|
سليمان ... النبي المُدلّل !
ظافر موسى
الحوار المتمدن-العدد: 5225 - 2016 / 7 / 16 - 10:18
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تجتاحُ الأسطورةُ قِصَص الميثولوجيا الدينية بصورةٍ عامةٍ ، لكنها تبلغ ذُروَتها في قِصة سليمان ، النبيُّ الملك. إن شخصية سليمان و القَصَص الذي جاءت به ليست كأي شخصية تأريخيةٍ أخرى يُنظَر اليها من جانب المُتعَة القَصَصَيّة التي َتتغاضى عن المبالغات و خوارقُ العاداتِ التي عادة ما تُصاحِبُ السّرد الفلكلوري ، بل هي أحدى الرُّموزُ الدينية التي إجتمعت على تعظيمها الأديان الإبراهيمية الثلاث كُنموذَج ربّاني يحمل رسالة "السماء" المقدسة و أُسوة يحتذى بها للعبادة و السياسة و إدارة الملك و تدبير شؤون الرعية ، و بالتالي فهي شخصية يفرضُ قدسيتّها النصّ الديني بكل ما فيها من خَطَل ، و لكننا سنعيا و نحن نحاول إستخراج هذه العِبَر من هذا القصص لسببين ، أولهما فلسفي نفسي ، و هو إن حِسَّ النّقدِ و التّحليل يَتَبَلّد كلما اشتَدّ إيمانُ صاحبِهِ بـ "النّصُوص المقدسة" التي تضعها فوق النّقد و التّمحيص ، ويحمل عامل الخوف من تبعات مخالفة النصوص صاحبه على تبرير فداحة النصوص بأن يبحث لها عن حكمة يجهلها (ما فائدة الحكمة إن كانت لا تُدرَك؟). السبب الثاني موضوعي ، فلا يملك من يقرأ قصة سليمان كما وردت في النصوص الدينية اليهودية و الإسلامية إلاّ أن يجد نفسه واقفاً تَتَملّكهُ الحَيرَة أمام مُعضِلةٍ أخلاقيةٍ وعقليةٍ و منطقية. ذلك لأننا إذا عالجنا قصة سليمان من ناحية نقدية محايدة فإننا سنقف أمام شخصية مستبدة و غاشمة تعيش خارج قوانين الطبيعة ، فسليمان يتحكم في الإنس و الجن و الوحش و الرياح ، و يَهِمُّ بتعذيب طائر رقيق كالهدهد لأنه غاب عن مجلسه و يهدد بغزو و تدمير مملكة آمنة مطمئنة لأنها لم تستجب لطلباته التعسفية ، و يقتل مئات الجياد لأنها ألهته عن صلاته. فهذه الشخصية التي خضعت لإرادتها المخلوقات المرئية و غير المرئية من الجن و الإنس و الطير و الوحش و العفاريت و الشياطين ، بل و حتى الريح ، تعيش في عالم أسطوري لا يمت إلى الواقع بِصِلَةٍ في أي حقبة مضت من ناحية تأريخية أو آثارية أركيولوجية ، بل ان القضية الأهم من هذا كله هو بأي شيء أفادت البشرية من هذه الشخصية و هذا السلطان الطاغي الذي لم يؤت أحدٌ مثله ، لا قبله و لا بعده؟
1- قصة سليمان في أصولها اليهودية شخصية سليمان بالأساس هي شخصية توراتلمودية ، و لا يمكن لأي باحث أن يفهم الأديان الإبراهيمية الثلاث من دون فهم التركيبة الدينية للديانة الأصلية التي انبثقت منها ، و هي الديانة اليهودية. و لكي نفهم أصل الأسطورة التي أحاطت بقصة سليمان يجب أن نفهم طبيعة و مصادر التعاليم اليهودية التي تمثلها التوراة و التلمود ، و كيف تم تجميعها و متى ، و هي طبيعة غامضة بعض الشيء حالها حال كل مصادر الأديان الأخرى. يصعب تعريف التوراة تعريفاً محدداً حتى بين الفرق اليهودية، و هي عند المسيحيين غيرها عند اليهود ، و لكن بصورة مختصرة - و على عكس ما يظن البعض من أن التوراة تشير إلى كتاب موسى - فإن التوراة عند اليهود تشير إلى كل الكتب المقدسة عندهم بالإضافة إلى أسفار موسى، و هذه تقسم إلى جزئين:
الجزء الأول: التوراة المكتوبة ، و هذه تمثلها الأسفار الخمسة التي يقول اليهود أنها أنزلت على موسى في الألواح ، و هي سفر التكوين ، سفر الخروج ، سفر اللاويين ، سفر الأعداد و سفر التثنية. هذه الأسفار عادة تكون مكتوبة في رقاع Scrolls يجهر بها في المعابد كل اسبوع ( وأحيانا يسمونها "التناخ" ) و هي بدورها تشكل الجزء الأكبر من ما يسمى بـ "العهد القديم" في الكتاب المقدس عند المسيحيين.
