|
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثالث عشر
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 5252 - 2016 / 8 / 12 - 17:39
المحور:
الادب والفن
أعلم عبد السلام ضوء الليل باللقاء المنتظر مع كمال الدرزي في "الحمرا". - في الأمر ما يشتبه به، قال ضوء. - ما يشتبه به؟ - في الأمر خدعة. - خدعة! - اترك رجالي يقتلونه، حليف الشيطان هذا! - ليس قبل أن نستعيد الأسلحة الألمانية. - لن يترك لك وقتًا لهذا. - ماذا تعني؟ - في الأمر خدعة، إذا لم تكن تريد أن تفهم. كان عبد السلام يثق بالعمة مريم، "جاسوسته"، فمهما يحدث مع الزعيم الدرزي، سيقبل اقتراح رجال الأعمال الإسرائيليين. سيبني غزة، واأسفاه صفورية! سيغطي ساحة كبيرة بالرخام يرفع في وسطها تمثالاً كبيرًا في ذكرى الشهداء. لم تكن صفورية فكرة حسنة، لم تكن توجد إلا في رأس أم الأبيض المجنونة. لم يكن ضوء الليل يريد أن يذهب عبد السلام إلى الحمرا. - إذن آتي معك، قال له بلهجة يائسة. - ستخرب كل شيء، عَمِلَ القائد الفلسطيني متصلب الرأي. - ليس هناك غيري من يمكنه إحباط خُطَطِهِم. - اطمئن، لن يحصل لي شيء. - ومتى ستذهب؟ - هذه الليلة. اقترح على عبد السلام أن يقوم بجولة بين مقاتلي معمل البسكوت لرفع معنوياتهم قبل اللقاء. - ليس لدي كثير من الوقت، قال. - وإذا ما احتجزوك؟ هل فكرت في هذا الاحتمال؟ من اللازم أن يكون لديك وقت لترى المقاتلين قبل. - لن يحتجزوني، خراء! - من الممكن أن يحتجزوك. - متى تريدني أن أذهب إلى معمل البسكوت؟ - حالاً. - إذن هيا بنا. رافقْنا قائدنا، وضوء الليل يحمل جيتاره بيد وكلاشينكوفه بيد، مما يعني أنه سيغني أمام جمهور المعمل. - الهدوء شامل على كل الجبهات، لاحظ ضوء. - هذه إشارة جيدة، قال عبد السلام. - ليس هذا فقط بسبب موعدك. - بسبب ماذا، في رأيك؟ - لست أدري، لكن ليس فقط لأن هناك موعدك. قبل وصولنا إلى معمل البسكوت، صادفنا نساءً وأطفالاً، وهم يذهبون لجلب الماء. لم تكن البئر قريبة، فأوصيناهم أن يأخذوا حذرهم. رأينا الأطفال، وهم يقفزون في دغل من العوسج المحترق، وظننا أننا نرى أم فريد، أننا نرى أم الأبيض، فلم تسلما علينا. استقبلَنا العمال في معمل البسكوت بابتسامة عريضة رغم تعبهم، كانوا قد قاتلوا دون توقف، وكانت لحظة الهدوء تلك قد خففت عنهم. سألوا عن معنويات الرجال في تل الزعتر، ولما لم نجبهم، راحوا يرفعون من معنوياتنا. كان علينا نحن أن نرفع من معنوياتهم، ومعنوياتهم من فولاذ! لم يكونوا في حاجة إلى عبد السلام، لم يكونوا في حاجة إلينا. - اصمدوا، قالوا لنا مشجعين. - بفضلكم نحن... - الماء نادر، لم يعد حليب هناك، وهناك قليل من الطحين، لكن اصمدوا! - بفضلكم نحن... - اصمدوا! جاء شيوخ ونساء وأطفال من كل مكان، وأحاطوا بضوء: - غن لنا شيئًا، ضوء الليل! - نعم، غن لنا شيئًا! - غن لنا شيئًا، أعاد الأطفال بأصواتهم الصغيرة. - ضوء الليل... - غن لنا شيئًا! غنى ضوء الليل:
الليلة يصحو القنديل السحري تتنزل أمطار الفضة والياقوت يتلألأ وجه الأرض يفيض الشعر يشف الصخر تحلق في الجو حقول الزعتر هاكم زادي: خبز الثورة ماء الثورة
رأى عبد السلام أم الأبيض، جاءت عينه في عينها، وذهبت تجلس وحدها في زاوية. كما لو كانت من عالم آخر. منذ بعض الوقت، غدا ملجأها الصمت. لحق بها، قال لها ابنها بخير. - فلتطلع روحه، ذلك اللقيط! همهمت. بدت أم فريد أمامه فجأة، كُنَّ في كل مكان، تلك العجائز، بنات الجن! سألَتْه السهر على فريدة. كان الكل يعرف أنه سيذهب إلى الحمرا بعد قليل، أنه سيُقتل ربما، ومع ذلك طلبت منه أن ينتبه على ابنتها. كان اغتصاب كمال الدرزي يعذبها، وكانت تعرف أن أبا فريد لن يقف عند حده. أوصته على زوجها، وعبد السلام يسمع من لسانها