|
الفصل الثاني من الرواية: 7
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5230 - 2016 / 7 / 21 - 23:49
المحور:
الادب والفن
" خدّوج "، لا بدّ وأنها كانت تضحك في سرّها خلال طريقها إلى غيليز مع خطيبها، عقب انتهاء الفطور وما تلاه من جلسة العمل. وربما أن باعث مرحها، هوَ مرورها بنصبٍ حجريّ أبيض يحمل هذه الكلمات المنقوشة بالأسوَد " ساحة عبد المؤمن ". عليها كان أن تستعيدَ حديثها معي بشأن الطبيب، المُتصابي ( واسمه بالمناسبة: عبد المؤمن ). كان نبوءة إذاً، أكثر منه رهاناً. ولشدّما كانت " خدّوج " تهتمّ بالتنبؤ للآخرين، وليسَ لنفسها. وهذا ما يفعله عديدٌ من البشر، على أيّ حال. قبل قليل، كانت هيَ تردّ على إعتذار خطيبها، المتكرر، عما بدَرَ من تصرّفه معها لما رافقته عصرَ الأمس لأول مرة إلى شقته: " لا عليك، يا حبيبي. صديقاتي المتزوجات، سبقَ وشرحن لي ما جدّ معهن في حالاتٍ مماثلة. فلا يجوز للمرأة أن تكون أنانية، قتحرم رجلها من متعةٍ يرغبها " " هذا الموضوع، محسومُ في القرآن الكريم: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم. فقد كانت اليهود تزعم، بأن اتيان المرأة من وراء يؤدي إلى إنجاب أطفال حول العينين. فنزلت هذه الآية، التي تبيّن بشكل واضح أن المرأة مثل أرض محروثة؛ فبإمكان الرجل إتيانها كيفما رغب! "، قال الخطيبُ بنبرةٍ رصينة. وكان على وجهه أن يزداد إشراقاً وتهللاً، لما أمّنت " خدّوج " على ذكره لتلك الآية وتفسيره لها. ثمّ تابعت هيَ القول وقد رسمت على فمها ابتسامة ساخرة، لا تكاد تُدرك: " كما إننا لم نرتكب زنا، لا سمح الله! الزنا محكومٌ على المتزوّجين حَسْب، وشرطه الرئيس هوَ إثبات الجماع من الفرج بوجود أربعة شهود ـ كما ذكرت لي إحدى صديقاتي نقلاً عن رجلها السنّي " " سنّي؟ " " أيْ أنه رجل متديّن، مثلما نعرّف أمثاله في المغرب " " يُعجبني فيكِ هذا التواضع الجمّ، مع عمق تفكيرك وإلمامك بأمور شتى، دنيوية ودينية " " كذلك ثمة شيء آخر، شخصيّ؛ وهوَ أن الطبيبة حذّرتني من أن غشاء البكارة لديّ قاسٍ وثخين. كان ذلك، حينما فحصتني بهدف إعطائي شهادة زواج تثبت عذريتي " " إطمئني، حبيبتي! فأنا لستُ من أولئك الرجال، الذين ينقضون على نسائهم كالوحوش. فما من داعٍ للعجلة في أمر فضّ البكارة " " ولكن، أيمكنك الصبر مدة طويلة محروماً من الجماع.. أم أنك ستأتيني من وراء خلال هذه المدة؟ "، تساءلت الخطيبة بإغراءٍ مُغلّف بالخَفَر. إذاك، كان " رفيق " قد أنتعظَ بما يكفي لدعوتها مجدداً لمرافقته إلى الشقة المفروشة.