الجزء الثاني: التوراة المنقولة ، و تنقسم إلى قسمين ، القسم الأول هو أسفار الأنبياء مثل سفر يوشع ، القضاة ، صموئيل ، الملوك ، اشعيا ، جيرميا ، حزقيال و سفر الإثنا عشر نبيا. و القسم الثاني هو أسفار الكتب (مثل كتاب دانيال ، عزرا ، استير .. الخ)
إن نسبة الأسفار الخمسة الأولى إلى موسى أمراً مشكوكاً فيه تماما بسبب الطريقة التي دونت فيها التوراة و الفاصل الزمني بينها و بين صاحبها الذي يصل إلى قرون ، و هي مسألة فرضت نفسها على المؤسسة الدينية ذاتها ، حتى أننا نجد في مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدّس الصادرة عام 1960 ما نصه: (( مامن عالم كاثوليكى فى عصرنا ، يعتقد أن موسى ذاته كتب كل التوراة ، منذ قصة الخليقة ، أو أنه أشرف حتى على وضع النص ، لأن ذلك النص قد كتبه عديدون بعده ، لذلك يجب القول : أن ازديادا تدريجيا قد حدث ، وسببته العصور التالية ، الإجتماعية والدينية .))
يدل على هذا ورود سقطات تأريخية كبرى في أسفار التوراة الأولى ، مثل الخبر عن وفاة موسى في سفر التثنية و الذي يقول "فمات هناك موسى عبد الله فى أرض موآب حسب قول الله ، ودفنه فى الجواء فى أرض موآب – تثنية 5:34" و من غير المعقول أن يكون موسى قد أملى قصة موته على الكتبة! و شاهد آخر هو في قصة يوسف في سفر التكوين حيث يطلق على فلسطين "أرض العبريين- التكوين 40:15" و هو الإسم الذي لم يطلق إلا بعد قرون طويلة حيث أن فلسطين في ذلك الزمان و بتأكيد التوراة نفسها كانت تسمى "أرض الكنعانيين". و قد سبق هذا كله التأكيدات التى ترفض نسبة التوراة إلى موسى ، فكان تأكيد توماس هوبز الفيلسوف الإنجليزى (1588-1679) : "أن تدوين التوراة قد تم بعد موت موسى بزمن طويل" ، ثم تبعه الفيلسوف اليهودى باروخ اسبينوزا (1632-1677) الذى انتهى إلى إنكار أى احتمال يمكن بموجبه نسبة التوراة إلى موسى ، وقدم على ذلك شواهد عديدة ، وقدم عددا من القرائن التى تشير إلى "أن كتب العهد القديم بدءا من سفر التكوين وحتى سفر الملوك الثانى ، قد كتبها عزرا الذى عاش فى القرن الخامس قبل الميلاد" و هي الفترة التي رافقت السبي البابلي لليهود. و يرجح أن تدوين التوراة استغرق عدة قرون على يد عدد من الكتاب الذين اختلفت مشاربهم و أمزجتهم و ثقافتهم و التي أدت بمجموعها إلى ولادة الأسفار الخمسة.
هذه الأسفار كانت تُنقلُ شفهياَ من جيلِ إلى آخر في عصر ما قبل الأحبَار و لعدة قرون ، حيثُ كانَ اليَهودُ يعتقدون بحرمة تدوينها لأسباب عرقية سياسية دينية ، ثم بدأوا بتدوينها خوفاً عليها من الضياع بعد تعرضهم لحملات اضطهاد ، حيث استغرقت عملية تدوين الأسفار – خصوصا اثناء السبي البابلي - عدة قرون ، أي بعد وفاة موسى بحوالي 1000 عام! هذه الأسفار و بسبب أنها تعاليم عائمة غير متناسقة و أحيانا متضاربة مما يجعلها غير عملية التطبيق أدت إلى ظهور ما يسمى التعاليم الشفهية التي يعتقدُ اليهود أنها اوحيت شفهيا لعدة أجيال من أجل ايجاد مخرج لهذه الإشكالات و التناقضات.
