|
الفصل الثالث من الرواية: 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5238 - 2016 / 7 / 30 - 02:42
المحور:
الادب والفن
المطر، كان قد توقف عن الانهمار. وها هيَ الشمسُ الكريمة، تُسهم بنشر مَشام التراب المبتل. ليسَ ثمة فرصة للحديث بصراحة مع " خدّوج "، فكّرَ الخطيبُ عندئذٍ، إلا وهما يخطران على طريقٍ مغروسٍ بأشجار الليمون والبغايا. وكان قد نقلَ لخطيبته كلامَ صهرها بحق شقيقي، مما جعلَ مرحها يتبخّر: " باظ، باظ! " *، رددت بمزيدٍ من السخط. وأضافت تتساءل بمرارة: " كيفَ يعطي الحقّ لنفسه بإهانة ضيوفنا؟ أو هوَ يعتقد بأننا نعولهم من كَرَمِهِ، العقيم؟ ". هزّ الخطيبُ رأسَهُ موافقاً على حصافة رأيها، ثمّ ما عتمَ أن راحَ يشتكي من حال شراكته مع ذلك الرجل: " كم يؤسفني انخداعي به، لأكثر من عامين. ليست المسألة حَسْب، تجاوزه لكلّ ما يعرفه المرءُ عن صفات الشخص البخيل واللئيم والأنانيّ "، ابتدأ يقول لخطيبته فيما كانا يواصلان السيرَ على رصيف الشارع ذي الاسم الملكيّ. إلا أنه أستدركَ حالاً: " شقيقتك سُمية كانت دائماً، ولا شك، السبب في إحترام الناس لزوجها "، قالها بنبرة تملّق لم تخفَ عن الخطيبة. واصلا السيرَ في أفياء أشجار النخيل، التي تنمو غالباً على شكل أسرٍ متآلفة سواءً في هذه العَرَصَة أو تلك الفيلا. أحياناً، كانت هذه النخلات تذكّر " رفيق " بفردوس الرافدين، المفقود. أما شارع محمد الخامس، العريض والممتدّ من مخزن مرجان في بداية غيليز حتى منارة الكتبية، فلا بدّ أن يعيد ذكرى أمسيات شارع الشانزيليزيه، المُنتهي أيضاً بصرح عظيم؛ قوس النصر. معرفة " رفيق " بالشريك الفرنسيّ، كانت بدَورها على خلفية صفقة تجارية. فلم يكن للمصادفة الأدبية، التي لحظناها في حالات أخرى، ذلك الدور الكبير. اللهم إلا إذا كان الأمرُ يتعلق بمحطات رحيل " رفيق " من بلد إلى آخر، ومن أوصلته أخيراً إلى مدينةٍ في شمال أفريقيا لم يُفكّر يوماً باحتمال وجودها سوى في أغنية شهيرة لفريد الأطرش*. ثمة إذاً، في الساحة الرئيسية لحيّ ملكوف الباريسي، كانت واجهة أحد المطاعم الشرقية تلفتُ نظرَ المرء بلافتة تعلن عن الرغبة ببيعه. " إريك "، كان يقطن في عمارة مطلة على ساحة هذا الحيّ، المؤسَس من لَدُن المهاجرين الروس البيض. كان قد سبقَ وارتاد ذلك المطعم في أكثر من مناسبة، أي حين كان يُدعى من قبل أحد الأصدقاء. شيمة الحرص، بالمناسبة أيضاً، كانت تمنعُ المهندسَ المعماريّ المرموق من تبذير النقود في المطاعم، طالما أنّ رفوفَ مطبخ شقته ذاخرة بمطربانات البقول الفرنسية والكسكس المغربي