|
كارل ماركس في العراق الجزء الثامن عشر
فرات المحسن
الحوار المتمدن-العدد: 5234 - 2016 / 7 / 25 - 11:45
المحور:
الادب والفن
ــ في خضم هذه الفوضى العارمة كل شيء يبدو ممكنا وغير مستبعد.
هكذا قال ماركس وهو يفرك يديه ببعضهما وأدار نظره متفحصًا بإحساس كئيب زوايا غرفة الحبس. شعر لحظتها بأنه بات جزءً من هذه الفوضى العارمة التي تلف العراق، يجعله الوضع يعيش وسط دوامة لا يستطيع الخروج منها. كل شيء فيها غريب ومتسارع وموجع، لم يعد يطيق احتماله وليس بمقدوره مسايرته أو اللحاق به. تأتي الحوادث فيه غريبة وصاعقة لتفرض نفسها عليه وتسحبه وتكبله بقيودها. لا يجد في هذه الأجواء ما يوحي بالاطمئنان، بل هناك دائما مجهول يخفي ملامحه ثم يظهر بشكل ما، أغلبه غير متوقع وغير مرغوب فيه، دائما ما يكون على شكل صدمة أو واقعة خارج نطاق المألوف. يتذكر كيف وقع حادث الفندق في تلك الليلة المظلمة التي أراد بها ملاطفة الحارس أبو شمخي، ولكن أبو شمخي سقط فاقد للوعي من شدة الخوف. كان من الجائز أن تنتهي حياته العملية في تلك الساعات، عندها عليه أن يتحمل ذنب موت ذلك الرجل، ودون أي مبرر مقنع للحدث المفاجئ ويكون مصيره عندها السجن لعدة سنوات،عندها تنتهي مهمته أو حتى حياته العملية وقدراته الفكرية وتذهب جهوده المضنية التي بذلها خلال كل تلك السنين هباءً منثورا. ثم توالت الأحداث دون أن يستطيع إيقافها أو تغيير مسارها. وها هو الآن وقد مضى الشطر الأكبر من الليل، يجلس جوار أبو رمزي السجين اللغز المريض، الذي لا يفصح عن سبب اعتقاله ولا عن مرضه ولن يروي حكاية أو حدث يقع في السجن أو خارجه إن كان في الحاضر أو الماضي دون أن تكون هناك مقدمة طويلة من الغاز أو قصائد شعرية، وما عاد يستطيع هو اللحاق أو التعرف بالكامل على معانيها ومكنوناتها، ولكنه يجد نفسه مجبرًا على الاستماع لها وحتى قبولها، فهو لا يريد أن يختلي مع نفسه ويفكر بوحدته وما تخبئ له الأقدار. يكفيه كل تلك السنين التي أضاعها وصار فيها ضحية لأجل الآخرين، وكان يضغط على حياته ويكرس يومه لموضوعة الطبقة العاملة وضرورة انتصارها المستقبلي الناجز. عند هذه اللحظة توقف ماركس وزجر نفسه معاتبا، كيف تسنى له الآن أن يبخس نضاله الطويل، كيف سمح لنفسه الوقوع في فخ الوهن هذا، ليذهب فيه بعيدًا ويقرع النفس على سنوات الكد والجهد الفكري الذي جاء بنتائج كبيرة لصالح الطبقة العاملة وأصبحت الشيوعية راسخة تجوب العالم وتهدد مصالح الطبقة البرجوازية وتعطي للعامل شعلة نور هادية تدله على طريق الصواب للحصول على حقوقه وحقوق طبقته وباتت الشيوعية حفارة قبر الرأسمالية.يا ترى ما الذي دفعه للوقوع في هذا المطب..إن التغييرات الظاهرة أو المظاهر الخارجية للحدث تظل نظرة قاصرة أن لم يحاول المرء معرفة الخصائص البنيوية الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع، ويتعمق في دراستها. فالتغييرات الاستعراضية التي يشاهدها المرء أمامه لا تكفي لتلمس الحقائق، فلا بد من عمل وتفكير دءوب متعمق للوصول إلى مدى تأثيرها. لم أستطع وتلك كانت لها أسباب ومصادفات لم تخطر على البال أو لم تكن متوقعة وموضوعة ضمن ما قررت معرفته،لم استطع أن أصل بعمق إلى الخصائص الأولية، ومنها طبيعة النمو السكاني الانفجاري للشعب العراقي رغم ما مرت عليه من حروب وصراعات، وما يرافق هذا الأمر من اختلال في التوازن بين العدد المتزايد للسكان و الموارد المتوفرة مما يسبب قصور كبير ومشاكل جمة اقتصادية اجتماعية، ومثل هذا الأمر يحدو بالمرء مراجعة هذا النمط من الفعل بين السكان والذي ممكن تشخيص أهم علة له وهو انخفاض المستوى الثقافي للشعب . ياترى ما الذي جعلني أتخلى عن كل هذا الوعي لصالح فكرة انهزامية خطرت فجأة على بالي دون تمحيص. ــ هاي وين رحت سيد ماركس؟ ــ عزيزي أبو رمزي. كانت جولة مراجعة خاطفة. ــ هاي شغلة مو سهلة عليه.. آني ما عندي شي خاطف.. لو أخش بالسالفة طول بعرض لو أعوفه لغيري. ــ ألم تنعس بعد؟ ــ إن نمت هسه لو بعد ساعتين لو باجر حتمًا راح أكَعد من النوم وألكَي نفسي بنفس المكان.. ويمكن أنام وبعد ما أكعد.. وكل هذا يك أحساب. ــ أنا اشعر بالتعب والنعاس. ــ أخذ راحتك.. بس قبل شويه قلت لي بانك غير راغب بالنوم. ــ بت مقتنعًا بأن في العراق هناك ضرورة أن يخالف المرء نفسه في بعض الأوقات ليكون جزءً من الواقع. أعتقد إن المرء يحتاج أيضًا لبعض الأنانية وهذه ضرورية كي يخلو لنفسه ليكتشف خفاياها. ــ حلو.. حلو أبن عمي هسة تمام.. هذا هو الصحيح.. كلمن عليه بنفسه مثل ما يكول الشاعر: هالوكت شيخه وشبابه كلمن يهفي الكبابه يشتغل كلمن الشخصه بشغل غيره ما يخصه ينفصل عن الأحبة أولا تفيد وياه صحبه ــ ولو أني لم أفتهم تماما ما عنيته بشعرك، ولكني لم أكن أقصد ما أنت تحدثت عنه، وربما أنا كنت سيئًا بالإفصاح عن ما أردت قوله. ــ صاحبي، لتكوم تبيع بوزات وتتفلسف براسي بهذا الليل.. دور وجهك ونام وتصبح على ألف خير.. أوكي سيد ماركس أبن هنروش لو مو أوكي. ــ أوكي ...تصبح على خير مد ماركس جسده فوق الغطاء الصوفي لينهي الحديث مع أبو رمزي ويدخل في عالمه الخاص. رغم النعاس الذي بدأ يراوده فقد ظهرت أمامه كومة من أحداث وأحاديث راح يلملمها ويبعثرها، متنقلاً هنا وهناك، فشعر بثقل كبير يضغط على رأسه. فرك فروة رأسه فشعر بشيء من رضا وهو يمرر راحة يده ويداعب الشعر الذي بدأ يظهر مثل دبابيس ولكن برؤس ناعمة رغم يباسها. فقد بدا له، ربما بعد فترة ليست بالطويلة ممكن له استعادة لحيته وشعره الجميل، اللذين كان يعتز بهما أيما اعتزاز. ولكنه عند هذه اللحظة شعر بضيق تنفسه وثقل في صدره وأحس بالخوف من رجوع المرض أليه، وبدء عودة علته من جديد، تلك العلة التي تجعله طريح الفراش لعدة أيام وتتطلب علاجًا مكثفًا.عسى أن يكون ظنه هذا خائبًا في مثل هذه الأوضاع السيئة. ففي مسيرته الطويلة تعرض لذلك مرات عديدة وواجه المرض بشجاعة ولكن لم يكن يتهيبه مثل هذه المرة، فهو يشعر الآن بعدم القدرة على المقاومة إن عاد له الربو المؤذي. تبسم ماركس ومسد شعر لحيته الخفيف محاولاً أبعاد ذهنه عن مثل هذا التفكير السيئ والمخيف. ولكن ما كان يراود الآن بإلحاح، هو البحث أو محاولة تفسير وتوصيف سبب مجيئه إلى العراق ووضعه الآن في هذا المحبس الغريب ولسبب يبدو أكثر غرابة من المكان نفسه. ما الذي حدث وهل حقق الغرض الذي جاء من أجله، مهمة صعبة وعسيرة منذ بدايتها.
#فرات_المحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كارل ماركس في العراق الجزء السابع عشر
-
كارل ماركس في العراق الجزء السادس عشر
-
كارل ماركس في العراق الحلقة الخامسة عشر
-
كارل ماركس في العراق / الجزء الرابع عشر
-
كارل ماركس في العراق الجزء الثالث عشر
-
كارل ماركس في العراق/ الجزء الثاني عشر
-
كارل ماركس في العراق/ الجزء الحادي عشر
-
توضيح عما ورد في مذكرات الدكتور خليل عبد العزيز
-
كارل ماركس في العراق/ الجزء العاشر
-
كارل ماركس في العراق/ الجزء التاسع
-
محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز /الجزء 9
-
محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز /الجزء 8
-
محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز/ الجزء 7
-
محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز/ ج 6
-
محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز 5
-
محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز الحلقة الرابعة
-
هل يكون مصير بشار الأسد كمصير حفظ الله أمين ؟
-
لجنة للتعرف على مطالب الجماهير أم تسويفها
-
محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز ج3
-
محطات وشخوص في حياة الدكتور خليل عبد العزيز2
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|