|
محاور خارج السياق بين المزيني والبراك
ادريس جبري
الحوار المتمدن-العدد: 1404 - 2005 / 12 / 19 - 09:53
المحور:
مقابلات و حوارات
من مفسدات الحوار ومنغصات التواصل محاورة خارج المجال بين المزيني والبراك "ما التنوير؟ إنه خروج الإنسان من وضع الحجر الذي هو نفسه مسؤول عنه. وهذا الحجر يعني عجز الإنسان عن استعمال عقله دون وصاية غيره". إيمانويل كانط( ما التنوير؟) إدريس جـبـري [email protected] الدكتور حمزة المزيني
Ι- عن خلفيات الحكم والخروع من دائرة الحوار إلى إرغامات المحاكم أوردت الكاتبة والصحفية السعودية إيمان القحطاني، بجريدة الحياة بالرياض، وبتاريخ 2005/03/20، الخبر الآتي: “أصدرت المحكمة الجزئية في الرياض أمس حكما على أستاذ اللسانيات في جامعة الملك سعود الدكتور حمزة المزيني، بناء على دعوى قدمها ضده عبد الله بن صالح البراك، الأستاذ المشارك في قسم الثقافة الإسلامية في الجامعة نفسها... وتضمن الحكم، الذي صدر بعد أربعة شهور من المداولات، المنع من الكتابة والسجن أربعة شهور و200 جلدة ". انتهى. وقد جاء هذا الحكم القضائي الذي أصدرته محكمة شرعية بالرياض على إثر قضية أقامها الدكتور البراك ضد زميله الدكتور المزيني، وفيما يلي أهم "التهم" التي تضمنتها صحيفة الدعوى، وبعض ردود المدعى عليه، من خلال حواراته الصحفية، وما ورد في مقالاته بصدد القضية، وذلك بغرض تقريب القارئ من مجريات الأحداث، وأجواء المحاكمة، وأهم الخلفيات التي وجهتها: التهمة الأولى، ادعاء "السخرية" من شخصية البراك، و"التهكم" على هيئته الشرعية، مع "التشكيك" في كفاءاته اللغوية والمعرفية، وبالتالي التربوية؛ وذلك من خلال مقال كتبه الدكتور المزيني بعنوان: "مفاهيم البراك المغلوطة"، ونشره بجريدة الوطن. وهو ما ينفيه الدكتور المزيني ويتبرأ منه جملة وتفصيلا؛ بل ويعتبر ما فهمه الدكتور البراك مجرد قراءة احتمالية لمتن، وتأويل لنصوص نتج عنهما سوء فهم وتفاهم ... التهمة الثانية، ادعاء "السخرية" من الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد ( عضو كبار علماء مكة المكرمة) حين كتب الدكتور المزيني نقدا لكتابه: حراسة الفضيلة. وهو ما لا يقر به المدعى عليه، ولا يعترف به، إذ ينفي أي علاقة بين نقد الكتاب و"السخرية" من شخصية الكاتب، علما بأن العودة إلى ما كتبه الدكتور المزيني بهذه الشأن توضح بأنه لم يقم سوى بفحص أطروحة الكتاب المركزية (مسألة الحجاب وكشف وجه المرأة)، ورصد تهافتها المنهجي، كما أكد في الأخير على بُعد الكتاب عن "المثل العلمية، وخروجه عن الأدب القرآني في الدعوة والنصح والجدل بالحسنى واللين من القول ..." التهمة الثالثة، ادعاء "السخرية" من مجلس القضاء الأعلى للمملكة السعودية، ومن ثم "التطاول" على كافة المنتمين إليه، وذلك بسبب سلسلة من المقالات كتبها الدكتور المزيني عن قضية الأهلة، وطرق رؤيتها، مقترحا الاعتماد على الحسابات الفلكية في رؤية الهلال، والاستعانة بالعلوم الحديثة في هذا الباب، بدل اعتماد العين المجردة، والاطمئنان إلى "شهود المستحيل"، بلغة المزيني. وهو ما يُقر به الباحث ويتمسك به طالما لم يثبت العكس ... التهمة الرابعة، ادعاء "الاعتراض" على قرار مجلس الوزراء الذي "ينص على تطبيق النصوص النظامية ذات الصلة في حق أي موظف يخل بواجب الحياد والولاء للوظيفة العمومية". وهو القرار الذي ناقش الدكتور المزيني بعض بنوده في مقال له بعنوان :"كلنا موظفون"، واعترض بالفعل على بعض مضامينه، جراء الغموض والالتباس الذي شاب العبارات التي صيغ بها القرار، وما يمكن أن يترتب عنها من "تضييق هامش الانفتاح الذي نعمت به المملكة في هذه السنوات ..." ويتضح من خلال جرد هذه "التهم" الأربع، وبكثير من التركيز، كونها تجمع بين ما هو شخصي صرف، يتعلق بشخص الدكتور البراك ( التهمة الأولى) وما هو غيري، يتصل تارة بأشخاص ( التهمة الثانية)، وتارة أخرى بمؤسسات الدولة العمومية ( التهم الثالثة والرابعة)، مع الصلات القوية بينها وبين الدكتور البراك، والخيوط الواصلة بين مختلف أطراف خارج المحاورة؛ كما سيتضح على مدار هذا المقال. فبناء على تلك "التهم"/ الدعوى، ومن