والمعكرونة الإيطالية وحتى الرز الهندي. بيْدَ أنه، في المقابل، لم يكن يفكّر بهذه الأشياء حين وقفَ ذاتَ يوم أمامَ تلك اللافنة. أحد توأميه، وتحديداً الأكبر من شقيقه بنصف ساعة، كان آنذاك يبحث عن محل مناسب لافتتاح عيادة جراحة أسنان. " إنه مطعمٌ معروف، يرتاده كثيرون هنا. فلو تمّ تحويله إلى عيادة، لكان حرياً أن يكسَبَ أولئك الزبائن ممن يتلفون أسنانهم بأكل البيتزا والهمبرغر! "، هكذا فكّرَ المهندسُ المعماريّ على الأرجح. من ناحيته، كان " رفيق " يسعى لبيع المطعم بهدف استثمار المال في مشروع آخر، وفي دمشق هذه المرة. مناخ باريس البارد، المُتخم بالغيم حتى بأوج الصيف، جعلَ الرجل يحنّ إلى أيام الشمس في مدينةٍ تعجّ بمواطنيه ولديه فيها صداقات تمتّ لنشاطه السياسيّ الفائت. غيرَ أنّ المبلغ المطلوب للبيع، كان كبيراً بالنسبة لإبن المهندس المعماريّ, في واقع الحال، أنّ المقصود هوَ " المال الأسوَد " المتعيّن على البائع قبضه من تحت الطاولة، ومن جعلَ آخرين أيضاً يحجمون عن شراء مطعمه. الصفقة المُتعثّرة، في المقابل، أتاحت للبائع الملول مزيداً من التفكير في موضوع الإنتقال إلى دمشق. ففي الأثناء، توطّدت علاقته مع المهندس المعماريّ المتزوّج من مغربية. كونهما جارين في منطقة واحدة، جعلهما يتبادلان الزيارات أحياناً. هذه الصداقة، عليها كان أن تتعزز مذ أن ألتقى صاحبُ المطعم في إحدى تلك الزيارات مع " نجيمة " . ابنة خالة " سُمية "، كانت وقتئذٍ قد ترمّلت باكراً على أثر زيجة قصيرة مع رجل أعمال فرنسيّ أنجبتُ منه ابنة.
*** لم يخطر ببال " خدّوج "، مجرّد التساؤل: لِمَ أرادَ خطيبها بعثَ ذلك الحدَث، الذي جدَّ على مائدة الغداء، بعدما طُويَ بوصفه مجرّد سوء فهم؟.. وعندي الجوابَ، بطبيعة الحال: لأنها رسالة غرام، من المفترض أن تصلَ إليّ بالذات عن طريقها هيَ. لقد كان الخطيبُ عندئذٍ، وعلى مرجوح الظنّ، يُفكّر بصيد سمك المتعة في بحيرتي بعدما فقدَ الخيرَ في الأخرى. أو ربما شاءَ أن يحلّ عقدة نفسية قديمة، حسرة ما، ترسّبت في خصيتيه خلال فترة إقامته في دمشق. هوَ من كان آنذاك مفتقَراً، لدرجة الخجل من ملابسه أثناء التسكّع على طوار بوابة الصالحية، فيما الحسانُ الشاميات يخطرنَ ثمة. وكما أسرَّ لشقيقي في وقتٍ لاحق، فإنه أضطرَ في سبيل تحسين وضعه الماديّ إلى الإستهتار بتشديد الحزب على الرفاق العراقيين بعدم الحصول على صفة لاجئ سياسي في سورية خشية وقوعهم تحت تأثير الأجهزة الأمنية. بعد ابتعاده عن الحزب الشيوعي بفترة قصيرة، أنصل معه مسؤول في حزب الدعوة الشيعي عن طريق صديق