*** ربما من غير اللائق أن أقارن " الدكتور عبد المؤمن " مع العجوز الآخر، والد " غُزلان "، المُتطيّر والمفزوع. مع أنهما كلاهما يُحسن التمثيل على الآخرين، لضمان مصلحة شخصية خسيسة. من ناحية المريض، فإنني سأعلمُ كغيري في الدار بأنه كان يبغي التطفّل على ابنته في شأن إيوائه وإطعامه. فعند الظهر، حضرَ شقيق " غُزلان " إلى المنزل مُرسلاً من لَدُن الأم. كان قد ركبَ سيارة أجرة عمومية، قادماً من دوّار الأسرة القائم على طريق مصيف أوريكا، الجبليّ. هذا الشاب الجميل، النامي اللحية، كان شديدَ الهزال وكأنه يعاني من مرضٍ ما. جلسَ على الأريكة بجانب شقيقته، طاوياً رجليه الطويلتين بنوعٍ من التحفّظ. إلا أنه سرعان ما فارقَ مسلكَهُ، منطلقاً بالضحك، حينَ ألمَّ بما دهى والده. ثمّ أحمر وجهه على الأثر، وقال بتلعثم: " هكذا كان دأبه خلال الأيام الأخيرة، يتشاجرَ معنا ولا يلبث أن ينطرح أرضاً بلا حراك. كان قد أبلغنا بأمر غريب عزمَ عليه، وهوَ أنه لن يهتمّ بالأرض بعد الآن وأنّ علينا تدبير أمورنا بأنفسنا. ولكن، كيفَ لنا أن نقوم بحفر بئر جديد على عمق يزيد عن الستين متراً بدون مال؟ ". شقيقة الشاب، ألتفتت عندئذٍ إلى ناحية الحماة، فأجابتها هذه بهزّة من الرأس قائلةً: " الطبيب، سبقَ أنّ أسرّ لي بأنّ قلبَ شيخكم على خير حال ". سكتت لبرهةٍ، وكأنما تقلّب في داخلها قراراً ما. وقبل أن تفتح فمها لإستئناف الكلام، إذا بالشخص المعنيّ يقتحمُ حجرة الصالة على غرّة وهوَ يصيح بصوتٍ مخنوق: " لقد سُرقت! لقد سرقت! مالي كله، وكان محفوظاً بحزامٍ جلديّ، أختفى خلال وجودي في الحمّام ". على الرغم من حيوية الطبيب في النقاش، وتوقّد ذاكرته ( لننسَ مسألة الجنرال غرازياني! )، إلا أنه لم يكن أكثرَ من فرَس سباق، هَرِم. " عبد المؤمن البغدادي " هذا، كان يبدو من بشرته الحنطية وملامح سحنته، المُحتفظة ببعض رونقها، أنه كان ذا وسامة في شبابه. ولكنه لم يَثُر فيّ سوى الشعور بالنفور، وبخاصّةَ عندما تنطّعَ لموضوع الشهادة الطبية. أما الطبيب، فيبدو أنه أرادَ أن تربحَ " خدّوج " رهانها على مسلكه وخُلقه. فيما بعد، وبشكل غير مباشر، سألتُ " للّا بديعة " عن هذا الرجل. فأجابتني بإحدى عباراتها التقليدية، المُسلّمة بالمقدور: " كلّ الأطباء سواءُ، عندما يتعلق الأمر بأكل لحم البشر! ". ما أدهشني يومئذٍ، كان معرفتي بأنّ للطبيب " عبد المؤمن " شقيقاً شاعراً، مشهوراً على نطاق الأوساط الأدبية بمراكش، على الأقل. هذا الشقيق، واسمه " مهدي البغدادي "، كان يفصله عن الآخر لا أقل من جيلين. فيما بعد، سألتقي مع هذا الشاعر في مناسبة عامة، عندما دعيت إلى أمسية أدبية. الأمسية، أقيمت للشاعر في رواق الفنون، الكائن على ناصية الدرب الضيّق، المُفضي إلى مدرسة سيدي بن يوسف، الأثرية. الدعوة، كان الطبيبُ قد سلّمها أساساً لشقيقي " فرهاد " بعدما علمَ بكونه بقرض الشعر. إلا أنّ شقيقي، المكتئب مذ لحظة وصولنا إلى مراكش، لم يشأ حضورَ الأمسية. ولو عرفَ الطبيب بالأمر، لما كان قد أستنكف بدَوره عن الحضور بحجّة من الحجج. آنذاك، كنتُ أتكتّم على موضوع اهتمامي بالأدب، بل وكل أموري الخصوصية. وبالتالي، كنتُ أبدو للآخرين مجرّد صَبيّة حالمة لا يُسبر لها غَوْر. لقب " الشاعر "، كان يثير السخرية في الأوساط الراقية المراكشية ـ كما هوَ الحال مع لقب " الشريف ". بيْدَ أنّ كلاهما من الممكن أن يُحترم، ما لو كان صاحبه من الأثرياء، الذين يملكون رصيداً محترماً في البنك مع فيلا وسيارة على أحدث طراز. هذه الأوساط الراقية، التي أنغمستُ فيها لاحقاً بفضل ارتباطي بالفرنسيّ " غوستاف "، كانت تمحضُ أهلَ الثقافة كراهيةً تفوق كراهيتها لفئة الأشراف. غير أنها كانت تتملق كلاهما، حفاظاً على المظاهر الإجتماعية حَسْب. أولئك الناس، المتفرنج أغلبهم، كانوا يرونه شذوذاً التمسّك بالثقافة العربية لغةً وأدباً. ولعل الكثير منهم ينطلق في ذلك من باطنٍ نفسيّ، ما يفتأ يرفضُ ثقافةً فُرِضَت بفعل الفتح الاسلاميّ لشمال أفريقيا، وما تبعه من محي شبه كامل للثقافة الأمازيغية. وها هم الأخلافُ، ينظرون الآن باحتقار وحِطّة للغة الغزاة، مقارنةً باللغة الفرنسية، تماماً كما كانَ أمرُ أسلافهم حينما طأطؤا رؤوسَهم قدّامَ لغة القرآن.