مدخل الحسبة، طلب المدعي تأديب الدكتور حمزة بن قبلان المزيني، باعتباره مدعى عليه، تعزيرا له، وعقابا لما اقترفته يداه، وخطه "قلمه". كما أصر على أن يكون التعزير والعقاب صادرين عن المحكمة الشرعية دون غيرها، استنادا إلى قرار وزير العدل الصادر في 16 أكتوبر 2004، بالرغم من الاختلاف الحاصل حول جهة الاختصاص التي يحق لها الفصل بين المثقفين إذ يتحاورون ويختلفون لقصد التواصل. ومع ذلك تم استصدار الحكم المذكور أعلاه، مما قد "يستفز" القارئ، ويحثه على طرح مثل التساؤلات الآتية: هل كان من الضروري، وفي مسائل خلافية جرت أطوارها على صفحات الجرائد بين زميلين بنفس الجامعة، أن يصل الأمر بهما إلى قاعات المحاكم؟ أليست هنالك قنوات أخرى تراعى فيها وجهة نظر كل طرف من أطراف الحوار، تحميهما من انزلاقات لا تليق بباحثين أكاديميين، وتجنبهما إكراهات المحاكم، ولاسيما في ما مجالُه الحوار، وافتحاص الأفكار والآراء والقيم؟ وهل يمكن الجزم بأن الدكتور البراك رفع الدعوى حقا لضرر أصابه من مقالات الدكتور المزيني، أم أنه دُفع إلى ذلك دفعا على غرار ما قام به مليتوس لما أقام باسمه دعوى رسمية ضد سقراط بإيعاز خفي من أنيتوس ( وكان من زعماء الحزب الديمقراطي وقت محاكمة سقراط عصر ذاك) ولولكون ( المتحدث باسم الصناع ورجال السياسة)؟ ولصالح من رفعت تلك الدعوى ضد المزيني ولأية أغراض؟ وهل كُتب على معظم الحوارات التي تجري بين مثقفين عرب ومسلمين، أن ينتهي إلى خنقها وإفسادها، وبالتالي خنق أحد أطرافها، والتنغيص على عميلة التواصل المطلوبة برمتها، عبر كثير من "التهم" الجاهزة والنمطية المعروفة؟ ألا يمكن للمثقفين العرب، والمسلمين، وتفاديا لنفس مآل الحوار بين المزيني والبراك، ومن في وضعهما، أن يختاروا لهم الحوار النقدي سبيلا، وفق قواعده وضوابطه وأخلاقه الراسخة في هذا المجال، دون تجاوزه إلى ما دونه؟ ألم يحن الوقت بعد، أن يقتنع هؤلاء المثقفون بأن الحوار، بما هو مجموع الآليات والأخلاقيات التي يجب مراعاتها من أجل تدبير الاختلاف بين المختلفين، وتصريف النزاع في المتنازع حوله، بما يحفظ حقوق كل الأطراف، ويضمن التواصل المرغوب، هو السبيل الأوحد لبناء الحقيقة أو الاقتراب منها؟ ومتى يستطيع هذا المثقف أن يرتقي بحواره من حوار "الصدام والنزاع الشخصي" القائم على التهجم والصدام"، إلى حوار التفكير النقدي، والإقناعي المبني على اختلاف الرأي بين متحاورين لكل منهما دعوى (نتيجة أو وجهة نظر) يبتغي التدليل عليها بهدف إقناع الآخر بها "؟... الحق، أننا لا نقصد من وراء طرح هذه التساؤلات، وإيراد تلك "الاتهامات"، وذكر تلك الأحكام، أن ندخل فيما هو خارج عن إطار هذا المقال، ومجال تحركه، سواء بالإجابة عن تلك التساؤلات المطروحة أعلاه، وهو ما أثرناه فقط من أجل تأطير مقالنا؛ أو تفنيد تلك الاتهامات، وهو ما يتجاور حدود هذا المقال، مع أن سردها لم يكن سوى تعلة لتأمل جاري الواقع العربي، ومآل التواصل بين المثقفين فيه؛ أو بمناقشة تلك الأحكام الصادرة في حق الدكتور المزيني من الوجهة القانونية، وهو ما لا ندعي القدرة عليه، وإن كنا أوردناها لتأملها في ضوء مجريات العصر الجديدة وآفاقها المستقبلية؛ إنما نقصد التركيز على الخلفيات، الظاهرة منها والباطنة، المضمرة والمعلنة، التي أفضت إلى انتقال الحوار من مجال الحجاج البلاغي الإقناعي التواصلي إلى مجال المحاكم، واستصدار أحكام بالعقوبات، وسلب الحريات، والتنغيص على التواصل بما هو "عصب الوجود الإنساني وشرطه الأساس ". -1- يدَّعي الدكتور حمزة بن قبلان المزيني أن التنوير قد تراجع في جامعة الملك سعود في العشرين سنة الماضية، بعدما كان قد شاع وانتشرت قيمه. ويورد الباحث أدلة عديدة على ذلك الانحسار ومظاهره المختلفة . وهو رأي يعتقده المُدَّعِي، ويؤمن به. وهذا أمر مشروع تماما. أما الدكتور البراك فيعترض على دعوى الدكتور المزيني تلك، ولا يقول برأيه، كما لا يعتقد في صدق ما يزعمه. ولذلك فهو لا يسلم بما يدعيه؛ بل وينازعه إياه. وهذا أيضا أمر مشروع تماما. ليبقى على الدكتور البراك باعتباره معترضا على رأي الدكتور المزيني أن يقيم الدليل على