|
الفصل الثالث من الرواية: 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5237 - 2016 / 7 / 28 - 22:39
المحور:
الادب والفن
كوني قد غدوتُ عضواً في الأسرة، أتاح لي ولا غرو أن أحظى بمعرفة كل من يمت لها بصلة قرابة أو صداقة. " الشريفة "، لم تكن آخر من تعرّفتُ عليهم في هذا المنزل الكريم. ابنُ شقيقة زوجها، " غني "، جاء بعدها بأقل من أسبوع. عصر ذلك اليوم، كنتُ ما أفتأ أتمتع بالقيلولة وكأنني في سبيل التوجّه إلى عملٍ ليليّ مُضنٍ. ولعلني أًحْسِنُ بذكر خِزْيٍ آخر، وهوَ أنّ خصلة الكسل قد منعتني من خط سطرٍ واحد في دفترٍ خصصته لكتابة يومياتي. وليسَ تبريراً ما لو أكّدتُ، بأنني شئتُ التروي في البدء بالمشروع لحين حلّ هذه المعضلة: أيتعيّن عليّ الكتابة بضمير الغائب أو بصيغة المتكلم؟ هكذا سؤال، قد يبدو فنياً خالصاً لدى أولئك الأدباء، المحظوظين بكونهم غير منتمين للشرق الإسلاميّ. لأنه سؤالٌ، يُحكم عليه عندنا من منظور آخر مُختلف تماماً. فإنّ من السهل، على سبيل المثال، تكفيرُ كاتبٍ أجرى في روايته حديثاً مُجدّفاً على لسان أحد أبطالها أو نقلَ إليها معلومة تاريخية عُمرها ألف وأربعمائة عام عن مصدرٍ أصيل: كذلك كان حالُ صاحب رواية " آيات شيطانية "، التي أغضبت مؤخراً آيات الله في إيران غضبة كاسرة، سُمع صداها في العالم أجمع، وما كان عليها أن تخفتَ إلا غبَّ غزو الكويت. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، كما يُقال عادةً، فهوَذا الشابُ الزائر يَلِجُ صالة الفيلا ممسكاً بصحيفة محلية يصرخ مانشيتها الرئيس بآخر أخبار الغزو. وإذ نوهتُ قبلاً، بأنّ حُسن " الشريفة " قد شوهه محضُ نظرة من عينيها، فلعل الأمر نفسه يمكن أن يقال عن حماسة ابن شقيقة زوجها هذا. كانت هيَ بدَورها حاضرة يومئذٍ، طالما أنها باتت شبه مقيمة في الفيلا. أعتادت أن تقدّم مساعدتها المنزلية بنشاط وهمّة، " مع فترات استراحة للتنصّت والتلصص "؛ على حدّ تعبير " خدّوج "، المتخابث. في بداية الليل غالباً، كان " سيمو " يحضر على دراجة نارية كي يعيد امرأته لمنزلهما، الكائن على طرف الداوديات. في أثناء كل ذلك، كانت هذه المرأة الجميلة تحاول التقرّب مني بشتى السبل. في واقع الحال، لم أكن أنا أكثر من بنت منعزلة بأفكارها، وفي التالي، مُضجرة لمن هم حولها. فلا بدّ أن اهتمام " الشريفة " بي، كذلك هَجَسْتُ آنئذٍ، يمكن أن يُحال إلى غرضٍ غير شريف. إذ كنتُ أستبعدُ موضوعَ الغيرة، الذي يدفع نساءً من خلفية ريفية إلى مسلكٍ ماكر، مُخالفٍ لما يجول بأذهانهن من فكر وتدبير. ما تلى من أيام ووقائع، عليه كان أن يحقق صحّة تأويلي. هذه المرأة، وعلى الرغم من مكرها، فإنها كانت أبعد ما يكون عن شعور الغيرة على رجلها. ففي قرارة نفسها، كانت