عبد الرحيم العطري
الحوار المتمدن-العدد: 1402 - 2005 / 12 / 17 - 09:59
المحور:
الادب والفن
عفوا .. ما عنوان هذه الخواطر المسائية بدال على موقع من مواقع الشبكة العنكبوتية ، التي صار السفر عبرها يعطي معان جديدة للزمن ، معان تدعونا بإلحاح إلى هجران مقارباتنا الكسولة و المطمئنة حول المكان قبل الزمان ... إنه بكل بساطة عنوان لفيلم لا أذكر كثيرا مخرجه تدور قصته حول صحافي جريء تتبع خيوط جريمة اغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي ، تتبع كل الخيوط ، فكك كل الأدلة و القرائن المتوفرة و الأخرى المسكوت عنها إلى أن اقترب من الحقيقة ، و تحديدا من الفاعل المحتمل ، لكنه في اللحظة التي سيصيح فيها " أوريكا .. أوريكا " - كما فعل أرخميدس فرحا باكتشافه - و هو يهاتف صديقا له كان يحدثه عن إيكاروس البطل الملحمي في الميثولوجيا الإغريقية ، في ذات لحظة الاكتشاف و الفرح بامتلاك المعنى ، ستحسم رصاصة غير طائشة نهاية الصحفي ، لتظل السماعة معلقة في الهواء ، و منها يتناهى غلينا صوت الصديق و هو يحكي عن إيكاروس الذي افتتن بضوء الشمس ، و اقتنع قويا بأن الحقيقة ترقد هناك في عمق هذا القرص الملتهب المانح للضياء ، ليقرر بعدئذ الطيران نحو الشمس ، صانعا لنفسه جناحين من الشمع ذابا بمجرد اقترابه منها ، فكانت نهايته مونا فظيعا و سقوطا نحو القعر العميق ....
فهل هذا هو قدر الباحث عن الحقيقة ؟ هل هذا هو قدر كل العاشقين و الراغبين في هتك ستارة المسكوت عنه ؟ أ هذه ضريبة البحث عن المعنى ؟ أم ماذا؟
تاريخ الإنسان في أقوى لحظاته تأكيد مستمر للميتولوجيا الإيكاروسية ، فهل كلنا إيكاروسيون بالفطرة ؟ ما أن نحاول الفرح باكتشاف كيمياء الحياة حتى نسقط في الغور العميق ، ما أن نسعد بإمكان التغيير و دنو بناء المجتمع الفضيل حتى تتهاوى قصورنا الرملية و تصير الحياة بطعم الألم و الرحيل ، ما أن نقول لأنفسنا بأن الأمور تسير نحو الأفضل و أن الإنسان الحقيقي قد استيقظ فينا حتى تذبل كل زهور القرنفل و الياسمين و يغدو الموت عشاءنا الأخير ...
لعنة إيكاروس تطاردنا منذ البدء ، تجعلنا نراوح أمكنتنا البلا معنى ، و لا نحصد انتهاء إلا مزيدا من الفظاعات و البشاعات ، نراكم الهزائم المرة و لا نصل إلى اكتشاف كيمياء الحياة ، نفقد آخر ذرات التحمل و نهوى نحو القعر الموغل في الرداءة و الانهيار ، و مع ذلك يظل إيكاروس كطائر الفينيق ، يستيقظ فينا دوما ، يعاود الكرة مئات المرات في تأشير دال و عميق على استحالة العيش بدون فسحة الأمل و جرعة الرجاء ، أبدا بدون رجاء لا تستقيم الحياة و لا نستطيع مضيا نحو الغد المجهول ...
كم هو حزين هذا القمر ، إنه مترع بالأحزان ، و كم من إيكاروس لقي حتفه هذا المساء ؟ كثيرون جدا في هذا الكون الفسيح غادرونا انتهاء بعد ذوبان الشمع ، لكن بالنظر إلى نصف الكأس الملأى ، كم من فينيق انبعث من رماده هذا المساء ؟ كثيرون أيضا تجاوزا خبث الأيام و انطلقوا نحو صناعة الحياة ، فكم من زهرة تفتحت من بين الأشواك ؟ و كم من عليل هزم المرض الخبيث ؟ و كم من أحلام تحققت هذا الصباح ؟ آه لولا جرعة الرجاء لما كانت الحياة و لما استمر الإنسان في صناعة الحياة و كتابة تاريخ الأشياء ...آه لولا جرعة الرجاء ..
#عبد_الرحيم_العطري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