*** حضورُ الأمسية، في المقابل، كانوا بمعظمهم من تلك الفئة الراقية، القليلة الثقافة. وكانوا عندئذٍ قد انفضّوا من حول الشاعر، فغادر أغلبهم المكانَ وبعضهم توجه إلى الصالات الأخرى في الرواق، لإلقاء نظرة على أعمال الرسامين والنقاشين أو لسماع الموسيقى. في أثناء ذلك، كان الرجلُ ما يزال مُقتعداً وراء الطاولة، طالما أنّ إحداهن ما فتأت تتحدّث معه وهيَ تمسك بيدها نسخة من آخر دواوينه الشعرية. كانت صبيّة شابّة، متأنّقة للغاية، حُسنها الفتّان كان يبدو جلياً أنه ينتمي للمشرق لا للمغرب. وقد صدقَ ظنّي، فيما يتعلق بالملاحظة الأخيرة. " تلك المرأة، التي تقف مع مرافقتها ثمة، يَدعونها سوسن خانم. هيَ أيضاً سوريّة، تقيم منذ بعض الوقت في مراكش "، قال لي الشاعرُ وهوَ يومئ إلى المعنية. إذاك، انتبهت المرأة إلى الإشارة. المرافقة المغربية، وكانت أيضاً ذات شعرٍ أشقر وفي مثل سنّ الصبيّة الحسناء، شاءت على الأثر أن تهمسَ شيئاً في أذنها الصغيرة، المزيّنة بحَلقٍ ماسيّ. فما تأخرت الحسناء عن رمقي بنظرةٍ منتبهة، فيها ما فيها من فضول. ثمّ بدا لي أنّ ابتسامة ما، مُلغزة، طوَّفت على شفتيها الممتلئتين والحمراوين كالكرز الناضج. بعدما اختفت هذه خلف الباب، أردَفَ صاحبُ الدعوة قائلاً بلهجة مُحتفية: " لا أدري، ما إذا كان الدكتور عبد المؤمن قد أخبركِ بأنّ ثمة عرقاً مشرقياً في سلالتنا؟ " " بخصوص كنيتكم؛ البغدادي؟ " " نعم.. " " بحَسَب ما فهمتُ منه، أن هذه الكنية هيَ على خلفية نسب عائلتكم الشريف، العلويّ ". فلما قلتُ ذلك، فإنه أطلق ضحكة طويلة. وإذاً، سأُخبَر من لَدُن الرجل بأنّ جدّه الأول كان بالأصل من مدينة الزاكَورة، المَقطونة تاريخياً من قبل الأمازيغ، والمتوحّدة على طرف الصحراء في جنوب شرقي مراكش.. أنّ ذلك الجدّ، كان قد تعرّف خلال زيارته لبيت الله الحرام على تاجر عراقيّ، ثم قبل دعوته لمرافقته إلى بغداد، وما لبثَ أن عادَ منها إلى موطن الأطلس مع إمرأة وولد صغير. " الإنتساب لسلالة النبي الشريفة، كان أيضاً تقليداً لدى زعاماتنا التاريخية، الكردية. ثمة إدعاء مماثل عن الجدّ الأول لسلالتنا؛ هوَ من كان قد أسس إمارة بوطان في كردستان العثمانية "، قلتُ للشاعر تعقيباً على كلامه. ظهرَ الإهتمامُ على وجه الشاعر، لما ذكرتُ له أصلي الكرديّ وانتسابي لسلالة نبيلة المحتد. وعليه كان أن يُبدي سروره أيضاً، حينما علمَ بأنني على صِلة بالأدب قراءة وكتابة. كان الرجل في حدود الأربعين من عٌمره، ملامحه حَسَنة وحزينة في آن؛ أبيض البشرة رائقها؛ شعر رأسه الناعم والغزير قد رفع عن الجبين شأن مفكري القرن التاسع عشر. من ناحيتي، رأيتُ في مرآة " مهدي البغدادي " صورة لمراكش الأخرى؛ مراكش الثقافة والفنون والتراث الشفويّ. مدينة، ام تزل تفتخر بجذورها الأمازيغية جنباً لجنب مع تمسّكها بهوية عربية اسلامية. مدينة، كان مؤسسها الحقّ، وباني منارتها العظمى، خليفة عالمٌ يُدعى " عبد المؤمن "؛ هوَ من سبقَ وبايع رجلَ دينٍ غريب الأطوار وغامض السيرة، اسمه " ابن تومرت "، كان يدّعي أنه المهدي المنتظر.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفصل الثاني من الرواية: 6
-
الفصل الثاني من الرواية: 5
-
الفصل الثاني من الرواية: 4
-
الفصل الثاني: 3
-
الفصل الثاني: 2
-
الرواية: الفصل الثاني
-
سيرَة أُخرى 36
-
الفصل الأول: 7
-
الفصل الأول: 6
-
الفصل الأول: 5
-
الفصل الأول: 4
-
الفصل الأول: 3
-
الفصل الأول: 2
-
الرواية: الفصل الأول
-
سيرَة أُخرى 35
-
تخلَّ عن الأمل: 7
-
تخلَّ عن الأمل: 6
-
تخلَّ عن الأمل: 5
-
تخلَّ عن الأمل: 4
-
تخلَّ عن الأمل: 3
المزيد.....
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|