|
خرسانة الدم
حامد حمودي عباس
الحوار المتمدن-العدد: 5226 - 2016 / 7 / 17 - 13:31
المحور:
الادب والفن
في لحظة لم يتم الاعداد لها ، وجدتني وسط فسائل نخيل موزعة على غير انتظام ، وقد غابت عنها لمسات الرعاية فبدت وحشية المنظر ، تشابكت اوراقها وبعبثية وكأنها تبحث عن فضاء يتيح لكل منها صلة مع خيوط الشمس الحارة .. الوقت بدأ يقترب من الغروب ، وهياكل بيوت لم يكتمل بناؤها تتوزع غير بعيد عن المكان ، توحي بان حياً سكنياً سيتم انشاؤه هنا في زمن ما .. هياكل البيوت وفسائل النخيل المهملة ، كلاهما يتشبثان بعمق الارض ، لا يريد احدهما ان يفارق الاخر، ضمن صحبة قد لا تنقطع اواصرها لعقود .. هذا البستان ، قامت بشرائه احدى الطبيبات المعروفات في المدينة ، اما قطعة الارض التي هناك ، والمتميزة بموقعها ومساحتها الواسعة ، فهي ايضا لطبيب . عرفت ذلك من خلال حديث عابر مع احدهم ، عندما جاءني يطلب ( ولاعة ) سجائر ، وحين لم يعثر على ما يريده عندي ، راح يتبرع لي بمعلومات عن المنطقة دون ان يعرف بالضبط من أنا ، وما هو سر وجودي هناك .. هؤلاء الاطباء حتماً ليس في نيتهم ان يبنوا بيوتا لهم في حي هجرته المدنية كهذا ، وسيكون لسكانه شأن اخر لا يمت لها بصله .. انهم من النازحين من الريف ، اولئك الذين تكاتفت على ازاحتهم من حقولهم ومزارعهم ظروف الحكم غير الرشيد في البلاد ، منذ ان تعاقب العسكر بالسطو على كرسي السلطة وبشكل سافر .. انهم ( الاطباء ) ليس في نيتهم غير حجز مساحات لإنشاء عياداتهم الطبية مستقبلا ، مستفيدين من نتائج غزو الذباب لأطعمة الفقراء ، وامتلاكهم لقدرة التفريخ غير المقننة . لقد وقفت يوما يلفني الذهول ، حين كنت داخل مستشفى الولادة في المدينة ، وأنا أرى جحافل النساء وهي تزحف دخولاً وخروجاً من المستشفى وبالعشرات .. ثمة نساء يترنحن ببطونهن سعيا نحو ولادة قد تكون منتظرة ، او لا تكون .. واخريات تدب بهن عربات صغيرة ، وهن يحملن اطفالهن بحرص تام ، كي لا تراهم عيون الحاسدين .. انه حشد لا ينقطع افراده عن الحركة وعلى مدار الساعة .. معمل ضخم لا تتوقف مكائنه عن الدوران ليل نهار .. المستشفى لا تسمح للرجال بالدخول الى ابعد من صالة الانتظار الخارجية ، وهناك جمع من المرافقات للنساء الحوامل ، يتحركن وبسرعات متفاوتة وكأنهن ضمن مضمار سباق كبير ، لتسليم الرجال قصاصات تحمل اشارات بعينها ، فيهرع أحدهم الى جهة ما لجلب المطلوب .. ثمة حروف ضوئية متحركة راحت تدور في اعلى البناية الداخلية للمستشفى ، تنصح المراجعين بعدم منح العاملين فيها رشوة مقابل اي خدمة عامة .. تعقبها نصوص لاحاديث نبوية تلعن الراشي والمرتشي ، مع عرض ارقام تلفونية تدعو المواطنين للاتصال عن طريقها بالمسؤولين في حالة حدوث مخالفة . - الله يلعن ابوكم ، ايها الكفرة . صاح احدهم وهو ينط من السلم المجاور لمنصة الاستعلامات في المستشفى ، تبعه احد الحراس محذراً دون ان يفلح بصده الا بعد ان بلغ نهايته .. فعاد به الى الطابق الاول من البناية وهو يصرخ : - كيف يمكن ارغام امرأة ولادتها قيصرية بقرار من الاطباء ، على دخولها الى صالة العمليات الخاصة مقابل مبلغ لا تستطيع توفيره ؟ .. اليس هذا مستشفى عام ؟ .. بدأ لغط بين الموجودين ، تميزت من بينه صيحة احدهم قائلا : - لقد ماتت ثلاث نساء مساء امس ، بسبب اختناق الوليد نتيجة تأخر عملية التوليد .. صاح آخر بسخرية واضحة : - اوقفوا تلك الاشارات الضوئية التي تحذر من الفساد .. انها خسارة تكلفنا تياراً كهربائياً نحن بحاجة ماسة اليه في بيوتنا . وتخيلت كيف ستنتهي بعض من تلك الولادات ، الى مرارة التردد على عيادات الاطباء بعد قيامها بين فسائل النخيل المحيطة بي في ذلك المكان . هياكل البنايات المنتشرة من حولي ، بدأت تغيب ملامحها مع اقتراب وقت الغروب ، فبدت وكأنها فقدت ابعادها الهندسية ، ولم يظهر منها شيء واضح المعالم ، سوى رايات ملونة حرص اصحابها على ان ترفرف فوق الاسطح ، او ركائز البناء الاخرى تيمناً بالأولياء الصالحين كوسيلة لابعاد الشر .. بعض الهياكل كانت تعرض في مكان بارز منها جملة .. ( هذا من فضل ربي ) ، رغم ان ذلك الفضل لم يتعدى غير جدران تميل في مكانها جراء فقرها للمتانة المطلوبه .. القمر راح ينثر ضيائه على المكان ، ليكسبه مسحة تلطف ما به من جفاف .. ناداني صاحبي من بعيد ، وهو منشغل برش الماء على خرسانة بيته : - ما بك تتحرك بعيدا عني ؟ .. تعال واقترب مني لنتحدث فقط ولا اطلب منك اكثر من ذلك . انه مسكين هذا الرجل .. لقد بلغ الستين من العمر ، وهو لم يزل يأمل من زمانه بانه سيمهله حتى يتم بناء دار له ، وهو الان لم يتخطى في عملية بنائها غير المراحل الاولى .. احد ابنائه عمد قبل شهور الى تعليق جسده فجرا على شجرة في حديقة الدار ، ليموت شنقا قبل ان يستيقظ احد لإنقاذه ، وبقي سر انتحاره مجهولاً ولحد الان . ثمة نباح يصلني من بعيد لكلاب بدت وكأنها تتجه نحوي ، فحاولت التحرك من مكاني على مهل .. دراجة بخارية مرت بالقرب من المكان ، حال الظلام بيني وبين معرفة اتجاهها بالضبط .. صوت لطلق ناري هو الاخر لا يبعد عني كثيراً ، وطلق آخر صاحبته صيحات تدعو احدهم للتوقف وبطريقة توحي بالانذار .. لم يكن بامكاني حينها الا البقاء في مكاني وراء ستر فسائل النخيل ، بانتظار ما يتيح لي الانتقال الى مكان آخر . سمعت احدهم يصيح : - هناك شخص ما يقف هناك .. تبينوا امره فوراً قبل ضياع الوقت . فتيقنت بانني انا المقصود حين التف من حولي عدد من الرجال .. رفعت كلتا يدي الى الاعلى اعلاناً بالاستسلام وعلى طريقة الجنود الاسرى في الحروب .. اقترب مني اثنان منهم ، وشعرت بانني مقاد الى خارج البستان .. ما هي الا لحظات حتى اوقفتني المجموعة امام رجل لم ارى منه وسط الظلام غير بصيص سيجارته وهي معلقة في فمه .. تحرك البصيص الى الاسفل وبخط متعرج ، ثم سمعته يقول : - من انت ، وماذا تفعل هنا ؟ . - قل لي اولاً من انتم ، لكي اجيبكم عني وعن تفاصيل وجودي في هذا المكان . صاح رجل آخر من مكان ما ، وهو يقترب من المجموعة : - وجدت احداً وهو ميت لاصابته برصاصة .. انه في هيكل البناء الواقع بجوار دار المخطوف . حينها سمعت بصيص السيكارة وهو يقول : - اذن فلنغادر فوراً .. ولا شأن لنا بالقتيل الاخر . ثم اكمل وهو يلكزني بيده : - وانت .. اذهب طليقاً ، وليكن في حسابك على الدوام ، ان لا تكون في المكان الخطأ .. وقل لغيرك ايضاً ، بان من لا يحسن التعامل مع اعراف القبيلة ، سوف يكون مصيره كمصير هذا الذي اصبح الان عهدة بأيدينا .. وقبل ان يتحرك الرجال من حولي ، همس احدهم في اذني على عجل : - نحن عشيرة ال ...... سنقوم يتأديب عشيرة ال .... كونهم خرجوا عن الاصول في تعاملهم معنا .. سيبقى هذا الرجل في عهدتنا حتى يدفعوا لنا ما نطلبه ثمناً لقلة ادبهم . هدأ المكان تماماً من حولي ، فتحركت بحذر مشوب بالخوف ، صوب المكان الذي فيه صاحبي .. وبعد محاولتي اختراق حزم الظلام ، وجدته وقد استلقى على ظهره ، وخرطوم الماء لا زال بيده ، يغسل بركة واسعة من الدم ، ليكحل بها خلايا الخرسانة العنيده .
#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قول في حقوق المرأة .
-
النظام الوطني الديمقراطي ، غير الشمولي في العراق ، هو الحل .
-
إيحاءات سياسية
-
التحالف الغربي مع العرب ، ضد الاتحاد السوفييتي في حرب افغانس
...
-
ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و
...
-
ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و
...
-
ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و
...
-
أنا ، والشرق العربي ، والصين الشعبية
-
تمرد يتعدى الخطوط الحمر
-
ورقة من بقايا الذاكرة ..
-
غزة .. والانتصارات الكاذبة .
-
القضاء السوداني ، وشبهات إقامة الحد .
-
من وهج البحث عن الراحة
-
الثقافة النخبوية ، وحقوق المرأة .
-
ويبقى النفط العربي .. هو المصير
-
أفواه ... ودخان
-
النهاية المحزنة اقتربت .. فهل ثمة من يسمع ؟؟
-
رائحة القبور ..
-
الهجرة المعاكسة للفلاحين .. هي الحل .
-
اليابان .. وآمال شاكر الناصري
المزيد.....
-
-صُنع في السعودية-.. أحلام تروج لألبومها الجديد وتدعم نوال
-
فنان مصري يرحب بتقديم شخصية الجولاني.. ويعترف بانضمامه للإخو
...
-
منها لوحة -شيطانية- للملك تشارلز.. إليك أعمال ومواقف هزّت عا
...
-
لافروف: 25 دولة تعرب عن اهتمامها بالمشاركة في مسابقة -إنترفي
...
-
فنان مصري: نتنياهو ينوي غزو مصر
-
بالصور| بيت المدى يقيم جلسة باسم المخرج الراحل -قيس الزبيدي-
...
-
نصوص في الذاكرة.. الرواية المقامة -حديث عيسى بن هشام-
-
-بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|