التلمود من ناحية أخرى هو مجموعة الشروح و التفاسير لمعاني نصوص التوراة (المكتوبة و المنقولة شفهياً) و التي ألّفها الأحبار و تناقلوها فيما بينهم لعدة قرون ، و هي بالمناسبة تفاسير و اختلافات لا تزال قائمة إلى يومنا هذا. يتكون التلمود من 63 مجلدا أو فصلا موضوعيا و حجمه يصل قرابة 6200 صفحة متوسطة.
من هنا نفهم أن التوراة مرت بمراحل تطور تأريخية رافقت حركة اليهود و تطوراتهم المعرفية في الفترات التي كان الدين هو المهيمن على ثقافات الشعوب و له اليد الطولى في صياغة الأفكار و المفاهيم. التلمود أيضاً مرّ بعدة مراحل للتطور حتى وصل إلى ما وصل إليه ، و هو الآخر يتكون من جزئين : الجزء الأول يسمى المشناة Mishnah (الشريعة الشفوية) و هي الخلاصة الوافية لتفاسير و شروح الأحبار التي كانوا يتناقلونها فيما بينهم لعدة قرون حتى انتهوا من تدوينها نهاية القرن الثاني الميلادي. و الجزء الثاني يسمى الجيمارا Gemara الذي تم تدوينه نهاية القرن الخامس الميلادي (قبل ظهور الإسلام بقرن و نيف تقريبا) و فيها شروح على نصوص المشناة مع مواضيع جانبية أخرى تتعلق بالتوراة و أحكامها.
فالذي يتصفح التلمود يجد أن نصوص المشناة تتوسط الصفحة و من حولها في الحواشي توجد شروح الجيمارا التي تراكمت عبر التأريخ ، و هذا هو الأسلوب نفسه التي اتبعه المسلمون فيما بعد في كتابة تصانيفهم. ما يهمنا في هذا التصنيف للتوراة و التلمود هو "كتاب إستير" المذكور أعلاه ، حيث ألف الأحبار حوله عدة شروح تسمى ترجوم Targum و تعني بالعبرية "تراجم" ، من أشهرها الترجوم الثاني Second Targum و فيه تفاصيل قصة سليمان مع الهدهد و ملكة سبأ و أخبار الجن و الشياطين في مملكته مما أفاض فيه خيال الأحبار و أطلقوا فيه العنان لأساطيرهم. إن البناء الهرمي للنصوص الدينية اليهودية تشابه تركيبة البناء الهرمي للنصوص الدينية الإسلامية : • القرآن يقابل التوراة و كلاهما غير قابل للتغيير، • السُّنة تقابل المشناة فهي متداولة شفهيا لعدة قرون قبل أن يتم تدوينها، • شروح السنة تقابل الجيمارا فهي تراكمات شروحات و تفاسير الأحبار حول المشناة. • منظومة التفاسير و شروح السُّنَّة معاً تقابل التلمود عند اليهود ، الفارق الرئيسي أن اليهود لديهم تُلمود واحد بنسختين (نسخة بابل و نسخة القدس ) ولكن في المقابل يوجد أكثر من تلمود عند فرق المسلمين. بقي أن نقول أن اليهود يقدسون كتبهم - بتفاوت فيما بينهم - لكنهم لا يعتبرون المشناة و لا الجيمارا كتبا منزلة من عند الله ، و التلمود بالذات هو مصدر الأساطير التي اقتبست عنه بقية الأديان مادتها. سرّ المشناة!