ما يعترض عليه حتى يقنع المُدَّعِي وينتزع موافقته، بما تسمح به دائرة الحوار، وضوابطه وآلياته، وما يستدعيه التواصل من تفاعل وإنصات لازمين. ولما كان الاختلاف في الرأي سببا من أسباب الدخول في الحوار والمحاججة بين المدعي والمعترض، وكان التواصل أساس التوازن النفسي وأساس الاندماج الاجتماعي "؛ فقد بادر الأول (المزيني)، ومن غير سبق إصرار على النزاع مع أحد، إلى بسط حديثه عن تراجع التنوير في جامعة الملك سعود وانحساره فيها، قياسا إلى ما كانت عليه من قبل، وبالتحديد، قبل أن تسيطر عليها "الحركات الإسلامية السياسية التي هربت من بلدانها ووجدت ملجأ لها بالمملكة في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين الميلادي "؛ فيما اعترض عليه الثاني ( البراك)، ورد على دعاواه تلك، بل و"اجتهد" في دفعها ودحضها في مقال له بعنوان: "عبد الله البراك مدافعا عن جامعة الملك سعود". هكذا بدأ الحوار بين الرجلين، كما ينبغي لأي حوار أن يبدأ، وذلك بغرض رفع الخلاف، أو على الأقل، تقليص مسافة التباعد بين المتحاورين، وإنجاح التواصل بينهما، بقصد تكوين "موقف في نقطة غير معينة سلفا بين المتحاورين، قريبة من هذا الطرف أو ذاك، أو في منتصف الطريق ". وهذا مطلب محمود من دون شك في أدبيات المحاورة. غير أن الذي حصل بين المتحاورين الجامعيين والأكاديميين، غير ما تقتضيه تلك الأدبيات من تعاون وتشارك وتفاعل، طلبا للحقيقة أو لبلوغ منتصف الطريق بين طرفي الحوار، إذ سرعان ما انزلق الحوار حتى بلغ قاعات المحاكم، وما قد يتصل بها من إرغامات قد تدفع أحد أطراف هيئة المحكمة إلى الوقوع في التضليل أو التغليط أو الإعنات أو التدليس، إلخ، "لاعتبارات شخصية تعود إلى طبيعة الأشخاص الذين تتشكل منهم هيئة المحكمة، ونوع التهمة "/ التهم، أو لاعتبارات أخرى كثيرة. صحيح، من مهمات القاضي أن يفحص التهم، ويختبر الدعاوى من أجل تبرئة المتهم أو تجريمه، لكن ما لم "تمارس عليه ضعوط خارجية، إما من طرف سلطة أخرى أعلى منه سلطة، أو داخلية ناتجة عن تضارب الأدلة والحج وتباينها ". وهو ما تحكم في قضية المزيني والبراك، ورسم مسارها ومآلها إلى ما أسفرت عنه المحاكمة، مما سبق ذكره في مستهل هذا المقال، وما سيتلوها من ردود تؤشر على أن القضية "أكبر" من المزيني، ومن سار في ركبه، ومن البراك ومن تقيله، حيث يمكن تأطيرها ضمن ذلك الصراع الوجودي القائم بين القديم والجديد، في كل زمان ومكان. والأمر الطبيعي هو عندما يؤدي ذلك الصراع إلى حوار مثمر وفعال ينتج عنه التطوير والتغيير والتحديث لما فيه خير الإنسان- أي إنسان- فيما "المأساة" عندما يتحول هذا الصراع إلى اقتتال يسفر فقط عما يضره ويؤذيه. وتلك حالات ما يجري اليوم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وما حالة الدكتور المزيني والبراك في المملكة العربية السعودية سوى صورة مصغرة لما يقع في كل تلك المجتمعات، أو على الأقل في غالبيتها العظمى. -2- لقد قضى الدكتور حمزة بن قبلان المزيني معظم حياته وأعزها في جامعة الملك سعود مدرسا وباحثا ومترجما ، دون كلل أو ملل أو تراخ، يدافع عن قيم التنوير، وينتصر للتحديث من أجل مملكة عربية وإسلامية متقدمة ومتنورة. غير أن دفاعه ذاك، وفي بيئة ثقافية وحضارية يغلب عليها التقليد والمحافظة، حيث هيمنة الفكر "السلفي الجهادي الأصولي المتطرف"، وتغلغل إيديولوجيته في نسيج المجتمع، وبداية تحكمه في دواليب مؤسسات الدولة، قد جعل مهمته صعبة للغاية، لاسيما وأن نخبة التغيير والتحديث والتنوير بالمملكة ما تزال في بداياتها، وما يزال تحركها خجولا ومترددا إلا ما كان من ثلة ، منهم الدكتور المزيني في مجاله. لقد انخرط الرجل، ومنذ مدة طويلة، في صف التنوير، مدافعا عن قيمه ومبشرا بها، دون أن ينسلخ، بحال من الأحوال عن هويته الثقافية والحضارية والدينية، وإن في حركيتها وتاريخانيتها. وهذا واضح في محاضراته وأبحاثه وترجماته ومحاوراته ومؤلفاته. الشيء الذي "أغضب" التيارات "الصحوية"، ممن ينتصرون ل"ثقافة الموت " من خلال "اختطاف التعليم " بمختلف أسلاكه، ويذيعون قيم الترهيب والتكفير وما يؤول إليهما . وكل ذلك باسم