|
الفصل الرابع من الرواية: 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5249 - 2016 / 8 / 9 - 22:17
المحور:
الادب والفن
حتى قبل أسبوعين، كنت ما أفتأ حبيسة أسوار هذه الفيلا، التي بناها صاحبها بيديه لتكون نسخة عن قصبة مدينته الأولى. كنتُ إذاً أشبَه بفتاة من تلك القصبة؛ دُمية من لحم وشحم، رهينة حجرةٍ معبّقة بنتانة روائح حظائر الدار، لا تعرف من عالم ما وراء الأسوار سوى جهة حمّام السوق، نظافتها وتغذيتها منذورتان لأول رجل يطرقُ بابَ أبيها وهوَ محمّلٌ بمال الصداق. أحد أولئك الرجال، كان قد غادرَ الصالة مذ بعض الوقت متوجّهاً إلى فراشٍ أعدّوه له في شقة الدور الثاني. المرافقُ الملكيّ هذا، الخطيرُ المقام، كان قد سبقَ وعادَ بنا مساءً من الرباط. لم يكترث بما لقيه من استقبال فاتر، أو لعله لم يلحظ ذلك بسبب شرود ذهنه ـ كما هوَ حال أغلب من يشغلون وظائفَ أمنية. ومثلما جازَ لعلمي فيما بعد، فإنّ " خدّوج " كانت قد استفردت بأمها في حجرة أخرى لكي تخبرها بنتيجة سفرتنا. في سياق ذلك، كانت " للّا بديعة " قد ألمّتْ بمدى أريحية ابن العم: تقبّلَ من " خدّوج " مبلغَ ثلثمائة درهم، كثمن لبنزين سيارته. إلا أنه ما عتمَ أن طلبَ منها مبلغاً مماثلاً، مُحتجّاً بكونه تعويضاً عن رشوةٍ أضطر إلى دفعها لأحد الموظفين في وزارة الخارجية. من ناحيتي، قدّرتُ والحالة تلك، بأنّ " سيمو " المسكين كان قد سبقَ ودفع من جيبه لهذا العملاق الشهم ثمنَ وساطته بخصوص أوراق إقامتنا ابن العم، كان قد ظهرَ عليه النعاس الشديد عند مغادرته الصالة. غادرنا إلى فراشه، وهوَ يحكّ بدون وعي الجبلَ المؤتَمَنَ على بركانه المتأجج بالجَمر. قبله بقليل، تركتنا " للّا بديعة " وكان يبدو عليها الضيق. سببُ ضيقها، على الأرجح، ما كان متواشجاً مع ما سلفَ ذكره من موضوع أتعاب الرحلة الرباطية. فلأعُد إلى البدء، إذاً. كنتُ قد دخلتُ الصالة مساءً، فشاهدتُ " غني " مُتربعاً على الأريكة. فهجستُ للفور بأن مواجهة ما، رجاليّة الأطراف، كانت ما تفتأ بطور الإشتعال. حديثُ السياسة، الذي كنا قد خلّفنا مفرداته في القطار، شاءَ أن يتجمّعَ ثانيةً في هذه الصالة. رجلُ " الشريفة "، كان حاضراً عندئذٍ، ينتظرُ فراغها من تدليك جسد امرأة أخيه. حمّام الدور الثاني، ما عاد مسكوناً بالطيف المخيف مذ عودة والد " غٌزلان " إلى الدوّار وحجزه هناك. " سيمو "، كان يحكّ ذقنه الحليقة بين فينة وأخرى، مُتتبعاً في شيءٍ من القلق حركة ابن شقيقته، المُشاغب. هذا الأخير، يبدو أنه كان يتكلّم بنفس الحديث مع خاله الآخر، " حمو ". وإذا به يلتفتُ إلى قريبه، المرافق الملكيّ، راسماً على فمه بسمة وقحة مألوفة: " ما رأيكَ بقول خالي، أننا سنشهدُ في هذا العهد الحَسَني نهايةَ النظام الملكيّ في المغرب؟ ". وإذا " سيمو " ينتفضُ بعنف، وكأنما صعقةُ الوهم لمسته بكونه المقصود بصفة الخال. صرخَ بالشابّ المتهوّر، ممتقع السحنة سخطاً أو خوفاً: " ما هذا الهراء؟ كيفَ تُجيز لنفسك تفسيراً، أقلّ ما يقال عنه أنه اعتباطيّ، لكلام خالك حمو المنطقيّ والمتزن؟ " " ها أنتَ تثورُ، ككل مرّة، مع أنك غيرَ معنيّ بالنقاش ولا تكترثُ أساساً بالسياسة "، خاطبَ الفتى خاله بنبرة هادئة وعلى الرغم من بسمته الساخرة. " سيمو "، بدا أنه أرتاحَ للجواب، بدليل زوال لون الإنفعال عن سحنته السمراء. قال برصانة، دونما أن ينظرَ إلى جهة مُجادله: " كيفَ يُمكن ألا أهتم بالسياسة، وأنا مواطنٌ مغربيّ مخلصٌ للوطن والعرش؟ ". فنبرَ الآخرُ للقول بلهجة ظافرة: " وكيفَ تكون مخلصاً للعرش، فيما أنك وافقتني قبل قليل بضرورة إمتناع المغرب عن دعم الأمريكان في حربهم المقبلة على العراق؟ ". استأنفَ الخالُ حكّ ذقنه، ثم أجابَ بعد وهلة تفكير: " إنّ عقلك المشوش، لهوَ أصغر من أن يفهم حقيقة موقفي! ". ثم أردفَ متفلسفاً، فيما بصره يتنقل بين الحضور الآخرين: " لعمري، فإنّ الأنظمة العربية الحاكمة من الممكن أن تختلف بشأن قضية ما. ولكنها أنظمة حكيمة، لديها سياسة ثابتة لا تسمح لغريبٍ دخيل قادم من وراء البحار أن يستخدم أساطيله وعسكره للإطاحة بأحدها. بكلمة أخرى، إنّ جلالة أمير المؤمنين يهدف من المشاركة في التحالف الدولي إلى تأديب صدام حسين لا إسقاطه. ولكن الأفضل، بطبيعة الحال، أن يرعوي الرجل وينسحب من الكويت. فيُمكن بعدئذٍ أن يُغفرَ له، فيعود إلى الأسرة العربية الكبيرة! ". " بالتأكيد. أما من أعتقل بتهمة الإحتجاج ضد التدخل العسكري في الخليج، سواء بالتظاهر أو بتوقيع عريضة، فلن يُغفر له وسيبقى تحت الأرض لا يعرف أحد شيئاً عن مصيره "، ردّ الفتى متهكّماً بمرارة. عند هذا الحد، رفعَ المرافق الملكيّ رأسَهُ وغمغم بجملة ما. الرجل، لم يكن حتئذٍ قد وجدَ ضرورة لمشاركته في النقاش. أو أنه، ببساطة، لم يكن يفقه أصلاً داعي هذا الجدل. في المقابل، رأى أنّ من الواجب عليه أن يبدي هذه الملاحظة قبيل ذهابه للنوم: " إنّ بعضَ المواطنين، ومنهم شلوح مع الأسف، لا يشكرون الله لأنه أستظلهم بأميرٍ للمؤمنين يقضي كل وقته في النظر بمصالحهم ". بيْدَ أنّ فكر الرجل، ما كان مشغولاً طوال الوقت بإعداد تلك الملاحظة المهمة. فكنتُ ألاحظُ، بشكلٍ موارب ولا شك، كيفَ كانت عيناه تتغلغلان في الفسحة الضيّقة، المثلثة الأضلاع، المنزوية بين فخذيّ ابنة العم. " خدّوج "، من ناحيتها، كانت تصدّ تلك السهام المحمومة بدرعٍ متصنّعٍ، وكما لو أنّ لسان حالها يقول: " وبعد، أيها الرجل الهمجيّ! ألمْ يكفكَ ما عانيته اليومَ من ألَمٍ في حلقي ورحمي ومصراني على حدّ سواء؟ ".