القضية التي تثير الإنتباه هنا أن المشناة Mishnah تعني بالعبرية "الكتابة الثانية أو الإضافة أو متممة الشيء" ، و بالعربي تعني "مثنى" و جمعها "مثاني" لأن الشين العبرية تلفظ في أغلب الأحيان ثاءً بالعربية (في الأرقام العبرية شمونة اي ثمانية ، شلوش أي ثلاثة) ، و منها قد نفهم ما تشير إليه الآية 87 من سورة الحجر ((و لقد آتيناك سبعاً من المثاني .. و القرآن العظيم)) ، فالمثاني هنا تقابل المشاني اليهودية. أن هذه المشاني كانت متداولة عند أهل الكتاب في حيرة العراق و الجزيرة و اليمن ، و كان العرب يعرفونها و يسمعون بها منهم ، و هو ما كانوا يطلقون عليه أساطير الأولين! لقد عرف العرب المشناة منذ زمن بعيد حتى عند أؤلئك الذين عاصروا الدعوة الإسلامية ، فقد ورد في كتب التأريخ الإسلامي المبكرة أن الخليفة عمر بن الخطّاب وجد جماعة من الصحابة يكتبون الحديث النبوي في رقاع (قطع من الجلد) فثار عليهم و صاح فيهم "أمثناةٌ كمثناة أهل الكتاب؟"و أمرهم بمحو ما كتبوه خشية منه أن تشوّش هذه الأحاديث الشفوية أفكارهم و تصرفهم عن الوحي المكتوب (القرآن)! ، و من هنا نلحظ أن في قول الخليفة عمر "المثناة" ترجمة عربية دقيقة للكلمة العبرية "المشناة" التي تعني في أصلها (الكتابة الثانية).
2- بين الأسطورة و الحقيقة لم يثبت تأريخيا وجود ملك يهودي إسمه سليمان حكم في فلسطين في الحقبة التي أشارت اليها الأسفار اليهودية و ذلك في حوالي القرن العاشر قبل الميلاد بالرغم من تطور علم الأركيولوجيا و فك شفرات الكتابات الهيروغليفية التي لم تشر إلى شخصية بهذا المُلك و الإسم و المواصفات في تأريخ كل الأمم التي عاصرت و جاورت مملكة سليمان. و من المرجح أن تلك الأساطير التي أحاطت بملك سليمان هي من مختلقات اليهود إبان الفترة التي رافقت كتابة التوراة أثناء السبي البابلي و ما تلاها في فترة تطورالتعاليم الدينية اليهودية و الشروح الشفوية (المشناة و الترجوم) و التي أدت بمجموعها إلى ولادة التلمود. يمثل السبي البابلي لليهود في حوالي القرن السادس قبل الميلاد المنعطف التأريخي الكوني بالنسبة لليهود و الذي أدى إلى نشوء و صيرورة الفرضية الدينية اليهودية عن الخلق و الآلهة و التصور البدائي الساذج عن نشوء الكون و السموات السبع و الأرض السبع مما اقتبسوه بتصرف من أساطير الآلهة السومرية و الأكدية كما نقلها عنهم البابليون ، و بالتالي كانت نواة الفكر الديني الإبراهيمي الذي كان اليهود هو أول من انتحله و تخّيله.
فإنبهار اليهود - أثناء سبيهم - بالحضارة البابلية و ما سبقها من حضارات وادي الخصيب و اساطيرها أثَّر بصورة عميقة في صناعة التراث الديني اليهودي الذي انبثقت منه التوراة و موسوعة التلمود و شروحهما ، أي أنها مرت بمراحل تأليف و تطور معرفي و تأثر بالمحيط الإجتماعي الذي وجدت فيه ، و بهذا لا يمكن بأي حال من الأحوال اهمال تأثير الثقافات المجاورة على البناء القصصي للاهوت الذي يميز الأديان الإبراهيمية. سيجد المؤمنون بهذه الأديان صعوبة في تقبّل أن أصل تصوراتهم جاء من أديان ذات تصورات بدائية وثنية لأن الجميع يعتقد بأصالة موروثه المقدس بلا منافس أو شبيه ، و لكن فك رموز الكتابة السومرية في مطلع القرن التاسع عشر كشف الكثير عن أصل كل هذه الفرضيات و القصص الدينية الأسطورية مثل قصة فصل اله السماء "آن" (وهو سيد الآلهة السبع !) عن إلهة الأرض "كي" بواسطة ابنهما اله الهواء "أنليل" و قصة الطوفان الكبير.
ان قصة سليمان و مكوناتها الأسطورية الهائلة تنتمي إلى ما يسمى بـ "أدب الملحمة" في صناعة البطل و الاسطورة ، و الذي يتكون عادة عند الشعوب التي تجاور حضارات أرقى منها، و هذا ما حصل لليهود أثناء اقامتهم بين ظهراني البابليين ، فقصة سليمان – كغيرها من قصص موسى و باقي أنبياء بني اسرائيل - تبلورت خلال تلك الفترة التي عاصروا فيها حضارة البابليين و الآشوريين ، و هي حضارات كانت تزخر بقصص الأبطال الخوارق و انجازاتهم الأسطورية الهائلة و ما اتسموا به من الحكمة العالية مما لم يعتاده بنو اسرائيل في ماضي تأريخهم. و كردة فعل طبيعية لحالة الخضوع و الإنتكاس الحضاري الذي مرّ به اليهود بدأت تنشأ عندهم صناعة الأبطال بما لديهم من حكمة و معجزات و مخاريق يحاولون بها مضاهاة إرث البابليين و ما وجدوهم فيه من ملك عريض و بأس شديد و تأريخ عريق و دول كان تحكم بقانون مكتوب و ديانات و آلهة تفسر خلق الكون و الإنسان ، فكانت هذه كلها مصادر إلهام لصياغة الفرضية الدينية التي تتميز بها الأديان الإبراهيمية عن غيرها.
3- سليمان التوراتي! هنا أينعت الأساطير ، و جرى قطافها ، و لو وردت قصة سليمان في موروثات أمم الصين أو مجاهل أفريقيا لما فَطِن أو التفت إليها أحد بجدية و لعدها من خرافات الأمم الغابرة ، لكن وجودها في النصوص المقدسة أكسبها صفة الحقيقة ، و هكذا يقتحم الدين حواجز المنطق و المعقول و يقفز إلى مركز اللاوعي في كل ما يقول!
"سليمان" بالعبري تعني "المسالم" ، و أخبار سليمان وردت في قصص و روايات الأحبار و الحاخامات اليهود التي جمعت فيما بعد في أسفار التلمود التي تفيد أن سليمان عاش في حدود القرن العاشر قبل الميلاد ، و هو ابن داوود الأصغر من زوجته "باث شيبا" أرملة القائد "أوريا" الذي احتال داوود ليتخلص منه بزجه في أتون الحروب كما تشير إلى ذلك الأسفار. هذه الأسفار تعتبر أن سليمان من الأنبياء ، بل تصفه شروحها بأنه أعظم ملوك بني اسرائيل ثراءأ وجاهاً و سلطاناً خارقاً و حكمة بالغة. فمن آثار حكمته يذكر سفر الملوك قصة تخاصم إمرأتان أمامه حول أمومة طفل رضيع ينتهي بأن يأمر سليمان بشق الطفل إلى نصفين لكل واحدة منهما نصف و من ثم استسلام أمه الحقيقية و تنازلها عنه حفاظاً على حياة الطفل .. إلى آخره من القصة الفلكلورية الشهيرة.
أما حول مُلكِ سليمان ، فنقرأ في "سِفر الملوك" أن سليمان "سأل اللهَ أن يؤتيه الحكمة" كي يسوس بها شعبه المفضل (بني إسرائيل) فأعطاه الرب الحكمة ، ثم "زاده مُلكاً عريضاً" مكافأة له لأنه لم يسأل طول البقاء لنفسه. ثم تزيد الشروح اليهودية على ذلك بأن الله أخضع له خدمة الجن و الشياطين و الريح التي تجري بأمره و تحمل جنده حيث يشاء ، و كان يكلّم الأشجار و الطيور و الدوابّ! لاحظ أن هذه الزيادة التخيلية في سيطرة سليمان على مملكة الحيوان و مرافق الطبيعة لم تأت بها النصوص التوراتية عند اليهود، بل هي من مختلقات الحاخامات و قصصهم في كتاب الترجوم الثاني في شروح كتاب إستر (الترجوم الثاني) الذي هو أحد مصادر التلمود. يذكر "سِفر الملوك" أيضاً أن سليمان كانت له 700 زوجة و 300 محضية (جارية) فقط! و أن زوجاته كُنّ أميرات أجنبيات من الممالك المجاورة ، سمح لهن سليمان بأن يستبقين آلهة أقوامهن في مملكته يتعبدن لها. و بقين كذلك حتى أمَلنَ قلبَهُ إلى عبادة آلهتهن ، فبنى لهن المعابد لهذا الغرض ، ومن أشهرها معبد (أشتورة) و (ملكم). فغضب الرب عليه بسبب تساهله مع آلهة أزواجه و بناءه المعابد لهن ، فقرر أن يعاقبه لأنه نسي الرب الهه وذلك بأن يمزق مملكته إلى مملكتين متناحرتين ، و لكن بعد وفاته ، احتراماً لأبيه داوود المخلص! أي أن سليمان يذنب فيعاقب الربّ غيره!