الدين، وتحت يافطات شرع الله... ومع كل ذلك، فقد ظل الدكتور المزيني صامدا في موقفه، مؤمنا ب"رسالته"، يصدع بالحق، كما يراه، ويعبر عن رأيه، كما يبدو له، ويقول الحقيقة، بقدر اجتهاده . ولعل هذا ما يفسر انخراطه في قضايا وطنه، الصغيرة منها والكبيرة، الاجتماعية منها والدينية والتعليمية والسياسية؛ إذ لا يترك قضية في هذا المضمار إلا وقد أدلى بدلوه فيها، مهما كان مصدرها، ومهما كانت سلطة صاحبها. ولذلك، آمن بالحوار، ومارسه في ظل شروطه وقواعده وآلياته، كما استخلصها أكابر منظري الحوار، إلا ما كان من استثناءات تؤكد القاعدة وتشهد لها. وبمقتضى تلك الشروط والقواعد والآليات، حاور الدكتور المزيني عددا هائلا من زملائه المثقفين، وفي مختلف المواضيع، و"ساجل" كثيرا من شيوخ الإسلام وعلمائه ، واعترض على بعض آراء رجال التربية والتعليم ، بمن فيهم وزير المعارف نفسه ؛ بل أكثر من هذا "انتقد بعض الزعامات السياسية العربية ... وقد قام بكل هذا، وضمن دائرة الحوار ، دون أن يحابي هذا، أو يجامل ذاك، أو يتملق ذلك. وتلك، من مهمات المثقف "الملتزم" بقضايا وطنه وأمته، والمدافع عن الحق والحقيقة، كما يتبديان له، لا تثنيه عن ذلك لومة لائم. على هذا الأساس، وبناء على خلفيات المثقف "الملتزم" بالتحديث والتنوير، فقد كتب الدكتور المزيني في التربية والتعليم، وانتقد برامجه الدراسية، وطرق التدريس . كما ألف في اللغة العربية ، وفصل في طرق تدريسها وبث الحياة فيها. إضافة إلى ذلك، فقد خاض الباحث مع الخائضين في مجال تحرير المرأة السعودية ، ورهانات تجديد النظر إليها، من منظور تكريم الإسلام للمرأة، واعتبار متطلبات العصر... وبالجملة، فالدكتور المزيني نموذج المثقف المنخرط، حتى النخاع، في مجال تحديث وطنه، وتجديد النظر في كل ما من شأنه أن يعرقل قطار التنمية والتقدم في بلده. ذلك ما دفعه إلى اقتحام مناطق الظل والنور التي استأثر بها "القبريون "- كما يحلو له أن يسميهم- وحاولوا تأميمها وتهريبها لمآربهم الخاصة؛ بل ونبه إلى خطورة ما كانوا يفعلون، ودق ناقوس الخطر لما هم مقدمون عليه، من نشر إيديولوجيا التطرف، وإذاعة ثقافة التكفير، وبالتالي "إنتاج شخصيات قلقة متحمسة يسهل تجنيدها في صفوف جماعات التطرف والعنف، ويمكن أن يقودهم ذلك في نهاية المطاف إلى ارتكاب ما تشكو منه بلادنا من جرائم القتل والتفجير ". وذلك كان مما عرفته المملكة العربية السعودية الآمنة المطمئنة، من أعمال إرهابية زج فيها شباب المملكة لتحقيق مآرب الكبار، وعلى مرأى الأمراء، ومسمع العلماء... -3- مع كل ذلك، وبالرغم من كل ذلك، فقد كان إيمان الدكتور المزيني بالحوار كبيرا ، ولمراعاة مقتضياته المنهجية والأخلاقية مقيما، من منطلق أن النزاعات والخلافات، مهما كانت طبيعتها ودرجاتها، لا تسوى بالعنف والإقماع ، ولكنها جميعها تسوى في إطار النقد المثمر الذي تدور أطواره ضمن دائرة النسبي والممكن، بمدلولهما عند الدكتور العمري ، وفي ظل الإنصات الجيد بين كل أطراف الحوار. غير أن إرغامات خارج مجال الحوار، واختلاف بَيِّن في إدراك المفاهيم المؤسسة للحوار، وخلفيات أحد المتحاورين ومقاصده، قد حالت دون استمرار الحوار في دائرة ومجال اختصاصه، وفي ظل مقتضيات التواصل وشروطه؛ إذ انتقل الحوار إلى قاعة المحكمة، كما سبق ذكره، واضطر الدكتور المزيني، باعتباره أحد المتحاورين، إلى المثول أمام المحكمة الجزئية بالرياض، بدعوى أقامها الدكتور البراك ضده، بدعوى الحسبة، بما هي "نظام رقابي، يقوم على إزالة المنكر، إذا ظهر فعله، والأمر بالمعروف إذا ظهر تركه". الأمر الذي حَوَّرَ مسار المحاورة وانزلق بها إلى خارج مجال الحوار ومقتضياته، وجعل المُدعِى عليه في موقع الاتهام الصُّراح. بهذا المعنى فهو في موقع مقترف المنكر، ويجب رفعه، بمحاكمته شرعا، فيما المدعي، لكونه محرك الحسبة، في موقع الآمر بالمعروف، وله أجره المعلوم؛ أما القاضي، باعتبار علامة على فشل الحوار، وانقطاع أواصر التواصل، فقد وجد نفسه، بموجب مهمته، في موقع من سيحكم في القضية، ويفصل فيها بالعدل، ما لم تمارس عليه "ضعوط خارجية، إما من طرف سلطة أخرى أعلى منه سلطة، أو داخلية ناتجة عن تضارب الأدلة والحجج وتباينها بشكل يصعب معه اتخاذ القار الصائب "... فهل تمكن القاضي، وهو يصدر حكمه على المزيني بالسجن والجلد والمنع من الكتابة، من أن يسْلم من الضغوط الخارجية، الواعية منها وغير الواعية، حتى وإن سلم من الضغوط الداخلية، وفحص الأدلة والحجج، وتأول القانون في اتجاه خدمة العدل؟ ( مجرد تساؤل قد تتبدى بعض خيوطه، فيما سيأتي) إن الحوار الذي جرت أطواره بين المزيني والبراك، وعلى صفحات الجرائد المحلية في مسائل تخص الرأي؛ ما كان ليعمر طويلا في مجاله بمجرد ما استعان أحد المتحاورين على محاوره بما يدخل في نطاق المقدس/ دائرة المطلقات؛ سواء أكان الغرض من ذلك الإحراج وإخراس الألسن، أو كان من أجل إزالة منكر، وأمر بمعروف، علما بأن إقحام المقدس في مجال الخلافيات من معوقات الحوار بامتياز، إن لم يكن من محرضات قطع الأرزاق والأعناق. فليس أضر على الحوار من "اللعب بالمقدس"، وادعاء "امتلاك الحقيقة المطلقة، والسعي لفرضها على الآخرين ". وهذا أهم ما "خنق" الحوار بين المزيني والبراك وأفسده تماما، ونغص على التواصل المطلوب بينهما؛ ولاسيما لما بدأ هذا الأخير يستعين على محاوره، لاعتبارات عدة لا يتسع لها المقام، بما استعان به الباطل على الحق، من كيد وتدليس وتغليط، وإعنات، إلخ. وذلك لما ربط الشخصي بالغيري، ومزج الخاص بالعام، وخلط المقدس بالمدنس، وجمع الرأي بالحقيقة المطلقة. وهذا واضح بمجرد أن أقحم شخصيات لها مكانتها الاعتبارية والتوقيرية عند الرأي العام السعودي ( الشيخ بكر أبو زيد، والشيخ صالح اللحيدان)، ومؤسسات لها "هبتها" السياسية ( مجلس القضاء الأعلى، ومجلس الوزراء) و"حرمتها" الدينية ( الله والرسول(ص)). ويكفي أن نورد المقطع التالي من مقال الدكتور البراك، ليتضح الخيط الأبيض من الأسود، وتتأكد مزاعمنا بهذا الشأن. يقول الدكتور البراك في خطاب وجهه إلى الدكتور المزيني:"المؤمل من الدكتور أن يكون من أشد الناس بعدا عن رمي زملائه وتصنيفهم بما هم منه براء. فالولاء لله ورسوله، والسمع والطاعة لمن ولاه الله أمرنا. وليختص كل امرئ بما يحسن لا أن يتحدث في كل شيء، بدءا برؤية الهلال، ومرورا بالسخرية من حراسة الفضيلة ..." وكأن لسان حاله- أي البراك- يقول للمزيني: يا دكتور - مع ما يشتم من هذا الكلام من رائحة الاستخفاف والاستهزاء، مما لا يسد، على كل حال، باب الحوار، ولا ينغص على فضيلة التواصل- إنك برميك لزملائك، و"تصنيفهم بما هم منه براء"، تكون غير جدير بهذا اللقب الأكاديمي والتربوي. ثم بعد هذا مباشرة يقحم ما لا ينبغي إقحامه في الحوار، ليمعن في اتهام المحاور، بأن ولاءه لغيره الله والرسول، وفي هذا دعوى مبطة بالتكفير، وأنه لا يسمع ولا يطيع أولي الأمر، ممن ولاهم الله أمر هذه الأمة، من علماء وفقهاء( ورثة الأنبياء) ومدبري الشؤون الحساسة للدولة، وفي ذلك تلميح كيدي بالتمرد عليهم، مما يستوجب تأديبه حتى يكون عبرة لمن يعتبر. وذلك بالفعل ما حصل، إذ ما إن دخلت صحيفة الدعوى إلى قاعة المحكمة، وخرجت المحاورة عن مجالها، وخُتمت أقفال التواصل، حتى أصدر القاضي الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الفنتوخ، حكمه المذكور في حق المدعى عليه. وهو الحكم المتضمن في البيان الذي أصدره الشيخ اللحيدان ( وهو الرئيس الفعلي للقاضي الذي أصدر الحكم في المزيني) لما ناقشه الدكتور المزيني بشأن هلال شهر شوال ، في مقال له دعا فيه إلى الاستفادة من المنجزات العلمية في هذا الشأن، واعتماد الاجتهاد المواكب للحياة في الشؤون الدينية كما الدنيوية. وهو ما لا يمكن للتيار "الصحوي"، أن يسمح به، وبمقتضى "التفويض الإلهي" الذي يزعمه؛ إذ يعتبر ذلك بمثابة مس صريح "بحرمة" التخصص، بمعناه الاحتكاري المنغلق، وتعد مبين على مجال يضمن امتيازاتهم، ممن قد ينازعهم فيها. فليتأمل المتأمل؟ ! ІІ – تأملات في الأحكام وخرق منطق المحاورة 1- هل السخرية في مجال الحوار مدعاة للحكم بالسجن؟ ما كان الحكم القضائي الذي استصدره القاضي الفنتوخ في حق الدكتور المزيني بأربعة شهور سجنا، ومن محكمة شرعية ، ليدعو إلى أي استغراب، لو صدر لسبب جنائي مس شخص البراك، أو غيره. أما وأنه صدر في سياق الحوار، وشرائط المحاورة فذلك مما يدعو إلى الغرابة بحق، ويحث على ربط الخيوط، واستجماع العناصر المتحركة في فلك هذه المحاكمة. فمن شروط الحوار التأدب والتعفف وصفاء السريرة، وبالتالي تغليب الفضيلة، طلبا للتواصل. وعندما تَغيب هذه الشروط أو تُغيّب يتعطل نبض التواصل ويخرج الحوار عن نطاقه وينزلق عن مجاله الطبيعي، إلى مجال آخر له إكراهاته الخاصة مما يعود إلى طبيعة الأشخاص الذين تتشكل منهم هيئة المحكمة "، وإلى طبيعة المدعى/ المدعيين، والمدعى عليه/ المدعى عليهم، وحمولاتهم الثقافية وخلفياتهم السياسية وحساباتهم الإيديولوجية؛ وغيرها، علاوة على طبيعة القضايا المتنازع حولها والمتحاور بشأنها، لاسيما وأن القضايا ليست من الأعداد لنحتكم للحساب، ولا قضايا حجم حتى نلتمس الجواب الحاسم من المقياس، ولا قضايا أوزان حتى نستعين بالميزان للفصل . كل هذا يستعدي الحيطة في فحص القضايا واستصدار الأحكام تفاديا لما قد ينتج عن ذلك، مما لا يليق بالمحكمة والعدل الذي تتوخاه، وإن تحت شتى الذرائع والمصوغات التي يثبت الواقع عكسها. ولنا في تاريخ البشرية أدلة كثيرة في هذا الشأن. ويكفي أن نستحضر خلفيات محاكمة سقراط، وملابسات الأحكام الصادرة في حقه. صحيح أن الزمان غير الزمان، والمكان غير المكان، والحضارة غير الحضارة، والدين غير الدين، لكن العبرة بمصير المحاورة وأحد أطرافها، والعوامل التي ساهمت في صنعها، وعملت بذلك على إفساد الحوار والتشويش على التواصل في بعده الوجودي. فعلى إثر دعوى رسمية أقامها مليتوس على سقراط يتهمه فيها بالسخرية من آلهة أثينا الرسمية، وإفساد أخلاق الشباب؛ صدر حكم في حقه بالإعدام، على الرغم من أنه لا يعرف ميلتوس، ولا سبق أن التقاه أو حتى سمع به. إضافة إلى أنه لم يعترف بهذه "التهم" الموجهة إليه، ولم يقر بأي واحدة منها أمام القضاة الخمس مائة. ومع ذلك تم الحكم على رجل الحوار الأول بالإعدام، مع أنه قضى معظم عمره( السبعين عاما) في الحوار، وترسيخ قيم الحوار، وتوليد قواعده وآلياته حتى سمي هذا باسمه (الحوار السقراطي). ولا أخال حال الدكتور المزيني ومحاكمته بالأحكام المعروفة، إلا كحال سقراط ومحاكمته، مع مراعاة الفوارق المذكورة، وغير المذكورة مما يسهل استحضاره. لقد كانت تهمة السخرية، كما فهمها المدعي، من التهم المركزية التي حوكم بموجبها سقراط ، ونُفذ عليه الحكم بطريقة تراجيدية معروفة ، لا تليق بمفكر من حجم سقراط، وما أسداه لمجتمعه وللإنسانية جمعاء، ولا تتناسب وطبيعة التهم الموجهة إليه، على خلفياتها "المريبة". ولذلك، ظلت محاكمة سقراط لغزا محيرا لكل المهتمين وغير المهتمين حتى هذه اللحظة. كذلك الأمر بالنسبة للدكتور المزيني، إذ بموجب "السخرية"، كما وردت في صحيفة الدعوى، حكم عليه بالسجن والجلد والمنع من الكتابة، مع أن السخرية، في حقيقة الأمر، هي مجرد آلية أدبية وبلاغية يتوسل بها الساخر لمقاومة أشكال الظلم والفساد، ويلجأ إليها لكشف الزيف والتدليس في أوضاع غير طبيعية، من أجل إثارة الانتباه إلى وضعية غير سوية، وتقويمها وبالتالي طلب إصلاحها. بهذا المعنى، فالسخرية وسيلة فنية في يد الساخر، بواسطتها يقدر على رصد المفارقات بين التصور والواقع، وتشخيص التباعد بين الأشياء والكلمات. وتكمن قوتها الضاربة في قدرتها على تجسيد أعطاب المجتمع، والتضييق على الطغاة والمستبدين والتنغيص عليهم، وعلى الفاسدين والمفسدين، والانتهازيين والمهربين، بكل أشكالهم وأطيافهم. ولذلك، فهي لا تؤلم إلا من بهم "مس" مما ذكرنا، ولا تؤدي إلا من افتقد الثقة في نفسه، وشك في قدراته وكفاءاته، كما لا تنغص إلا على من يسير في غير الطريق القويم... وتلك حالات لا تجيز الخروج عن دائرة الحوار ومجالها إلى قاعات المحاكم وإرغاماتها، اللهم إذا اشتغلت آليات التأويل المغرض للنصوص والقانون، واستُغِلّت السلطة التقديرية للقاضي/ القضاة أسوء استغلال، خاصة عندما يتعلق الأمر بمسائل الشرع، وأمور الدين. وقد حدث بعض من هذا في مجريات محاكمة المزيني وملابساتها نكتفي بذكر مظهرين اثنين: الأول، ويتعلق بمدلول السخرية، فيما