*** خلفية الفتاة، المتجذّر فيها المكرُ الريفي، ومن جهةٍ أخرى، توثبُ ابنة مراكش نحوَ أقصى حرية الجسد؛ هذه الخلفية، تعيّن عليها في الواقع جعل صاحبتها أكثر كبتاً وجموحاً ويأساً. لقد حملت معها كل ذلك، لما زارت ذات مرة قصبة الأسلاف في ورزازات. كانت مُشتعلة الجسد بذكرى أول تجربة جنسية، جدَّت معها في عامٍ أسبق. الذكرى، كان يؤرّثُ نارَها زغاريدُ وتهاليلُ الأقارب، المُتناهي من ساحة القصبة السماوية. حرارة هذه الأمسية من الصيف، حقّ لها أن تصهر الغبارَ والجير والرمل في بوتقة عظيمة لكي تقذفها ككرة نار داخل الشقّ الضيّق والشبق. شقيق " السيّد الفيلالي " الأصغر ( وهوَ الوحيد المتبقي الآن على قيد الحياة من أخوته )، كان آنذاك يحتفل بعرس ابنه. ولكنه شقيقُ العريس الكبير، من حاذى في الأثناء موقفَ فتاتنا المراهقة. سألها بنبرة لطيفة، متوائمة مع براءة سنّها: " هل تفقّدتِ الأطفالَ الصغار، النائمين في البيت العلوي؟ ". " عمر " هذا، كان في نهار اليوم نفسه مثارَ أقاويل بنات عمومة " خدّوج "، اللواتي يتقدمنها قليلاً في السنّ: " يتعمّدُ الاستحمامَ في الوادي، مُبرزاً قضيبه الهائل على مرأى من أعين نسوتنا، المختبئات خلفَ أجَمات القصب ". هذا القضيب، لم يتردد في البروز مرة أخرى في تلك الليلة المحتفلة. وكانت جمرته السوداء من التوتر، أن جعلت البنتَ تُطلق صرخة ثاقبة في العتمة المُغلّسة، لتضيع طيَّ أصوات المحتفلين. على الأثر، انتبهت هيَ مفزوعة إلى حقيقة صيرورتها امرأة. تقلّبت على ملاءة السرير، الملوّثة بدم عفتها، قبل أن تخاطبَ ابن عمها بإغراء: " عُدني أن تعدَّ لي عرساً كهذا، فأكون جارية لأكبر أير رأته عيني؟ ". ابن العم، عليه كان أن يُقلّبَ ملياً مفرداتِ الإغراء في ذهنه. فما عتمت ضحكته المُجلجلة أن انطلقت أخيراً وعلى غرّة، قبل أن يجيبَ بلهجة حامزة: " أما أنا، فلا رغبة لديّ في الإقتران بأكبر قحبة رأتها عين! ". " عبد المؤمن "، مثلما سلفَ وذكرتُ في حينه، كان أوّلَ رجلٍ يُنبّه " خدّوج " إلى قيمة ثمار شجرتها، الناضجة والشهية. في إبّان ذلك الوقت، كانت عيادته تقع بالقرب من منزل صديقه " السيّد الفيلالي "، الكائن في حي سيدي يوسف. وعلى الأرجح، فإنّ السيّد شاءَ فيما بعد بناء الفيلا على أرض مدخل غيليز، كونها تحوي مسكن صديقه. وهيَ ذي البنت المراهقة، ترتقي مع والدتها درجات العمارة، المفضية للعيادة. كانت يومئذٍ مهيئة نفسياً، بعدما انصتت مرةً لصديقة في مثل عُمرها الغض: " نساء الحومة، يتهامسن أحياناً عن خفايا حجرة الكشف الطبي، ثم لا يلبثن أن يُطلقن ضحكات ماجنة ". ثمة في مكتب العيادة، ما عتمَ الطبيبُ أن استقبلَ " خدّوج " ببعض الدهشة فيما كان يشمل هيئتها بنظرة