فيصل محمود طه
الحوار المتمدن-العدد: 5245 - 2016 / 8 / 5 - 22:20
المحور:
الادب والفن
مشاهد تأملية لرواية "كابوس الارض اليباب" لرياض مصاروة
رياض يأبى أن يحيك خرافة حول حكايته
بقلم: فيصل طه
رياض أجهده وأعياه الولوج في كابوس الأرض اليباب المتداخل في الأزمان والماثل حلما وواقعا مُلتسقين غير مُنفكّين.
أعياه واقع الدمار والخراب في" بلاد العرب أوطاني" الممتد من لحظة الخراب تلك، من النكبة، وما قبلها. وأدخله في لجّة كوابيس نومه في تشابك ملحمي كثيف وثقيل عصي الإفلات، مثير للخيال ولاتساعه, ولإبداع روائي, ولمسرحة المُمسرح, وليدنو بجرأة إلى جلبة أحدثها وأتاح لنفسه ولشخصياته الملاحقة المتبادلة، يلاحقها وتلاحقه فهو خالقها يحاول التحكم بها، فتتملص أحيانا وتسير وفق رغبته وهواه أحيانا أخرى، أشبه بلعبة تجاذب وتنافر مسرحي مثيرة، تتخللها حوارات وتساؤلات غاضبة صارخة وأسئلة فلسفية عميقة وأسئلة حادة مرتبطة بحالة التعب والإعياء من الملاحقة المتبادلة ورغبة في الراحة.
تعتلي في ذهن رياض المتوقد اسئلة عميقة في دلالاتها, أسئلة لا تفقد معناها في الطريق، تشير إلى الطيش والعجز والجهل والحماقة، "هل كنا بحاجة إلى أرض اليباب كي نطور وعيا؟", "ماذا تريد منا؟، لماذا خلقتنا؟، هل لتغطية عجزك؟"، ثم "هل كان علينا انتظار هذه المأساة لكي نبدأ بالتعلم؟"، "هل سنبدأ مجددا في خلق الأساطير لأننا لم نخلق عالما خاليا من التضاد بين الخير والشر؟"، "لماذا سمحت قوانين الآلهة لطفل أن يذبح إنسانا؟"، "أين كانت الآلهة عندما اغتُصبت تلك اليزيديّة؟"، "هل تبحث شخصياتي أنا عن وجود في السكون الأبدي؟"، "هل ستتحول حياتنا إلى صدى عندما نفقد مكونات الوجود؟"، "هل سيتحول الكابوس إلى صفاء؟"، "ألا يكفي هذا الدمار الذي أنجزه التخاذل؟"، "ماذا حصل؟، ماذا حل بنا؟، ماذا سيحل بنا؟".
يدخل الراوي نفسه وشخصياته والقراء في دائرة مثقلة بتساؤلات عقيمة الإجابات, ولو إلى حين, ليحمّل كابوسه همّا ومسؤولية.
تأثر حتى الارتجاف من هول وعظمة قصيدة الشاعر العالمي ت.س آليوت "الأرض اليباب", التي كتبها بعد الحرب العالمية الأولى، وقد أدخلته في كابوس لخراب جاثم الآن على الأرض العربية كلها فأنهكه تواصل الخراب باليباب واليباب بالخراب، ليرتسم أمامه مشهدًا واقعيا يستبق الماضي من مستقبل لم يأتِ بعد، مشهدا يبابيا كما صوّره آليوت، "حتى الصمت لا يوجد في الجبال، بل رعد جاف عقيم بلا مطر... لكن ليس ثمة ماء.. تنتشر زاحفة على بعضها في أرض اليباب جرذان تقضم عظام الموتى" حالة خراب سرمدية لا تنفك عن الالتصاق بحالنا الدامي.
أبدع الكاتب في انتقاء واستنهاض شخصياته الرمزية على خشبة اليباب والتي أدخلت نفسها في حوارات اتخذت أبعاداً فكرية وفلسفية تتشابك فيها الآمال بالآلام، الأفراح بالأحزان، والعام بالتفاصيل، لتتجلى أمام المشاهد لحظات ينكفئ فيها اليباب محشوراً في الزوايا الخلفية لمسرح يعج حضورا متفاعلا نابضا بتوتر مشدود مشوب بتصادم طاقات الحياة الآملة وأحيانًا الخائبة في فضاء خلّاق يبدد خجول الشمس, ويلفحنا بنسمة ريح لطيفة وبسمة واعدة بقطف الزنبق من ثرى رحاب الأحبة.