جري بين المتحاورين، إذ يتعذر تأويلها في اتجاه "تحقير" شخص المدعي أو الاستهزاء بغيره، على غرار احتقار إبليس لآدم ، وسخرية قوم من قوم ، كما جاء في التنزيل. فتلك أمور لا تدور إلا في خلد من في قلبه مرض( بمعناه النفسي)، ومجاله غير مجال القضاء، أو عند محاور "كسول" و"خامل" ليس غرضه البحث والبناء والاستقصاء والتواصل، إنما همه في إفحام محاوره، وإخضاعه وإرباكه، والتنغيص عليه، بإلصاق التهم الجاهزة النمطية مما ذكرناه سابقا، وزرع الفخاخ في منعرجات زلقة، والتحاج بحجج موقعة في المهلكات، عوض التعاون والتفاعل طلبا للحقيقة. الثاني، ويتصل ببعض مجريات المحاكمة، إذ ما اعترض المدعي على القاضي، وأصر على أن ملف القضية من اختصاص وزارة الثقافة والإعلام، كما نص على ذلك نظام المطبوعات، حتى ثارت ثائرة القاضي، كأنه يقول في نفسه: من يكون هذا المزيني حتى يخاطبني بهذه الطريقة !، فرفع بذلك الجلد إلى مائتي، بعدما كانت خمس وسبعين، وضاعف مدة السجن إلى أربعة شهور، بعدما كانت شهرين، مع زيادة المنع من الكتابة التي لم ترد قط في الحكم الأول. وفي ذلك فيتأمل التأمل؟ ! 2- الجلد فيما لا علاقة له بالشرع !؟ من التعاريف التي يوردها ابن منظور في مادة: جلد، قوله:"والجَْلد: مصدره جلده بالسوط يجلده جلداً ضربه...وجلده الحدّ جلدا أي ضربه وأصاب جلده ". ومعلوم أن الجلد بالسوط من العقوبات المعمول بها قبل الإسلام وبعده، وفق ضوابط سنت لهذا الغرض، وذلك لزجر كل مرتكب لمخالفة من نوع مخصوص. غير أن هذا الزجر لما تبناه الإسلام أضفى عليه طابعه الخاص، وأصبح حدا لمن ارتكب فاحشة مبينة، كالزنى لحفظ النسل، وحد السرقة لحفظ المال، وحد الحرابة لحفظ النفس، وحد القذف لحفظ الدين، ثم حد شرب الخمر لحفظ العقل. وهو ما لم يرتكبه المدعى عليه، ولا ثبت في حقه حتى يتم الحكم عليه بمائتي جلدة...؟ وبصرف النظر عن طبيعة السوط الذي سيتم بها الجلد، ونوعه وشكله، ودون الدخول في تفاصيل من سيقوم بعملية الجلد، وقوته البدنية، وحالته النفسية ودرجة شحنه، ومن دون طرح مسألة فضاء ممارسة هذا الجلد، فمن الطبيعي أن يستغرب القارئ ويصاب بالذهول لما يتأمل في مسألة جلد مثقف أدلى بدلوه في مسألة خلافية ما، وفي ظل الألفية الثالثة، خاصة إذا كان هذا المثقف من طينة الدكتور حمزة بن قبلان المزيني، وقد اشتعل رأسه وذقنه وشاربه شيبا في خدمة البحث العلمي والتربوي بالمملكة، ولمدى عقود من الزمن ! على هذا الأساس، فمن حق القارئ أن يتساءل: كيف استقام للقاضي، مع مراعاة حرمة القضاء واستقلاليته، والإقرار بجلال قيمة العدل، وهي أحد أسماء الله الحسنى، أن يستصدر حكما قضائيا بالجلد في حق رجل مثقف من عيار الدكتور المزيني ولم يأت بفاحشة من الفواحش التي توجب الجلد...؟ بل وكيف جاز له أن يزيد من عدد الجلدات، والرجل لم يقم سوى بإبداء الرأي في شؤون الثقافة والقيم في مجتمعه، وتلك من مهام المثقف في كل الدنيا؟ فتأمل؟ ! إضافة إلى ذلك، وبعيدا عن إقحام الشرع فيما لم يقطع فيه، كيف يمكن تصور جلد الدكتور المزيني( وهو على مشارف السبعين من عمره) بمائتي جلدة، إن تقرر ذلك لا قدر الله، خاصة في نازلة لا أصل لها ولا فرع في التشريع الإسلامي إلا ما كان من "اجتهاد خارج المجال" للشيخ القاضي؟ ولعلها أحد الأسباب التي عجلت بتدخل السلطة العليا بالبلد ( صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، ولي عهد المملكة، قبل أن يتوج ملكا للبلاد) فأبطل حكم القاضي بالجلد، مع السجن والمنع من الكتابة، رفعا ل"حرج" قانوني وسياسي وأخلاقي، المملكة العربية السعودية في غنى عنه، بالنظر إلى الظروف العالمية الجارية، ولطبيعة القضية التي كانت وراء الوصول إلى قاعة المحاكم. ولذلك أحال ملف القضية على ذوي الاختصاص، كما كان المدعى عليه، يقول للقاضي منذ بداية المحاكمة، ويصر على قوله. فيتأمل المتأمل؟ ! 3- المنع من الكتابة أم المنع من الحياة؟ ذكرنا أعلاه بأن القاضي الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الفنتوخ لم يصدره حكم المنع من الكتابة في حق المدعى عليه الدكتور المزيني، إلا بعدما أصر هذا الأخير على أن قضيته مع المدعي الدكتور البراك لا تدخل ضمن اختصاص المحكمة الشرعية، وأن وزارة الثقافة والإعلام أولى بهذا الملف باعتبار الاختصاص. غير أن إصرار القاضي كان أقوى وأشد، إن لم يصدر الحكم المذكور فحسب، بل زاد عليه وأقسى، وبالأخص لما أضاف عقوبة المنع من الكتابة، وهو أعلم بأن منعها شبيه بمنع الحياة وسلبها بالنسبة لرجل "احترف" الكتابة، وأصبحت له بمثابة الوجود الموازي. فأن تمنع كاتبا من الكتابة، بسبب حوار جرى بين متحاورين في مسائل تخص الرأي، ولا تتجاوزه لما يمكن أن يتسبب في انهيار صرح أخلاق المجتمع وتداعي بنيانه القيمي( من القيمةValeur)، فمما يدخل في باب "القتل بالقوة". ولا شك أن كل من مارس فعل الكتابة، و"اكتوى" بعشقها، كما هو حال الدكتور المزيني، سيدرك مدى فظاعة وفظاظة المنع من الكتابة، والحرمان من التوقيع بالاسم ما دام الاسم هو الذي يمنح الوجود للإنسان الذي تدور حوله فلسفة التنوير برمتها. فوحدهم الكتاب، ومن في معناهم، هم القادرون حقا على إدراك مدى فداحة مثل هذا الحكم وقسوته. لقد كان من الأولى للشيخ القاضي، وإن من باب تأمل تداعيات حكم المنع من الكتابة في حق المدعي عليه الدكتور المزيني، وحتى يكون أكثر انسجاما مع فهمه لفلسفة الشرع التي يدعي الاحتكام إليها؛ أن يفصل في الحكم أكثر فيأمر بقطع الجارحة التي صدر عنها فعل الكتابة الذي بموجبه مَثُلَ أمام المحكمة. وهو على ذلك قادر، فيأتي حكمه بقطع اليد اليمنى إن كان المدعى عليه يكتب باليمنى، أو بقطع يده اليسرى إن كان من أصحاب الشمال، أو يأمر بقطعهما معا إن كان قد صدر فعل الكتابة بهما معا.؟ وإذا كان "قاسيا" فبإمكانه، وتطبيقا لسلطته التقديرية" أن يحكم بقطع الرأس التي صدرت عنها تلك الأفكار و"السخريات"؛ أما إذا كان "رحيما"، فبإمكانه أن يصدر فقط حكما بكسر أقلام المدعى عليه، وإحراق كتبه، وإغلاق موقعه الإليكتروني، حتى لا تمتد "سموم" كتابته إلى غيره، ممن يخاف عليهم من قلم المدعى عليه، وما يمكن أن ينفثه فيهم من "ثقافة التغريب" وإشعال "نار الفتنة" بإفساد القيم والتعدي على الشرع، في "صفائهما"؟ ! ولا غرابة إذا وجدنا أحد أطراف المحاورة غير المباشرين، والذين "ناب" عنهم الدكتور البراك في رفع دعواه؛ ونقصد الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، وقد صنف الناس إلى أصناف، يستشف أن الدكتور المزيني يندرج ضمن صنف "سعاة الفتنة "، و"الصخابين في الصحف"، ممن يجب أن يوضعوا في محاضن تعليم آداب الإسلام، وتحت سياط المعلمين، ومؤدبي الأحداث "،. فذلك كان عبر وسائط متعددة، وطرق معقدة. فوجب التأمل؟ ! وبالجملة، فمن دون الإيمان بالحوار وسيلة وغاية لبلوغ الحقيقة، وتقريب وجهات النظر في قضايا خلافية، ومن دون التسليم بأنه لحظة ذهول وصدمة تساعد على زعزعة اليقينيات، وتنسيب المطلقات، نفسد عملية الحوار جملة وتفصيلا، ونشوش على مطلب التواصل المحدد لوجودنا، جملة وتفصيلا، فنتقوقع في "أقبية أوهامنا"، وننغلق على ذواتنا وهويتنا، في توحشهما، فنحكم على أنفسنا بالموت البطيء. إن ما جري بين الدكتور المزيني وزميله الدكتور البراك، وما آل إليه الحوار الذي دشناه بمناقشة مسألة التنوير بجامعة الملك سعود، ليس سوى مؤشر قوي، وعلامة دالة على ضرورة إعادة النظر في وسائل تحاورنا وتواصلنا، خاصة في زمن العولمة، وما تطرحه علينا كأمة من تحديات حقيقية خطيرة، عوض اصطناع خصوم "وهميين"، و"الانتشاء" بانتصارات زائفة. فمن دون طرح الأسئلة الحقيقة، والتحاور بشأنها، وفق الضوابط والآليات الصارفة للعنف والخلاف والشقاق، والمانعة من الوصول إلى قاعات المحاكم، ومن دون ترسيخ قيم الديمقراطية، وتوسيع مساحات الحرية، وإعمال العقل في معالجة أسئلتنا وصياغة أجوبتنا، وفي ظل جدلية تفاعيلة بين الأنا والآخر، نكون الخاسرين في كل الأحوال./.
#ادريس_جبري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حتى لا تكون المحاورة مغالطة....
المزيد.....
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
-
عالم سياسة نرويجي: الدعاية الغربية المعادية لروسيا قد تقود ا
...
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|