|
الايمان بالآخرة والجنة الموعودة في العقيدة المانوية
عضيد جواد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 5245 - 2016 / 8 / 5 - 07:14
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ان الايمان بالآخرة ما كان له ان يكون ايمانا هنديا حقيقيا لو لم يخصص نصيبا للمخلوقات المؤنثة الجميلة التي يلتقي الصالحون بها في السماء او ( براهمالوكا) ، كما ان دراسة التراتيل المانوية ترينا انها لم تهمل عذارى الجنة الموعودة ، وعندما يلتقى الانسان الصالح في المانوية مع ذاته السامية على شكل عذراء الهية رائعة ، او فتى وسيم مفتول، فانها ترافقه او يرافقها في الطريق الى الجنة ، ونقرأ هذا في قطعة نحتية صغدية مكتوبة ( متحف وسط لندن )، وتواصل هذه القطعة شرحها قائلة : " سيقترب الانسان الصالح اثر موته ما لا يقل عن ثمانين ملكا من الجنس الآخر مزنين بالورود ويحضّونه على التقدم نحو جنة النور ليتذوق السعادة هناك " ان اشد اللحظات تأثيرا في جميع المعتقدات الايرانية المتعلقة بالآخرة هي تلك التي يصادف فيها الانسان الصالح المتوفي ذاته السامية على شكل فتاة جميلة في الربيع الخامس عشر من عمرها ، تخبره انها هي روحه ، ويتضح هنا تماما ان المفهوم والرمز المانويين هنا مقتبسان من الايمان الايراني القديم المتعلق بالآخرة .
ودعيت الفتاة السماوية التي تجسد اعمال الانسان على الارض ، والتي تأثرت صفاتها ومظهرها بهذه الاعمال في النصوص الزرادشتية بإسم ( كونسن ) " أي سلوك الميت " . ويشغل الرداء الممنوح للروح الصاعدة ، حسب الرأي المانوي ، دورا هاما في النصوص الزرادشتية المكتوبة بالايرانية الوسيطة ، وفي النصوص العرفانية ذات المنشأ الأيراني ، وهذا صحيح بشكل خاص بخصوص ترتيلة اللؤلؤة ، وبناء عليه يوجد هنا رمز آخر اقتبسته المانوية من العرفانية الايرانية . وخدمت اعمال التقويم بعض الآراء الشائعة العائدة للمصطلحات الغنوصية والمانوية في تقديم المظاهر الرئيسية للايمان المانوي بالآخرة بقدر ما يتعلق الامر بأرواح الصالحين . واما فيما يتعلق بأرواح الاخرين فقد كانت عقيدة ماني عقيدة تقمص ، ولربما جاء هذا كمسألة استيعاب للبوذية ، مع انه يجب عدم استثناء تأثير الفيثاغورثية المحدثة ، ومن الغريب ان التقمص قد دعي في النصوص القبطية بعبارة هي في الاغريقية تعني " إعادة الصياغة او التشكيل " ، ومن المحتمل ان هناك وراء هذا الاستخدام للكلمة افكارا ايرانية ــ هندية قديمة حول كون الانسان نتاجا لصانع ( حداد) سماوي يوجب على كل روح ان تملأ بالعزيمة ( تصبح فولاذية ) خلال النار ، حتى تكون مهيأة لاجتياز عملية الانبعاث الروحي داخل الأتون المشتعل ، وتعالج الحكايات الايرانية القديمة حول إله البرق الموضوع نفسه . ولم يكن الايمان المانوي بالاخرة ، حسبما تعلق بالفرد وأثر به ، متطابقا مع المستقبل المعد للعالم بصورة عامة ، والتفسير الذي يجب تتبعه حول هذه المسألة ، هو ان ذرات النور الخالد لم يتم وقفها على الارواح البشرية ، بل كانت قد تم توزيعها في كل مكان ، في الطبيعة ، في النباتات ، والاشجار والفواكه ، وفي المخلوقات الحيوانية ويمكن بوضوح استخلاص جزء من المواد للأسفار الايرانية ، فمثلا تتحدث قطعة أثرية تركية مانوية عن ايام الآخرة عندما سيظهر "مثرا" المزيف الذي يكون الثور مطيته والحرب علامته ، وتؤكد مختلف التقاليد الموروثة ، ان الإله مثرا المخلص كان له مثرا مزيف ، وهو بمثابة نظيره الاخروي . ومن المحتمل ان الحدث المتعلق بمثرا المزيف قد كان جزء مما يسمى بـ ( الحرب العظيمة )، وهي الدراما للرؤية الاخيرة التي ظهرت الى حيز الوجود بشكل خاص في المواعظ القبطية ، وكانت عبارة ( الحرب العظيمة ) اسما قد اقتبسه ماني من المصطلحات الايرانية ، وهي العبارة نفسها التي استخدمت في الاوصاف الرؤية الزورانية . وتم التنبؤ نتيجة هذه المواجهة الحاسمة على انها انتصار لمعبد الصلاح ، اي جمع الصالحين ، كما ستجتمع جماعة المصلين المتبعثرة من جديد ، وسيتم تحديد المعبد وانقاذ الكتب المقدسة المعرضة للخطر ، واتمام انتصار المانوية ، وسيأتي الجيل الجديد ويستحوذ بقوة على ممتلكاته وسيحظر الملك العظيم ويتولى السلطة ، وسيقدم الجيل الجديد