أما عن ملكة سبأ فحديث الأسفار التوراتية الأولى عنها مقتضب مبهم ، فتذكر بعض الشروح أنه لما عمّت "حكمة" سليمان الأرض سمعت به ملكة سبأ ، فجاءته مع وفدٍ من قومها محملة بالهدايا من ذهب و أحجار كريمة و توابل ، و غادرت مملكته راضية مرضية بعدما أعطاها سليمان من كل ما سألته منه (لا نعرف بالضبط ماذا سألت ملكة سبأ؟). لكن شروح التلمود تدلي بمزيد من التفاصيل فيما يتعلق بلقائها به.
قصة سليمان مع بساط الريح ، و النملة في الأساطير اليهودية! للتدليل على هيمنة سليمان على كل من الإنس و الجان ، و الطير و الحيوان ، تذكر شروح التلمود (الترجوم الثاني لكتاب استير) عدة قصص من أشهرها قصة البساط السحري الذي كان يمتطيه سليمان و جنوده و يتنقل به حيث تحمله الريح التي كانت مسخرة له. فينقل الأحبار أن الله عندما وهب لسليمان الهيمنة على سائر المخلوقات أعطاه بساطاً عظيما طوله ستون ميلاً و عرضه ستون ميلا مصنوعاً من الحرير الأخضر و محبوكاً بخيوط الذهب ، و كان سليمان يرتقي هذا البساط محاطاً بأربعة من أمراء الخلق ، هم: "آصف بن برخيا" أميراً للإنس ، "راميرات" أميراً للجن ، الأسد أميرا للحيوانات ، و النسر أميراً للطير. و للدلالة على سرعة هذا البساط السحري ، كان سليمان يفطر في دمشق و يتعشى في شمال إيران (من الواضح أن طائرات اليوم أسرع من بساط سليمان!). و تستمر الأسطورة فتذكر أنه في أحد الأيام و بينما كان سليمان يحلق في بساطه إذ مرّ على وادي النمل ، فسمع سليمان إحدى النملات تقول لصويحباتها "ادخلوا بيوتكم و إلا حطمكم جنود سليمان" ، و حينما سألها سليمان لماذا قالت ما قالت و هي تعلم أنهم إنما يطيرون فوق الوادي و لا يهبطونه؟ أجابت النملة الحكيمة أنها خافت إذا انشغل النمل بالنظر إلى جنوده و عظمته أن ينشغلوا عن حمد الله! عندها أراد سليمان أن يسأل هذه النملة الحكيمة سؤالا فقالت له: ليس من العدل أن يكون السائل أعلى من المسؤول! فرفعها على بساطه ، فقالت له: ليس من العدل أن يجلس هو على عرشه و تقف هي ، فرفعها و وضعها فوق ذراعه و سألها: هل يوجد من هو أعظم من سليمان؟ فأجابت نعم! أنا أعظم من سليمان! و إلا لما كان الله ليرسله كي يضعني على ذراعه! فأستاء من كلامها و ألقى بها من فوق البساط! تشير بعض المرويات الإسلامية أن النملة الحكيمة كان إسمها "طاخية" و كانت عرجاء ، لم يبق إلا أن يجدوا لها لقباً ، ربما "أم الدرداء"! http://www.jewishencyclopedia.com/articles/13842-solomon
