|
حنوّ الغوريلا وميولها العاطفية تجاه الإنسان
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 5230 - 2016 / 7 / 21 - 23:47
المحور:
الادب والفن
يَجمع المخُرج والمصوِّر السينمائي جوناثان تايلور بين الثيمة الصادمة وبراعة التصوير بإيقاع خاص يكاد يشبه إيقاع القلب المنتظم الدقَات. فثمة نسق مُحدد رَسَمه المخرج في ذهنه قبل الشروع بالتصوير لكن هذا النسق قد يتعرض إلى بعض الهزّات التي تشجعه على تصعيد الإيقاع كلما كانت هناك مفاجأة تُخرج المتلقي عن السياق وتضعه في مواجهة المواقف المدهشة التي لم تكن في الحسبان. يبدو أنّ العنوان الذي اختاره تايلر لفيلمه الوثائقي صادم بحد ذاته وهو "كُوكو: الغوريلا التي تتحدث للناس"! لا شك في أن الغوريلا هو أقرب الحيوانات إلى الجنس البشري بعد الشمبانزي والبونوبو لما يتمتع به من مواهب فذّة، وقدرات عقلية لافتة للانتباه. وربما يكشف هذا الفيلم المُميز حنوّ الغوريلا وميولها العاطفية تجاه الإنسان، خصوصًا وأنها تعيش في الأسر بمنأى عن محيطها الطبيعي في الغابات والمناطق المُشجرة. ربما يُحار المتلقي في تحديد البطل في هذا الفيلم الوثائقي الرصين، فهل أسندَ المخرجُ دور البطولة إلى فرانسِن بيني باترسون، المختصة بسايكولوجيا الحيوان، أم إلى الغوريلا "كُوكو" التي ستدهشنا بقدراتها الذهنية في تعلّم لغة الإشارة الأميركية، وإظهارها لهذا الكمّ الكبير من الحنان لباترسون وبقية أعضاء الفريق الذي تابع حياة كوكو لخمس وأربعين سنة وهو يدوّن فيها كل صغيرة وكبيرة عن هذا الغوريلا المُذهلة التي أثارت إعجاب العالم، ونالت شهرة واسعة بعد أن احتلت صورتها غلاف مجلة "الناشينال جيوغرافيك" مرتين فعرفها القاصي والداني في أميركا والمملكة المتحدة في الأقل. لابد من الإشارة إلى أن فكرة الفيلم قد انطلقت من مشروع باترسون لنيل درجة الدكتوراه في تعليم لغة الإشارة الأميركية للغوريلا. تُرى، هل يُكتب لهذا المشروع النجاح، أم أنّ مخاوف جمّة تحيط بهذا الموضوع الذي يبدو عصيًا ومحفوفًا بالمخاطر؟ قبل الإجابة على هذا السؤال المحوري الذي تقوم عليه ثيمة الفيلم برمتها لابد من التنويه إلى أهمية التوثيق لدى أميركا وغيرها من الشعوب المتحضرة التي تعوِّل على المنحى التسجيلي لأنهم ببساطة تسجيليون بينما تقابلهم أمم شفهية لا تعير التوثيق والتدوين شأنًا كبيرا. فمنذ ولادة كُوكو في 4 يوليو / تموز 1971 في حديقة حيوانات سان فرانسيسكو والمعنيون بها يوثقون كل شيء عنها بتقارير منتظمة عن رضاعتها وصحتها ومزاجها وعلاقتها الحميمة بالأم. وما أن تبنتها باترسون لتنفيذ مشروعها الدراسي حتى أخذ التوثيق بُعدًا آخر يشمل مراقبتها الدائمة بواسطة الكاميرات، وتقارير الفريق المسؤول عن رعايتها، هذا إضافة إلى الحضور المتواصل لباترسون مع المصور رون كون الذي صور نحو 2000 ساعة ماعدا التصوير الأساسي للفيلم بعدسة المخرج نفسه والذي استغرق شهرًا بكامله. وقد تضمّن التصوير بشقّيه المحترف والهاوي على توثيق اللحظات الأكثر درامية في حياة هذه الغوريلا النابهة التي حبست الأنفاس في العديد من الحالات والمواقف المثيرة للإعجاب. لم تشأ إدارة حديقة الحيوانات في سان فرانسيسكو أن تسلّم الغوريلا الصغيرة كوكو إلى باترسون لأنها لصيقة بأمها في هذا السن تحديدًا لكنها وافقت على "إعارتها" بعد أن أنهت عامها الأول وشرعت باترسون بتعليمها لغة الإشارة الأميركية بادئة بثلاث كلمات مهمة وهي Eat, Drink & more ثم تلتها الكلمات التي تستعملها المعلِّمة وتلميذتها في آنٍ معًا مثل وردة، قبعة، مفتاح، تفاحة، خسّ، سعيدة، حزينة وما إلى ذلك من كلمات مُتداولة. ثم فوجئ أحد الأصدقاء الذين زاروها وهي تقول له بلغة الإشارة "أرجوك صديقي افتح الباب". وهكذا تضاعفت كلمات كوكو حتى بلغت المئتي كلمة، وسوف يتضاعف رصيدها حتى يبلغ الألف كلمة لاحقًا. على