مشترك. على الأثر، تحسّنَ وضعُ " رفيق " وصارَ من الممكن أن يفكّر برواء في أمر لجوئه إلى دولة أوروبية غربية. وهوَذا في مراكش أخيراً، يتباهى أمام المقربين بكونه صاحب تجارب جنسية عديدة خلال عقدٍ من أعوام المنفى. أجل، كان يُحبذ صفة " المنفيّ " بالإحالة إلى طول نشاطه الثوريّ، الشيوعيّ والشيعيّ على حدّ سواء. لم يكن يرى أيّ مفارقة في جمعه بين الأضداد، مُحيلاً الأمرَ هذه المرة إلى تعمّقه في أيام الشباب بدراسة الديالكتيك. على ذلك، اتخذَ فكرة ثابتة عن المجتمع المغربيّ إعتباراً من تعرّفه على " نجيمة " وشلة مواطناتها، اللواتي أحطنَ بهما في باريس: " التشيّع، لا بدّ أنه ثقافة عميقة الجذور عند المغاربة وعلى الرغم من تمظهرهم بالمذهب السنّي. الأمرُ، ليسَ متعلقاً حَسْب بإحياء عاشوراء وتقديس رموز آل البيت. فلا يقلّ أهمية أيضاً، ما يلحظه المرءُ من عمق التديّن لدى المغربيّ، وفي آنٍ واحد، نزوعه الشديد إلى المتع الجسدية بإباحية لا يمكن تصوّرها في أي مجتمع سنّي آخر "، قال لشقيقي في إبّان تلك المساررة. ما كتمه الخطيبُ عن " فرهاد "، كان عليّ أن ألُمّ به عن طريق الخطيبة: دَعيّ الورع هذا، كان قد نسيَ تماماً موضوعَ الحجاب، آنَ علمه باستعداد " خدّوج " لمرافقته إلى شقة الإيجار. هذه الشقة، كما سلفَ وعلمنا، كانت تقوم في حيّ غيليز. كانت إحدى ثلاث شقق في الطابق ما قبل الأخير من عمارة حديثة تقع تحت ظلال فندق " السفراء "، الكبير. كانت شقة فارهة، من ثلاث حجرات، تحتوي على كلّ التجهيزات الضرورية لراحة السائح القادم من أوروبا. " إريك "، مثلما سبقَ القول أيضاً، كان قد شاءَ العيش ثمة مع شريكه. في اليوم الأول لحلوله بالمكان، ألقى نظرة مرتاعة على الصالة: " أوه، لا! إنها مرتع للقمامة مثل أي شيء في مراكش! ". بقيَ يطنّ في أذنيّ شريكه حول النظافة المفقودة، إلى أن طمأنه هذا بأنّ ثمة خادمة تمرّ دورياً على الشقة. في صباح اليوم التالي، كان الشريكُ الفرنسيّ بمزاج رائق حينما راحَ يُتابع الخادمة وهيَ تكنس أرضية الصالة، المفروشة بزربية أثرية: " أنظري، هنا بعض الغبار على الأريكة! هل وضعتِ لفة ورق تواليت في الحمّام، فلا غنى لي عنها! "، دأبَ على الطنين في أذن الخادمة. هذه، كانت فتاة شابة، غائرة الملامح وقصيرة القامة. عندما همّ " رفيق " بالخروج من الشقة، كانت هيَ ما تزال في المطبخ تهتمّ بغسل الثياب. " أريك "، قال أنه سيبقى قليلاً. ولكنه ما عتمَ أن طلبَ من شريكه مبلغاً صغيراً من المال: " أحتاجُ لخمسين درهماً، وأعتبرهم ديناً عليّ! "، قالَ متنحنحاً في شيءٍ من الحَرَج.