قصة سليمان مع الهدهد و ملكة سبأ في الأساطير اليهودية! يستطرد الترجوم الثاني من كتاب إستر في أخبار مملكة سبأ - التي كانت تشغل ما يعرف الآن بالحبشة و أريتيريا و الصومال و اليمن - و التي كانت كلها تعرف بـ ( اليمن السعيد). فيذكر ما يلي: " كان سليمان معتاداً حينما ينتشي من الخمر أن يجمع حاشيته و الملوك الذين من حوله و يأمر باقي المخلوقات من الوحوش و الطيور بأن ترقص أمامه و أمام ضيوفه ، لكنه انتبه يوما ً إلى غياب الهدهد عن موقعه ، “فتوعده بالعذاب الشديد” ، و حينما استدعاه للتحقيق أخبره الهدهد بأنه كان في رحلة للبحث عن مكان لم يخضع بعد لملك سليمان ، و أنه اكتشف أثناء رحلته تلك في الشرق مملكة بالغة الثراء من الذهب و الفضة و الأشجار ، عاصمتها " كيتور" و حاكمتها تدعى ملكة سبأ. فأرسل سليمان رسالة بيد الهدهد إلى تلك الملكة يأمرها فيها بالخضوع له و لديانته ، و تلقت الملكة رسالة سليمان المربوطة في جناح الهدهد الذي حل بفنائها اثناء صلاتها للشمس ، فاستدعت قومها للمشاورة لأن سليمان فرض عليهم شروطاً قاسية ، فقررت ارسال هدية لسليمان مع وفد محمل بأنواع الكنوز تصحبهم 6000 فتاة و فتى بعمر واحد و زي واحد ، و وعدته بالمثول أمامه بعد ثلاث سنين ، و فعلاً شدت الرحال إلى مملكته ، و عندما علم بمسيرها اليه أمر أحد وزراءه من الجن بأن يستقبلها ، و نزل هو في قصر زجاجي عريض ليستعرض لها ملكه ، فلما جاءت ملكة سبأ و رأت حوض الزجاج يحول بينها و بين سليمان حسبت أنه حوض من الماء فرفعت ثوبها ، فرآها سليمان .. فتبسّم ! و تذكر روايات أخرى أنه عمد إلى هذه الحيلة لأن الجن أخبره بأن لها ساقين مشعرين.
تذكر المصادر اليهودية أيضاً كيفية موت سليمان ، فقد سخّر الجن لبناء الهياكل ، و عندما حانت ساعة موته خاف أن تفلت الجن و تترك البناء ، فطلب أن تبقى جثته متكئة على عصاه ليوهم الجن بأنه لا يزال يرقبهم. فبقي كذلك عاماً كاملاً حتى اكتمل بناء الهيكل ، و عندها اذن الله لدابة الأرضة أن تأكل عصاه فخرّ ساقطا ، و حينها علم الجن بموته! يبدو أن الجن كان من الغباء بحيث لم يفكر في حاجة الملك إلى الطعام و الشراب و قضاء الحاجة ... أو زيارة نسوانه الألف! http://www.jewishencyclopedia.com/articles/13842-solomon
4- سليمان القرآني من حيث البناء الإسطوري ، لا تختلف قصة سليمان في القرآن عنها في المصادر اليهودية سوى أن القرآن أضفى صفة النبوة على سليمان و أهمل المطاعن التي جاءت بها التوراة في حقه ، و بذلك دخل سليمان حضيرة الأنبياء و حصانة مركزهم الديني. لكن هناك آية في سورة سبأ قد تشير إلى هذا الشيء و لو من بعيد ، و هي في قوله ((يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و جفان .. )) حيث ذكرت التماثيل ، و التماثيل هي المنحوتات المجسدة للكائنات. يرسم القرآن لسليمان عدة مشاهد ، أحدها كان في حياة أبيه في قصة الحرث الذي نفشت فيه غنم أحد الخصوم ، و فيها تغلب سليمان بفهمه على حكم أبيه من دون أن يذكر تفاصيل الحدث و بأي شيء حكم سليمان. لكن المشاهد الأكثر إثارة كانت حينما كان سليمان يمارس مهام النبوة و الملك في آن واحد ، و هي مشاهد تعكس كما قلنا جبروت الحاكم المتسلط.