مقتنعة بشعور آخر استلب لبّها تماماً؛ ألا وهوَ الوضاعة والحطة والهوان، لدرجة القناعة بأنه مقدورٌ لا فكاك منه. لقد دأبت " الشريفة " على النموّ غرسةً غريبة في تربة تربيتها، الشاذة. كذلك جرى الأمر، مذ أن كانت صبيّة صغيرة ترفع ثوبها لذكورٍ آثمين بخطيئة زنا المحارم. إلى أن أضحَت أكثر نضجاً، وبالتالي، مهووسة بمساحقة إناثٍ من خارج طبقتها الفقيرة. وبحَسَب تعبير بعلها هذه المرة، كانت " الشريفة " عاهرة بدءاً من لحظة لفّها بقماط الولادة. فتنتها غير المألوفة، المختلفة المقاييس عما أعتادته بيئتها، أدّت بالنتيجة إلى أن يشكّ الأب ببنوّتها وأن يَعزوها إلى كَاوري ما، سائح أو مقيم، من زائري موغادور. في فترة تالية، سينتقل الظنّ إلى شقيقها الأكبر، الذي تهشّم لاحقاً مع قضيبه الضخم بحادث بشع عندما كان يقود دراجة نارية في أحد شوارع مراكش. أقارب وأغراب، شاؤوا إذاً أن يمتطوا رهينة الظنّ هذه، التي حبتها الطبيعة عجزاً مُعجّزاً؛ أن يحفروا في فقحة ردفها الفاتن، بحثاً عن كنوز النشوة المتماهية مع الألم. ولعل " سيمو "، في بدء علاقتها به على الأقل، كان أول رجل يُشعرها بأنّ ثمة نشوة في العشّ المعتلي ربوة ساقيها، والذي كانت قبلئذٍ تُهمل حتى إزالة زغبه الخشن.
*** شعورُ الغيرة، على أيّ حال من الأحوال، كان يتلبّسُ ضيفَ الفيلا الشابّ. وكما هوَ المألوف، فإنني سأُحاط باليقين من خبره لاحقاً عن طريق خالته الصغيرة: " هذا الأير المغرور، على شيء من غرابة الأطوار أيضاً. ولعله يتوهّمُ، بأن شقيقكِ يهتم برسوم غُزلان لغرض إغوائها. ولوَ كان أقلّ غباءً، لعرَفَ بأنّ امرأة خاله كانت قد ضاجعت نصف ذكور مراكش لولا رقابة حماتها، المكينة ". كذلك فسّرت " خدّوج " الأمرَ بطريقتها المكشوفة، الطريفة. إلا أنني، من ناحيتي، لم أرَ أمامي سوى فتىً على درجة ملحوظة من النباهة والوعي علاوة على التهذيب. قد يكون شخصاً حالماً. ولكن من هم في مثل عقليته، كان حرياً بهم أن ينكروا حتى في الحلم مآلَ عواطفهم. ولا أقصدُ حلمَ اليقظة، المؤدي بأمثاله إلى درجات القصر الملكيّ في الصخيرات، أو أبعد ربما؛ ثمة أين تقرع طبول الإعدام معلنةً سقوط المزيد من العروش. ولعلها طبول الكَناوة نفسها في ساحة جامع الفنا، طالما أنها كانت منذورة تاريخياً لمواكبة فرق قطع الرؤوس البشرية الآثمة، المدان أصحابها بشتى التهم. طبول الإعدام، تهدأ بانتهاء المجزرة. أما أندادها عند الكَناوة، فإنها مشتعلة أبداً وتضرم مزيداً من النار في موسيقى الفرق الشعبية الأخرى في الساحة.. أما دماء أولئك الضحايا، وربما أن أغلبهم كانوا أبرياء، فهيَ ما تفتأ تلوّن جدران المباني المحيطة بالساحة وعمائر المدينة الأخرى. دماء بريئة، أجل، شبيهة بنزف الأبكار المدفوع الثمن من لَدُن رجالٍ مقتدرين، مواطنين وأجانب على حدّ سواء. " مراكش، تدنو رويداً من الدرك الأسفل للرذيلة وانعدام القيم. لم تكن هكذا إلى الأمس. أي لحين أن فتحوا أبوابَ أسوارها مجدداً للغزاة الأوروبيين، وهذه المرة بحجج السياحة والاستثمار "، أندفعَ الشابّ للقول بمرارة تعقيباً على ما قرأه قبل قليل في صفحة الحوادث اليومية بالصحيفة. هكذا أخبار عن الدعارة، كانت تشيع الإستياء لدى أفراد الطبقة المتوسطة بشكل خاص. ولكنها كانت أقلّ إثارة ولا شك من أخبار الإجرام، المتفشي في مراكش خلال الآونة الأخيرة والتي كانت تتنقل شفاهاً في غالب الأحيان من طبقة أدنى إلى طبقة أعلى. على الرغم من أنني لم أحظَ بمعرفة " السيّد الفيلالي "، ولكنني كنتُ أشكّ بأن الحفيدَ يُكرر كلامه، أو بالقليل، يتقمّصُ نبرته. هذا الشاب، الشديد الإندفاع كما بدا لي من ناحية أخرى، يبدو أنه استنكفَ عن الخوض في أخبار السياسة لعدم وجود ذكور على المائدة بعدُ. على ذلك، فضّل الإنسحابَ من حجرة السفرة لحين إنتهائه من طقسَيْ الوضوء والصلاة. بين حينٍ وآخر، كان يرتفع صوتُ الشاب بالشهادة من مكانه في الصالة المجاورة. في الأثناء، كنتُ أفكّر بمدى التناقض في مسلك سكان البلد: " كم من المفارقة، أن يوحّدَ فرضُ شكر الله هذا المُدافع عن المعدمين مع أولئك الذين ينتزعون اللقمة من أفواههم؟ ". وهاهمُ أولاء الشاكرين، ممن ينتمون إلى هذه الفئة وتلك، يدخلون معاً إلى حجرة السفرة. جاء الصهرُ الفرنسيّ مع عديل المستقبل، يتبعهما " سيمو " ككلب حراسة وفيّ. قبل ذلك بقليل من الوقت، كان " فرهاد " قد أخذَ مكانه على المائدة المستديرة مع " حمو " وابن شقيقته. كان ثمة كلب آخر، غير مؤهّل، قد خُصصَ له صحن صغير في شقة ابنته على الدور الثاني. هذه الأخيرة، كان من المفترض أن تنضمّ مع غيرها من النساء إلى طاولة طعام أوطأ وأصغر حجماً. إلا أنها راحت تتعهّد رصف الآنية الخزفية الصينية، تمهيداً لإحضار المشهيات. طبق السَلطة، الكبير والمتخم بأنواع الخضار والبقول والرز، ما عتمَ أن توسّط أولاً طاولة الرجال. بعد حين، تمّ تقديم وجبة بسطيلة الدجاج. ما أن انتشرَ فواحُ القرفة الحرّيف، الملسوع بلذعة السكّر الناعم، حتى دبّت الحيوية في " إريك ". لعل الأمر لم يكن متعلّقاً بأكلته الأثيرة حَسْب، بل وكونه غداء عمل. في هذه الحالة، سيكون النظام الغذائي هوَ الموضوع المفضّل لدى صهر الأسرة: " طبيبي، انفعل كثيراً على أثر ظهور صوَر الأشعة قبل يومين. قال بنبرة مُحبَطة، أنّ عليّ إيلاء مزيدٍ من الاهتمام لنظام التغذية ما دمتُ غير قادرٍ على الاستغناء عن السيكارة والكأس.. "، قالها وتوقّف فوراً. أمسكَ عن الكلام، على الرغم من معرفته الحقة بأنّ أقارب زوجته الحاضرين يُدركون بأنّ الخمرة هيَ بيتُ قصيد حياته.