*** فكرة رسالة الغرام، عليها كان أن تُنعِظُ الفاسقَ طوال الطريق إلى شقته المفروشة. ثمة، لن يلبث أن يغرسَ تحميلته الطويلة والنحيلة في الثقب الضيّق للفريسة، السهلة المنال. مساءً، تعود هيَ من غيليز، فتصعد إلى حجرتي لكي تعيد سرد أدق تفاصيل مغامرتها اليومية. هكذا إعترافات، لو صحَّ التعبير، عليها كان أن تخففَ قليلاً من شعورها بالذنب ـ كما هوَ فعلُ الصلاة عند بعض عواهر غيليز، حين عودتهن إلى أوكارهن البائسة فجراً وقد هدهنّ الارهاق الجسدي والنفسي. لو كانت " خدّوج " أكثر غيرة، ولا أقولُ ذكاءً، لكنتُ قد حذرتها عندئذٍ ولو تلميحاً من مغبّة الاستسلام لذاك المأفون. وأعترفُ، من ناحيتي، بأنني كنتُ مجروحة الكرامة لمجرد أنّ شخصاً كهذا يُمكن أن يمتلك الثقة بالنفس لمحاولة إغوائي: فكرة هدم المعبد على رؤوس الجميع، كان سببها امرأة *. ما أثار حفيظتي، فوق كل شيء، أنني كنتُ مُعَرَّفة بطبعٍ مُتحفّظ يمنع أياً كان من التمادي معي. وإذا بترسي يهتزّ تحت وقع ضربات سيوف أشباه رجال، كنتُ حتئذٍ أتبسّم ساخرة لمجرد ذكر ألقابهم أمامي؛ " الخطيب " و" الطبيب " و" فاعل الخير ". هذا الأخير، ربما كان آنذاك أقلّ سوءاً من الآخرين بسبب شخصيته المتّسمة بالصراحة والبساطة وحُسن الطوية. ولعلها من الصفات الموروثة غير المكتسبة، التي استفاد هوَ منها في كسب ثقتي لاحقاً ومن ثمّ توريطي في أعماله غير المشروعة. مهما يكن الأمر، فإنّ " سيمو " كان دليلي إلى عالمٍ آخر، مختلف ومبهر، كنتُ أتصوّر استحالة وجوده خارج الأفلام السينمائية. على أثر ذهاب " خدّوج " إلى الشقة الأرضية، خرجتُ إلى الشرفة كي أتنفّس نسيمَ الخريف المُفعم بعبق مراكش المسائيّ. الشارعُ ذو الاسم الملكيّ، كان حافلاً بحركة الحافلات المزدحمة بالركاب، المتّجهة بهم إلى حيّ المسيرة عبْرَ مخزن مرجان. القمر، بدا وكأنه ما يفتأ مُعتلٍ البرجَ الأيسر لمدخل السور الرئيس مذ ليلة وصولنا للمدينة قبل ما يزيد عن الستة أسابيع: " كم من وقائع مرّت علينا هنا، وكأننا قضينا أعمارنا في خضمّها؟ "، فكّرتُ وأنا أتنسّمُ بعمق الهواءَ المنساب بنعومة على بشرتي. عند ذلك، تحرّك فيّ الحنين لإمساك القلم وخطّ ولو أسطر قليلة في دفتر اليوميات. فما أن هممتُ بالتحرك من مكاني، إلا وجمّد خطوي مرأى شبحٍ يجلس منزوياً على مقعدي الأثير عند طرف رصيف الشارع، المقابل لمبنى الفيلا. لوهلةٍ، بقيتُ أدقق بهيئة الرجل على بصيص الأنوار الخاطفة للسيارات: " ولكن، رباه! أمن الممكن أن يكونَ المهدي البغدادي؟ "، هتفَ داخلي بمزيدٍ من الدهشة. ...........................
* يا له من شحصٍ بارد! * أغنية " بساط الريح " * حكاية " شمشون ودليلة "
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل الثالث من الرواية: 3
-
الفصل الثالث من الرواية: 2
-
تخلَّ عن الأمل: الفصل الثالث
-
سيرَة أُخرى 37
-
الفصل الثاني من الرواية: 7
-
الفصل الثاني من الرواية: 6
-
الفصل الثاني من الرواية: 5
-
الفصل الثاني من الرواية: 4
-
الفصل الثاني: 3
-
الفصل الثاني: 2
-
الرواية: الفصل الثاني
-
سيرَة أُخرى 36
-
الفصل الأول: 7
-
الفصل الأول: 6
-
الفصل الأول: 5
-
الفصل الأول: 4
-
الفصل الأول: 3
-
الفصل الأول: 2
-
الرواية: الفصل الأول
-
سيرَة أُخرى 35
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|