تتجلى أمامنا في هذه الجَلَبة الصامتة الرتيبة عراك ساكن يبحث جاهدا عن وهج قطرة طل تسلخ شخصياته عن ماضيها الآتي من المستقبل, وتنزع الخرافه عن حكاياتها لتصنع حكاية نقية وخالصة من الخرافات والأساطير, أو لانعدام حكاية أي حكاية.
يقترب رياض, يرقب شخصياته، يدعها لشأنها أحيانا, ويتمسك بها أحيانا أخرى، يخاطبها، يخاطب نفسه في دائرة كابوسه منتجا حالة حوارية متشعبة، حالة تنساب الصور فيها وتتسابق في الظهور من خلال شخصيات الرواية التي في غالبها أنثوية، فهذه فتاة الزنابق الدمشقية، الفراتية، لا تريد الموت, تبحث عن زنبقة حمراء في هذه الأرض اليباب, تنتظر الخلاص من المخلّص, وتنتصب الفارعة، فارعة فلسطين والقدس تجرجر جماجمها وتاريخها المدمّى, تحمل حكايتها وتحميها, وتعتلي سلمى الحلبية "ميديا" حلبة المسرح جاهدة تبحث عن براءتها من تهمة قتل أطفالها، سلمى تظهر عميقة صارخة جريئة.
يقف رياض أمام شخصياته ومن خلالها جريئا صريحا بعيدا عن الرمزية "علينا ان نحرر انفسنا من الرموز", ويظهر مهارة في التقاط الصور لجماليات أرض اليباب!! فتبدو "فارعة الجميلة بشعرها الُمسدل على كتفيها وظهرها المنتصب، تحول رماد شعرها إلى سواد ليل لا يشوبه ضوء قمر", "بريق عينيها أضاء الفضاء بدلا من خيوط أشعة الشمس الخجولة", "تجولت بنظرها إلى السماء المليئة بشذرات غيوم تتراقص فيما بينها متلاشية في ضياء سماوي يرفض الأزرق, ويغازل الرمادي المتوجه نحو السواد".
ثم يتناول صورا مأساوية كثيفة لحالنا اليبابي النكبوي, صورا تهزنا من الأعماق "تحاول إرضاع طفل لا روح فيه, لكن فمه ظل عالقا في حلمة ثدي أمه التي لفظت أنفاسها الأخيرة", "شردونا نحو الضفة الشرقية من الأردن, نجحت أن أهرب.. عدت باتجاه القدس حافية, متسخة, جائعة.." , "أبا يدفن ابنه في منتصف الطريق كي يكمل تشرده", "اختطفوها مع مئات النساء, اغتصبوها , ونكلوا بها, وزرعوا جنينا في بطنها.." , "رفعت رأسي إلى السماء فاغرة فمي لأشرب قطرات المطر", "كان همّي إنقاذ عظام سمية, وعظام أدهم وعظام نور وعظام بهية ..", " اتساع الدمار وصل إلى القدس, أريحا. رام الله, جنين, بيت لحم والناصرة..", و "الأرامل في حلب ودمشق وبغداد والرمادي وطرابلس", "أًختطفوا ليحوَّلوا إلى جنود قاتلي أمهاتهم وآبائهم دون أن يعرفوا", "طفل قرّر ترك اسمه في حلب".
يداهمنا بموقف صارخ جريء صريح لا لبس فيه اتجاه المفكرين والمثقفين المرتزقة الذين تخلوا عن مسؤوليتهم الوطنية والإنسانية, "أولئك الأنذال الذين لم يتوانوا عن بيع أقلامهم.. ببضع وريقات خضراء", "تنام في فنادق تشرف على الكعبة, وتحلم بحسابك البنكيّ في مصارف أهل البعير, أيّها المثقف..", "أنتم الذين أدخلتم حصان طروادة إلى بلدكم".
