى الصمت، فيتسلل إلي ّ بهدوء ناعم، رقيق، ولا يدعني حتى أتذكر إنني، في يوم من الأيام، رأيت كابوسا ً كهذا..؟ فقال النمر متوثبا ً: ـ الآن أخبرك لماذا سمحت لك بهذا الاستفزاز ..؟ ـ لم انو استفزازك أبدا ً...، أو حتى إثارتك، أو إرباك نظام نومك وسلسلة أحلامك، ولكني لم أجد من اخبره بما راح يوخز ضميري، سواك! ـ إذا ً لابد من الاعتراف لك...، فما أقلقك، لم يعد يعني شيئا ً...، ففي عصرنا، لم نكن نعمل على محوكم، فقد كان للجميع دوره في المعمورة...، لا زيادة ولا نقصان إلا بحسب النظام الذي لم يخترعه أحدا ً منا، فكانت الحدود ترسم وفق هذا القانون...، فالحدود ترسم بالبول، غالبا ً، وليس بالدم، إلا نادرا ً، ثم جرى الاجتثاث الأعظم، بعد الطوفان، فتم استبدال السجناء، والأسرى، بآخرين. فصار العبيد سادة، والسادة، كالديناصورات والمماثوات والزواحف المتوحشة، ذكرى أزمنة عفى عليها الزمن. لكن الدورة لم تنته، لأنها مازالت لم تبدأ ! فهي تدور، تارة يغدو الذئب سيدا ً، فتنحني له الغزلان والثيران والجاموس والبعران ، وتارة يصير البعوض سيدا ً، فيصول ويجول، منفذا ً خططه من غير رحمة، ثم تبلغ نهايته، فيزول الجراد، وتزول الأفاعي، لتأتي أزمنة البلابل...، وجيزة، خاطفة، ثم يستولي أخس الأنذال دناءة على الغابات، والبحار، والوديان...، فتزدهر العشوائية، وتسود أزمنة الخراب، وما ان تهرم، حتى تهلك، ليتم الاستبدال، فتكسر القيود، وتهدم الأقفاص، ويطلق سراح الموتى...، من اجل استقبال وافدين جدد..، الأعلى يغدو تحت، ومن كان في القاع يعمل على هدم بوابات السماء. فهل الثعلب مسؤول عن مكره، أم مكره صنع منه قائدا ً، مغوارا ً، شهما ً..؟ وهل اجتثاث الجرذان أكثر أو اقل رحمة من اختراع حروب يذهب ضحيتها ملايين الصغار والأبرياء...؟ هل تدمير التوازن يحصل من غير توازن... أم انه يذهب ابعد من كل التوازنات...؟ فماذا يعني ان كان المدير سمكة، أو فأرا ً، أو قنفذا ً، أم كان غزالا ً، أو ماكنة تم استحداثها بأرقى وسائل الاختراع.....؟ فهل تدرك إننا اقل أو أكثر من ذرات قذفت من مجرة وراحت تسبح في هذا الفضاء اللا محدود...؟ وسكت. ـ تعبت؟ ـ لا...، فانا لم يبق لدي ّ من العمر إلا ان أغلق هذا البوق...، لكن أحيانا ً تأخذني أحلامي إلى حيث لا أريد...! ـ العالم حلم...؟ ـ وما هو ذنبي ان اذهب حيث لا أريد...، واختار الذي علي ّ أن لا اختاره...، وان امشي في الدرب الوحيد الذي لا أريد ان امشي فيه...، فكم وددت ان لا أرى أحلاما ً إلا بحدودي...، ان لا اعتدي على احد، شرط ان لا يتم الاعتداء علي ّ...؟ فهذا قد يجعل التوازن مقبولا ً! فانا لم تعد لدي ّ قدرة أو قوة للبحث عن غذائي...، فقد أصبحت انتظر أشلاء مخلوقات كانت تحلم مثلي، ان لا تعتدي على احد...، بدل ان نستعين بوجود العناصر المستحدثة غذاء ً لديمومتنا! لكن ماذا افعل غير ان افترس أشلاء الحالمين، كي لا احلم! ـ عندما كنت نائبا ً، مكبلا ً بالمسؤولية...، مع فخامة الزعيم، أسدنا، أكنت فكرت بأحلام هؤلاء الذين كانت لديهم أحلاما ً بحدود مغاراتهم...، وحقولهم، ومستنقعاتهم...؟ أم ان هذا القفص تحول إلى مدرسة تتعلم فيها ما لا ينفع من مواعظ، ونصائح...؟ ضحك النمر: ـ وما الفائدة من المعرفة...، سيدتي، عندما تولد داخل هذه الأقفاص ولا تزدهر إلا فيها...؟ ما نفعها، عندما توجه إلى مخلوقات لم تغادرها...؟ ـ كأنك تتحدث عن لا حدود أحلامك؟ ـ لا، يا سيدتي، فأحلامنا، مثل مرور هذه الريح، في هذا اليوم البارد، لا تترك إلا محوها! ـ دخلنا في المحرمات؟ ـ سيدتي، حتى لو تم اجتثاث هذه المحرمات، بكل صنوفها، وأنواعها، فان الذي نجهله، الكامن في هذه البذرة التي كونتنا، السابق على وجود زمنها نفسه، ومعه، والذاهبة ابعد من كل زمن، تبقى تعمل عمل التوازن الذي يدمر كل التوازنات! فلا أنا مذنب إلا بحدود براءة هذا الماكر، زعيمنا، ولا زعيمنا مذنب، إلا بما في أحلامي من مستحيلات. فمن المذنب ومن الملاك...، أم ان التوازن، إن حدث، فلا يحدث إلا بالشروط نفسها، فمن في هذا القفص لا يعمل إلا للتحرر منه على حساب الآخر، لا استكمال الدورة، كأنها لعبة أعلى وأسفل، لعبة بعيد وقريب، وحل ونار، لعبة موت وولادة، ظلام ونور...؟ ـ كأنك ...الآن....، لم تعد تعترض حتى على الظلم، بل وكأنك غير مكترث لغياب الرحمة...؟ ـ بل، أحيانا ً، أجد نفسي أصم أعمى اخرس إزاء الظالمين! ـ أحيانا ً؟ ـ دعيني أبوح لك بالسر، مادام الحلم هو الذي يتحكم بالحالمين، انه لا احد بإمكانه ان يذهب ابعد من قيوده! فحتى أخس المخلوقات نتانة لا تقدر ان تسرف في النذالة! ـ لم افهم؟ ـ لا معنى للتأويل...، أيتها المولعة بتعذيب نفسها، فان لم تجدي أحدا ً تنحنين له تبجيلا ً...، ستبحثين عن آخر تصنعين منه ضحية؟ ـ انك تعاقبني، وأنا بريئة؟ ـ اجل، لولا براءتك، أكنت ذقت هذه المرارات...؟ فماذا لو كنت تؤدين دور النمر، أو تمتلكين غدر الذئب، أو مكر الثعلب، أو سم الأفعى، أو خسة الضباع، أو طبائع التماسيح والدببة والعقارب....؟ ـ أين ذهبت...؟ ـ لم اذهب ابعد من حدود هذا القفص! وأنت ِ لم تذهبي ابعد من أحلام براءتك الضائعة، ففي كل منا الطبائع ذاتها التي تعمل مستشارتك على تعديلها...، تجتث الأقل صلاحية، ليزدهر الأكثر نفعا ً لفصيل على حساب الآخر! ومن يعلم، فبعد انقراضنا، وزوال هذه الحديقة، من يتحكم برفاتنا، بأصواتنا، رمادنا، أصداءنا، وكل ما تبقى من محونا...، أم سيعمل على استحداث تسليات اقل أو أكثر توازنا ً، خارج حدود الأصوات، وخارج عمل الكلمات، بل وخارج طاقات الصمت، والظلمات....؟ حيث أحلامنا تكون كأنها لم تكن سوى فجوات خالصة، يتم الاستغناء عنها، وعن أحلامنا، من اجل اضاءات لا تحدها الظلمات بحدود، كي تعمل عمل أوهامنا، زوالها وحده اعد لها، قبل ان تسكن راسك، وقبل ان تسكن رأس نمر أربكته أحلام الموتى، وأحلام من هم بانتظار الموت؟ 17/8/2016 [email protected]
#عادل_كامل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة/ ممرات الزمن
-
اله المواشي وقصص اخرى
-
قصة قصيرة/ الماء والوحل
-
قصة قصيرة/ هذه هي الخلاصة يا سيدي!
-
تماثيل وقصص قصيرة اخرى
-
انتصار وقصص قصيرة اخرى
-
لغم وقصص قصيرة اخرى
-
قصة قصيرة/ مياه زرقاء
-
جفاف وقصص قصيرة اخرى
-
فئران وقصص قصيرة اخرى
-
قصة قصيرة/ حكاية فيل شارد الذهن
-
في النحت العراقي الحديث/ خالد عزت
-
قصص ليست قصيرة جدا ً
-
قصة قصيرة/ الذئب فائضا ً
-
قصة قصيرة/ الحمامة رأت
-
مساحات وقصص قصيرة اخرى
-
في النحت العراقي الحديث/ يحيى جواد/ تدشينات صاغت حداثتها
-
زوال وقصص قصيرة اخرى
-
المجد للفأس/ لمحات من تاريخ العبودية في بلاد ما بين النهرين
-
صرخة وقصص قصيرة اخرى
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|