آخر كلمات المحتضِر. نادتهما قبل أن يغادرا، نادت عبد وضوء، ومدت كيسًا من التبغ لكل واحد منهما. - هذا كل ما بقي عندي، اعترفت كمن تقر بذنب، السيجارة اليوم بغلاء الذهب! وما أتفه الدخان مقابل المخدرات! سمعاها تقول: - لو لم يطردنا الجنود الإسرائيليون من الجنوب، لأرسلت إليكم كميون برمته. داعبت ضوء الليل من شعره، وقالت إن صوته كان جميلاً، وأغنيته أجمل. عند الغروب، ونحن نعود إلى تل الزعتر، وصلتنا صَليات، تبعها صياح أطفال، كان الأطفال الذين رأيناهم، وهم يذهبون إلى البئر منذ قليل. - قتلوا أختي الصغيرة في اللحظة التي كانت فيها تملأ جرتها، قال لنا أحدهم. في بحيرة الغروب الدامي، أخذت الظلال تتحرك، حاملة الأطفال الجرحى، وضوء الليل يلعن، ويردد أن كل هذا ما هو إلا خدعة. تكلفنا بالأطفال والنساء، وركضنا إلى المستشفى. كانت الأحداث تطغى على الطبيبين، السويدي واللبناني، وأغنيتا، كما كانت دومًا، إلى جانب زوجها، وكانت نادين تشد طفلاً ميتًا بين ذراعيها. - قُتل لأجل الماء، قُتل لأجل الماء، رددت زائغة. لأجل الماء، لأجل الماء، لأجل الماء، قُتل لأجل الماء... انفجرت باكية، فأخذ ضوء الليل الطفل من ذراعيها، وترك المكان. - لم يعد هناك دواء، شكت نادين، لم يعد هناك مكان للجرحى، لم يعد هناك شيء، لا شيء، لا شيء على الإطلاق... - والأبيض؟ سأل عبد السلام وهو يحاول تهدئتها. كيف حاله؟ مسحت دموعها، وعلى شفتيها المشتهاتين، تفتحت ابتسامتها. فتشت في جيبها، وسحبت شيئًا: رصاصة تضوي بكل الجمال في كفها. وعبد السلام يعود إلى مركز القيادة، سمع ضوء الليل محذرًا من جديد ألا يذهب إلى موعد الحمرا. - من لا يتردد عن قتل الأطفال لن يتردد عن قتلك، أنذره ضوء. تجاهل عبد السلام كلامه، وشكل حرسًا من بيننا، نحن مقاتلو المخيم، لمرافقته إلى الهورس شو. كان المقهى مدمَّرًا، وفي قلب الأنقاض، كان كمال الدرزي قد أخذ مكانًا وراء طاولة يغطيها سماط أبيض، وكان رجاله يترصدون مترين من ورائه. كان نادلٌ بكامل أناقته يقف غير بعيد عنهم، وكانت صاحبة المقهى، التي يعرفها عبد السلام جيدًا، في مكانها المعتاد خلف الصندوق، بشعر مشعث، ووجه مضمد، وعين متورمة. ابتسمت له بفم اقتلعت أسنانه. ما أن جلس عبد السلام مقابل كمال، ونحن نقف مترين من ورائه، أشارت إلى النادل إشارة من ينتظر أخذ الطلبات. - سآخذ مثل كمال، قال للنادل. قهقه كمال: - قهوة الهورس شو لا تعلوها قهوة! نظر عبد السلام حوله: - قبل الحرب، هذا المقهى كان دائمًا مليئًا بفطاحل خراءات الكتاب العرب! - كل فطاحل خراءات الكتاب العرب أولئك هربوا ومعهم ظلالهم، علق كمال الدرزي. أحضر النادل القهوة، وعاد إلى مكانه واقفًا، على استعداد لتلبية أقل طلب. رشف عبد السلام قهوته ثم: - نحن لن نثرثر مثل أولئك الكتاب العرب الخراءات الأغبياء لنضيع وقتنا سدى. - أعرف، فأنت مشغول جدًا مثلي. - إذن... - شحنة الأسلحة الألمانية، قال، حتى في أحلامك الأكثر جنونًا أنت لن تراها! سمع أصابعنا ترتعش على أزندتنا، وكصدى أصابع رجاله. - إلا إذا... - إلا إذا ماذا؟ - إلا إذا تزوجت بفاتنة، إلا إذا تزوجت بفاتنة. لم يستشط آمرنا، على العكس: - بعد كل ما فعلت في أختها؟ قال بهدوء. - أختها، مسألة أخرى. أنا، أريد الزواج من فاتنة. إذا تزوجتها، تقاسمت الأسلحة الألمانية معك. نهض عبد السلام ليتبول، فقالت له صاحبة المقهى: - شُخ أينما تريد، لقد دمروا "الفي سي". نهض كمال ليتبول كذلك، كان يدير ظهره لعبد السلام، وكانا يتبولان معًا على أنقاض المقهى، وعلى آثار الكتاب العرب. - فيفتي فيفتي، اقترح كمال وهو يداوم على التبول. نصف الأسلحة الألمانية مقابل زواجي بفاتنة. لم يقل له رئيسنا إن فاتنة حبلى من أبي مزة، إن الوقت متأخر جدًا لطلب يدها. - كل الأسلحة الألمانية، كل الأسلحة الألمانية، رد عبد السلام مقلدًا الصوت المبحوح لأبي الدميم. في تلك اللحظة، انبثق أبو فريد من الأنقاض، وبدد كل شيء. ألقى بنفسه على الزعيم الدرزي، وطعنه حتى الموت. في طُرفة عين، كان آمرنا تحت آباطنا، لنحمله، ونركض به كالمجانين، في شارع الحمرا، بينما رجال كمال الدرزي يطلقون النار علينا. بقي رجال أبي أرز محايدين، فاضطرب عبد السلام لمصير أبي فريد. وقل إن زوجته كانت قد أوصته بالسهر عليه! كان أزلام كمال قد أفرغوا أسلحتهم في جسده. صعدنا في عرباتنا، وانطلقنا كالإعصار. ونحن نمضي بكباريه "الروشِه"، سمعنا أحدهم يقلد الصوت الذهبي لوديع الصافي. كان غناؤه أسوأ غناء، وكان يبين عبر النافذة المفتوحة جمهور من شخصيات السموكن، في ليلة الموت والجحيم تلك. على بعد عدة أمتار من الكباريه، كان رجال مسلحون يقتلون رجالاً غير مسلحين، ويلقونهم من فوق صخرة في البحر. اقتحمنا حاجزًا، وأشخاص يطلقون على بعضهم في كل الاتجاهات، وهم يجرون من شارع إلى آخر. أراد عبد السلام الابتعاد عن كل هذا بأقصى سرعة، أراد الابتعاد عن نفسه، أو ربما الاقتراب منها أخيرًا، لم يكن يعرف. أوقف العربة، واتجه نحو الشاطئ. في الظلام، وضع قدمًا على برميل نفايات نووية، وتخيله قرشًا قادمًا من أعماق البحر. ماذا أفعل هنا؟ قال لنفسه. ماذا أفعل في ماخور الخراء هذا؟ ماذا أفعل في أَحْبِة المدينة هذه؟ في سوق أقفية العرب هذا؟ في خراء الحضارة العربية هذا حيث يُقتل كل شيء، الشرف العربي، المجد العربي، الكِبَر العربي! ماذا أفعل في هذه المدينة الأَحْبَة المعتوهة؟ مدينة الخبل والهذر هذه؟ الدم والمضاجعة؟ الموت والجبن؟ الخيانة والجريمة؟ اللصوصية والاغتصاب؟ التهريب والدعارة؟ والدعارة، والدعارة... ماذا أفعل على ماخور طريق التحرر العربي؟ طريق معركة الإذلال العربي؟ نضال هز البطن العربي؟ صلاة رفع الصنم العربي؟ وفاء رب المال العربي؟ تضحية النفس لأجل القضية الأكثر دناسة، التشييد الأكثر بشاعة، البناء الأكثر فظاعة، وتدمير العالم العربي الأكثر جمالاً؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ آه، يا إلهي! أجبني!
يتبع الفصل الرابع عشر...
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثاني عشر
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الحادي عشر
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل العاشر2
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل العاشر1
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل التاسع
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثامن2
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثامن1
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السابع3
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السابع2
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السابع1
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل السادس
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الخامس2
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الخامس1
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الرابع2
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الرابع1
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثالث2
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثالث1
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثاني2
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الثاني1
-
بيروت تل أبيب القسم الأول بيروت الفصل الأول3
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|