*** إلا أنّ صهرَ الأسرة استأنف الكلامَ، متحوّلاً فجأة إلى انكليزيةٍ أكثر ركاكة من مغربيته المحكية: " فرهاد أيضاً يُقارع الكأس، وما عليك سوى دعوته إلى البار "، قال لشريكه العراقيّ وهوَ يوميء برأسه إلى جهة شقيقي. هذا الأخير، رمقَ " إريك " بنظرة مستفهمة وكأنه يعبّر عن استغرابه من زجّ اسمه بهكذا حديث قدّام الأسرة. " رفيق "، من ناحيته، لم يعلّق على ما سبق بل أتخذَ موقفاً واجماً. عند ذلك، عادَ الشريك ليستطرد بذات الركاكة وليسَ بدون حَرَج: " كنتُ أعني الليلة، حينَ احتفالنا بتدشين مشروع الرياض ". قالها رافعاً كتفيه، وبدون أن ينظر إلى أحد من الحاضرين. ولكن سحابة سوء الفهم، المهيمنة على مائدة الرجال، لم تتبدد إلا بعدما هتفت " خدّوج " بجذل من مكانها على المائدة الأخرى: " مرحى..! ". قالت ذلك بالفرنسية، ثمّ أستدركت حالاً تحت وطأة عينيّ شقيقها: " ليكن احتفالنا هنا لو شئتم، وسنتكفّل بتقديم أشهى دجاج محمّر من يد للّا بديعة مع طبق تورتة رائع من إعداد غُزلان ". بدماثته وطيبته، بدا أن " فرهاد " قد تجاوز فوراً تلك الإساءة. فما أن انتهى الغداء، إلا ورأيته مُقحَماً في نقاش ساخن حول التطورات الأخيرة في موضوع غزو الكويت. كان " غني " أكثرَ تعنتاً مع " رفيق " بصدد الموضوع نفسه، وكان يُردد تقريباً كلاماً سبقَ وسمعناه من الطبيب عبد المؤمن. الخطيبُ العراقيّ، ما لبثَ أن غادر الفيلا مع " خدّوج " مُستغلاً وهلة غياب شقيقها لشأنٍ ما. لم يبقَ إذاً من رجال الأعمال سوى " سيمو "، بعدما أعتذرَ الصهرُ الفرنسيّ بضرورة ذهابه إلى رياض باب دُكالة. " غني "، شيّعَ هذا الأخير بنظرةٍ فيها ما فيها من استياء. لقد أراد أن يُظهرَ التعاطف مع جليسه، وعلى الرغم من إنجلاء سبب الكدر. راحَ إذاك يطرفُ عينيه المائلتين، المنتميتين للعرق البربريّ مع الوجنتين الخاسفتين: " لقد تعاملتُ عدة مرات مع أولئك الأوروبيين الملاعين، اللذين يتمننون علينا باستثماراتهم المعفيّة من أيّ ضريبة خلا الرشوة. الواحد منهم يظن نفسه عبقرياً بجمع المال، فيما أنه ببلده كان يؤود معدةً جائعة على الكيك والزبدة "، قالها بيقين وكأنما يتحدث بلسان جدّه لأمه. عندئذٍ، تبسّم " فرهاد " ببراءة وقد أدركَ أن " إريك " هوَ المقصود بالتشنيع. " سيمو "، بدا أنه يتنصتُ لحديث الآخر فيما كان يُبدي أمامي اهتمامه مُجدداً بموضوع أوراق الإقامة. إذ انبرى ليخاطب ابنَ شقيقته بشيء من القسوة: " دَعنا من أفكارك السوداء، ولتهتم بما يُطعم معدتك! ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل الثالث من الرواية: 2
-
تخلَّ عن الأمل: الفصل الثالث
-
سيرَة أُخرى 37
-
الفصل الثاني من الرواية: 7
-
الفصل الثاني من الرواية: 6
-
الفصل الثاني من الرواية: 5
-
الفصل الثاني من الرواية: 4
-
الفصل الثاني: 3
-
الفصل الثاني: 2
-
الرواية: الفصل الثاني
-
سيرَة أُخرى 36
-
الفصل الأول: 7
-
الفصل الأول: 6
-
الفصل الأول: 5
-
الفصل الأول: 4
-
الفصل الأول: 3
-
الفصل الأول: 2
-
الرواية: الفصل الأول
-
سيرَة أُخرى 35
-
تخلَّ عن الأمل: 7
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|