الرغم من أن المكان الطبيعي للغوريلا وسواها من الحيوانات الأخر هو الغابة أو البرية المفتوحة، الكثيفة الشجر إلاّ أن باترسون كانت سعيدة بوجود كوكو على مقربة من منزلها الذي يبعد عنها بضعة أميال. فقد وضعتها في قفص كبير بمنطقة مشجرة كي توحي لها بالحرية في فضاء مفتوح. وهي تزورها كل يوم تقريبًا ذلك لأن علاقتها بكوكو أصبحت مثل علاقة الأم بطفلتها ولعل مشاهد العناق التي تكررت كثيرًا على مدار الفيلم الذي تبلغ مدته 58 دقيقة كانت كافية لتأكيد صحة ما نذهب إليه. فكوكو هي التي تبادر باحتضانها ومداعبتها وكأنها تردم الهوة القائمة بين الإنسان والحيوان. ولعل ما يهدف إليه مخرج الفيلم هو الإشارة إلى أن الغوريلا قادرة على مشاركة الإنسان أفكاره ومشاعره وإحساسيه الداخلية. لم تتخل إدارة حديقة الحيوانات عن كوكو وإنما طالبت باسترجاعها أكثر مرة لكن باترسون وبمساعدة جمعية الغوريلا في أميركا تمكنت من الاحتفاظ بكوكو وشرائهن بـ 12.5000 دولار أميركي شرط أن توفر لها غوريلا ذكرًا بغية التزاوج وتحطيم جدار الوحدة التي تعيشها منذ سنوات طوالا. وسوف يأتي هذا الغوريلا الذكر الذي يحمل اسم مايكل لكنه سرعان ما يموت ويتركها أسيرة لعزلتها القديمة لكن باترسون تجلب لها غوريلا آخر اسمه (نِم) وهو يعيش معها الآن. المدهش في الأمر أن كوكو تريد أن تنجب وتصبح أمًّا وقد عبّرت عن هذه الرغبة غير مرة. وربما لعبت الهدايا التي تجلبها باترسون دورًا في سدّ هذا النقص الكبير في حياتها وخصوصًا إذا كانت الهدايا قططًا صغيرة ولكن حتى هذه القطط لم تكن بمنجاة من الموت. فذات مرة خرجت القطة "أول بول" من قفصها ودهستها سيارة فماتت. وحينما عرفت كوكو بخبر موتها من باترسون حزنت كثيرًا وعبّرت عن حزنها بكلمات Bad, Sad, Bad ثم تجهّمت ملامحها، بل أن باترسون سمعت صوتًا يشبه النحيب البشري! ثم طالبت بقطتين أخريين هذه المرة وسوف تحظى بقطط أخرى في مناسبات لاحقة. ربما لا ينتبه المُشاهِد العادي إلى براعة التصوير في فيلم وثائقي تتسيّد فيه الثيمة على الشكل لكن اللقطات المقرّبة التي فاجأنا بها المصور قد أسرتْنا ومنحتنا الفرصة لأن نتأمل في تعابير الشخصيتين اللتين تقاسمتها دور البطولة وبرعتا فيه. وحينما تتداخل مشاعر الأمومة لا تدري على وجه الدقة أيتهما تريد أن تصبح أمًّا، هل هي باترسون أم كوكو، أم أن الحدود قد ضاعت بين الاثنتين اللتين تماهتا في بعضهما بعضا؟
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مخرج على الطريق: الخشية من تحجيب الأفلام (3-3)
-
مخرج على الطريق: أفلامي واقعية جديدة مُبهجة (2-3)
-
مُخرج على الطريق: الشخصية أهم من الحدّوتة (1-3)
-
الماركسية والشِعر: الوحي المنبثق من لحظة النشوة والغيبوبة
-
التقنية المُراوِغة في -مصائر- ربعي المدهون
-
الفتنة. . نصٌ وثائقي ببناء معماري ركيك
-
الفيلم الوثائقي الاستقصائي (نوري المالكي. . . الصورة الكاملة
...
-
الفن المفهومي في السينما والتصوير الفوتوغرافي
-
أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة
-
مائة سنة على الحملة البريطانية على بلاد ما بين النهرين (2-2)
-
مائة سنة على الحملة البريطانية على بلاد ما بين النهرين (1-2)
-
التشكيلي سعدي داود. . . ثيمات عراقية بتقنيات واقعية تعبيرية
-
هنا يكمن الفراغ. . . ترجمة سلسة لا تخلو من بعض الهَنَوات
-
العثور على أبي في بلاد ما بين النهرين
-
في مرآة الحرف . . . نصوص عضوية في أحسن تقويم
-
كالكنج أو الليلة الثانية بعد الألف وما يتبعها لسالمة صالح
-
سبي النساء الإيزيديات بصيغة وثائقية
-
وجوه بصرية مألوفة رسخت في ذاكرة الناس (3-3)
-
وجوه بصرية: سيرة مدينة بين التقريض والنقد اللاذع (2-3)
-
وجوه بصرية: الذات والموضوع في رباعيات الشاعر حسن البياتي (1-
...
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|