يصرّ على البقاء "علينا البقاء في أرضنا حتّى لو بقيت خراباً", "يحلم ببقاء ما تبقّى من وطن".
ويحذّر من التأثر بالروحانيات الى درجة عدم الواقع "لا تدع لروحانياتك إلى أن تجعلك غريباً وبعيداً عن واقعك, وأن تسلخك عن المعاناة اليومية على الحواجز بين بيت لحم وبير زيت".
يستقدم سلمى الحلبية، درة الشام، لتروي رأيها بالازمنه المثقلة بتلك الاساطير الموغله في القدم التي اوصلتنا الى هذه "السلخانه الانسانية", اساطير محتواها بطولة مزيفة توارثناها، ثم انتصبت على خشبة مسرح الخراب قائلة قول رياض، "ارفعوا رؤوسكم وفتحوا عيونكم وايقظوا ما استطعتم من خلايا ادمغتكم العفنة.. "، وتصرخ صرخته ضد تجار الدين " تلك الغيوم السوداء التي امطرت شهبًا سوداء مُرصَّعة باسم الله والرسل, ومُرصَّعة بسيوف الدين والشريعة, وبالسيوف السوداء في تاريخ هذه الامة ..."، وتكمل صرختها الجريحة " هل هي الاساطير التي تتحكم بنا ؟".
لماذا هذا الاصرار على انهاء دوره وترك حلبة المسرح، اهو اشارة الى ترك الحكايه والخرافة؟ ليُفزعنا "بسقوط الجسد ليتأرجح في فضاء خاو، في فضاء العقم في فضاء اللا فضاء"، في دورة الزمن اللا زمن لنصرخ نحن عاليًا لا... لا... لا.
لماذا لم تختر الموت بطريقتك؟ لقد صرخت بعيدًا عن الهذيان باحثًا بعد تجوال في فوضى حلمك عن الحلم في الحلم " لقد ولى زمن المعجزات، هذا هو الياسمين يناديني، الياسمين الذي زرعه رسامي في ساحة الدار"، "ما دمتم تؤمنون بالخرافات من أين يأتي أي فرج" ، " اننا خلقنا هذه الخرافات واصبحت جزءا من حياتنا " وتقرر الفارعة " لن انتظر بداية خرافة جديدة، سأترك هذا الفضاء الذي سيمتلئ بخرافات جديدة، سأرحل الى مكان يرفض الخرافات ، يرفض المقدس" وتنتفض شخصياته " أنا فتاة الزنابق، وانت يا فارعة، وانت يا سلمى، لم نعد نؤمن بالخرافة .."، وتصرخ الفتيات محتجة "لماذا أعطيتنا هذه الادوار؟ لتغطي على عجزك؟" ويطلقون بسمة الامل واستعادة الرعد لصوته, ليخاطبن الطفل بأن "الجرذان اختفت والزنبقة الحمراء ستنبت على ضفة النهر ايها الطفل" .
لقد اقتحم رياض ملحمة عالم اليباب بجهوزية وحصانة فكرية ونفسية مكّنته, ولو الى حين, من الصمود المُنهِك مدركا صعوبة الخوض فنيا وفكريا ونفسيا في تفاصيل عالم نازف لانسانيته, مدمّر للطبيعة, مزيِّف للتاريخ, ممزِّق للامل, تتجاوز أحداثه وناسه مساحات كابوسه العالق في حلمه الى رحاب كابوس واقعي شرس, يلامس مباشرة اليَبابَين, لينتج حالة تتلاشى فيها الحدود بين الواقع والخيال ليصبحا وحدة متراصة ينعدم فيها الهروب من أحدهما, لاحقه الاعياء في يقظته حين الهروب شوقا للراحة, اجتهد في ايقاظ قواه وانطلق ململما أنوار أمله الى فضائه, فاتحا للشمس ممرا في السماء ليحررها من خرافة قبضة "بن نون" ويدفعها من فوق ابواب واسوار اريحا لتكمل مسارها الحتمي الى شروق جديد, وشرق جديد.
طوبا لك على هذا الانجاز, فسلام لك وعليك وسلام لمستقبل لن تُحاك خرافة حول حكايته.
فيصل طه
صفورية- الناصرة
#فيصل_محمود_طه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