فضولية. إذ كان قد مضى حوالي ثلاث سنين، مذ زيارتها الأخيرة للعيادة. انتظرت الأم في المكتب، مشيّعة بعينيها الابنة المتوجّهة إلى حجرة الكشف. الممرضة، ما لبثت أن اختفت خلف ستارة زاوية تبديل الملابس آنَ خروج الأخرى منها. خبرة الطبيب، أخبرته حالاً بأنّ خلف حركات الخفر والخجل تكمنُ رغبةٌ متأججة، جريئة. عاريةً إلا من قطعتيّ ملابسها الداخليتين، الرهيفتين والناصعتين كالحرير، استلقت مراهقتنا بطولها فوق سرير المعاينة. بضع دقائق على الأثر، ثمّ قاد الرجلُ البنتَ المتمارضة إلى الحمّام. راحت تشطّف مؤخرتها وهيَ مرتعشة ما تفتأ، منحنية فوق حوض البيديت برجلين متباعدتين قدر المستطاع. لطالما هجسَ داخلي، بكون اعترافات " خدوّج " مجرّدَ قصصٍ اختلقها خيالها الخصب والجامح. ولم يكن آخرها، قصة إغتصابها طفلةً من لدُن العملاق الأسوَد. هذا، وبصرف النظر عن شهودي لأثرٍ من تلك القصة الأخيرة أثناء وبعيدَ حلولنا في الرباط. على المنقلب الآخر، بقيَ غريباً لي موقفُ خطيبها غير المكترث بمسلكها؛ مثل إصرارها على مرافقتنا في تلك الرحلة. بل إنه دفع، عن طيب خاطر، كل مصاريف الرحلة بما فيها نفقات المرافق الملكيّ، الشهم. الجوّ الموبوء في مراكش، المحلقة فيه كلمات العهر بشتى اللغات المتداولة على لائحة صرف العملات؛ هذا الجو، جعلني أحياناً عُرضةً لظنونٍ تتهمُ صديقتي بأمر أدهى: " كلاهما، سيمو والشريفة، يتبادل دورَ القوّاد في محاولة استدراجي للطريق المؤدي إلى غيليز. فلِمَ لا تكون هيَ أيضاً ترشفُ من نفس المُعين الموحل، المُتمرّغ فيه أخوها وامرأته؟ ". إلا أنني كنتُ أشعرُ عندئذٍ بالعار، لكون رأسي قد نبسَ هكذا فكرة شائنة بحق ابنة المنزل الكريم، الذي منحني حمايةً وحنوّ لم ألقَ مثلهما حتى في كنف أمي.. منزلٌ، في المقابل، ما يفتأ على مغامضه وألغازه وسرّانيته منذ مستهل إقامتي فيه.. منذ أن تراءى لعينيّ مشهدُ الأسوار والأبراج الأربعة، المُحيلة عمارة الفيلا إلى ما يُشبه قلعة منيعة.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تخلَّ عن الأمل: الفصل الرابع
-
سيرَة أُخرى 38
-
الفصل الثالث من الرواية: 7
-
الفصل الثالث من الرواية: 6
-
الفصل الثالث من الرواية: 5
-
الفصل الثالث من الرواية: 4
-
الفصل الثالث من الرواية: 3
-
الفصل الثالث من الرواية: 2
-
تخلَّ عن الأمل: الفصل الثالث
-
سيرَة أُخرى 37
-
الفصل الثاني من الرواية: 7
-
الفصل الثاني من الرواية: 6
-
الفصل الثاني من الرواية: 5
-
الفصل الثاني من الرواية: 4
-
الفصل الثاني: 3
-
الفصل الثاني: 2
-
الرواية: الفصل الثاني
-
سيرَة أُخرى 36
-
الفصل الأول: 7
-
الفصل الأول: 6
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|