له الطاعة ، وستقوم القيامة اثر ذلك ، وذلك عندما ستجتمع الارواح امام العرش ، وسيتم فصل الخير عن الشر ، والغنم عن الماعز . اذ تستخدم النصوص المانوية بعض الاوصاف الاستعارية للعهد الجديد والمحافظ عليها . ويعكس كل من الجزئين المتبقيان من الشابورقان ( كتاب ماني ) والمواعظ القبطية وجهة نظر ماني حول هذا الموضوع ، وتظهران ان ماني كان منسجما الى درجة كبيرة مع مفاهيم مسيحية حقيقة ، هذا من ناحية ، اما من ناحية اخرى فان لقب الملك العظيم مأخوذ من ( الهامات هيستاب ) الرؤية الايرانية ، وهي سلسلة من النبؤات كانت منتشرة في منطقة الشرق الوسط في القرون التي انصرمت قبل ميلاد المسيح . واستطردت العقيدة تقول ( ان يسوع سيحكم في الارض لمدة قصيرة من الزمن ، ثم ان المسيح سيترك مع النخبة والآلهة الكونية الحارسة للعالم ، وسيعود معهم الى مملكة النور ، حيث تحصل النهاية عملية التطهير ، وسيتم جمع ذرات النور تلك التي مايزال انقاذها ممكنا لتشكل نصبا نهائيا " ان كلمة انديانزــ هي العبارة المستخدمة في النصوص القبطية " حيث سيتم رفع هذا النصب الى السماء مثل عمود ضوئي كوني ، وسيتم بعد هذا مباشرة الغاء القبة السماوية ذاتها ، وسييقذف الملعونون والشياطين وعالم الظلام بعضهم مع بعض على شكل كتلة بشعة ، وسيتم اغراق هذه الكتلة في اعماق أخدود ذي امتداد كوني سيتم عندئذ بصخرة عظيمة ) ..
أنهى ماني وصفه لسير العالم بهذه الرؤى الكونية الفخمة ، ووصل بالتالي الى نهاية الطور الثالث ، فقد اشتمل الطور الاول على وضع الكون قبل مزج الظلام والنور ، واهتم الطور الثاني بمدة ذلك الاختلاط ، ودل الطور الثالث على فصل العناصر المختلطة ، وتعد هذه العقيدة ذات الشُعب الثلاثة مع المبدأين الاثنين عقيدة المانوية الرئيسة . ويُظهر التقسيم الثلاثي للزمن في النصوص الزرادشتية ــ البهلوية حيث تحتوي عل صيغ : ماهو كائن ، وما كان ، وما سيكون ، لكن هذا النمط اقدم من ذلك بكثير وموجود في سجلات ( وبانيشاد) الهندية وهي من اصل هندي ــ ايراني . ويتتبع نهاية الكون كما تم تخيلها يمكن الافتراض ان سير العالم سيكون بعودة الاشياء الى الحالة التي كانت قائمة قبل خلط النور والظلام ، وكأنما كان هذا إرجاعا حقيقيا بالفعل ، انما على الرغم من التكلم بهذا الخصوص عن ارجاع الطبيعتين، يبقى هناك اختلاف ، لان قوة المادة والظلام لن تكون قادرة بعدئذ على تجديد الهجوم على عالم النور ، وسيواصل كل من مبدئي النور والظلام وجودا منفصلا ، ومع ذلك فان الآراء تتباين حول كمالية عالم النور ، فقد صرحت المدرسة الاولى ان إله النور كان قادرا على استعادة جميع ذرات النور المفقودة ، بينما ردت الثانية ، وقد كانت اكثر تشاؤما ، بقولها انه قد تم فقدان جزء من النور الى الابد ، وكان لذلك الجزء جزء لاحق ليوم الحساب ليشارك الاحتجاز الابدي للظلام مع المادة .
ويقينا ان عقيدة النهاية المزدوجة التي اعلنت المدرسة الثانية عنها تقترب من التشابيه والرموز التي استخدمها ماني ، هذا من ناحية ومن ناحية اخرى من المحتمل انه لم يتكلم بوضوح كاف حول هذه النقطة الخاصة ....
#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عيد الوليمة المقدسة والعشاء الربّاني في المانوية
-
التعميد عند المانويين
-
التنظيم اللاهوتي والعقيدة المانوية ( الحلال والحرام )
-
ترتيلة الروح (اللؤلؤة ) الرافدينية
-
أمراء الكورد البوتانيين في طور عبدين
-
الآراميون والوطن الأم ( الرّها )
-
ملحمة نيوما ايليش البابلية ( اسطورة الخلق )
-
كنيسة القيامة.. خربت ثم قامت
-
عراقيون منسيّون .. الأقليّة السوداء في العراق
-
الطب الإغريقي وأثره عند المسلمين العرب
-
الثورة العراقية 1958 برؤية برفيسور أمريكي
-
أحكام الإعدام للمرأة الايرانية في الجمهورية الإسلامية
-
المرأة الايرانية ..بين عنف الدولة وعنف المنزل
-
المرأة الايرانية..عقل نيّر، وحق مهضوم
-
نبوخذنصر.. لم يكن مجنونا !
-
الرؤية الفلسفية لكلكامش
-
ممالك الأخلامو الآراميين
-
موطن السومريين في بلاد مابين النهرين
-
من أسرار حضارة قرطاج وعبادة بعل هامان
-
كيف كان يحكم الملك الحكيم حمورابي؟
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|