5- الصافنات الجياد! جاء هذا المشهد في سورة (ص) ((وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ۚ--- نِعْمَ الْعَبْدُ ۖ--- إِنَّهُ أَوَّابٌ ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ--- تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ ، رُدُّوهَا عَلَيَّ ۖ--- فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ )) العشي هو ما بين الظهيرة و غروب الشمس ، و الصافنات هي الخيل إذا وقفت على ثلاثة قوائم و طرف حافر الرابعة ، فيقال لها صافنة. و الرائج من تفاسير هذه الحادثة أن سليمان انشغل بمجاميع من الجياد كانت تعرض عليه حتى غابت الشمس ، فإنتبه أنه قد فاتته صلاة أو شعيرة كان يؤديها قبل الغروب ، فغضب و أمر بالجياد فردت عليه ، فضرب عراقيبها و أعناقها بالسيف كي يتقرب بها إلى الله كي لا تلهيه مرة أخرى! نقل هذا الحسن البصري و السدي و قال ابن كثير ربما كان هذا مستساغاً في شرعهم! و قد حاول بعض المفسرين التقليل من وطئة هذا التصرف الأهوج فاعتذروا لسليمان بأنه فعل هذا تأديبا لنفسه ، و أنكر آخرون ذلك و حاولوا مداراة الفضيحة فلم يفلحوا في درء التهمة. هذه القصة أشارت اليها شروح التلمود في أن سليمان ابتاع 1000 جواد من دمشق ، و حينما جاءت تُعرض أمامه انشغل بها عن صلاة كان يؤديها قبل غروب الشمس ، فغضب و أمر بعقر 900 جواد منها قربانا إلى الله و أبقى على 100 منها.
6- فتنة الجسد على الكرسي! لم يحتر المفسرون في آية كما احتاروا في ألآية 181 من سورة ص ((و لقد فتنا سليمان و ألقينا على كرسيه جسدا ... ثم أناب)) ، فهي عائمة غائمة مبهمة ، ماهو الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان ؟ و كيف كانت فتنته ؟ و لماذا فتن سليمان أصلاً ؟ فخلصوا إلى روايتين لا ندري على أيهما نَعجَب و بأيهما نقتدي!
يذكر الرازي في تفسيره الكبير احدى الروايتين فيقول أن (( إن سليمان بلغه خبر مدينة في البحر فخرج إليها بجنوده تحمله الريح فأخذها وقتل ملكها ، وأخذ بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجها ، فاصطفاها لنفسه ، وأسلمت فأحبها ، وكانت تبكي أبدا على أبيها ، فأمر سليمان الشيطان فمثل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته ، وكانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة وعشيا مع جواريها يسجدن لها ، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة ، ثم خرج وحده إلى فلاة ، وفرش الرماد فجلس عليه تائبا إلى الله تعالى ، وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها ، وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما ، فأتاها الشيطان صاحب البحر على صورة سليمان . وقال : يا أمينة خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان فأتى عليه الطير والجن والإنس ، وتغيرت هيئة سليمان فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته . فعرف أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف ، وإذا قال : أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه ، ثم أخذ يخدم السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين يوما عدد ما عبد الوثن في بيته ، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان ، فقلن ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة ، وقيل بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن ، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يدسليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجدا لله ، ورجع إليه ملكه وأخذ ذلك الشيطان وأدخله في صخرة وألقاها في البحر .) ما نقله الرازي منقول حرفيا من التلمود ، فهذا ملك يسمع بمدينة في البحر فيذهب اليها فيدمرها و يقتل ملكها و يأخذ ابنته الجميلة فيصطفيها لنفسه! و لا يخفى عن اللبيب ما في هذا التفسير من ايغال في الأسطورة في قصة الخاتم و عفريت الجن. الرواية الثانية ينقلها الرازي أيضاً مرجحا إياها على الرواية السابقة فيقول (( روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله ، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره ، فوالذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا كلهم في سبيل الله فرسانا أجمعون فذلك قوله ولقد فتنا سليمان )) رواها البخاري و مسلم بألفاظ متعددة. تستوقفنا ههنا نكتة ، فكأن سليمان لم تكفه كل هذه الجند المجندة من الإنس و القوات الخاصة من الجن و الشياطين و الوحوش و الريح المرسلة و كلهم يأتمرون بأمره ، فأراد أن يزيد عليهم سبعين مقاتلا فارساً من صلبه يأتي بهم جميعا في جولة واحدة على نساءه السبعين ( هذه أول صورة لجهاد النكاح) ، لكن هذا النبي نسي أن يقول "إن شاء الله" قبل أن يبدأ جولته المباركة فعاقبه الله على هذه الزلّة بأن وَهَبَ له شِقَّ إنسان – أي معوّق - ألقاه على كرسيه ! و تبقى القصة غارقة في الإيهام و الأوهام حتى يومنا هذا.
7- قصة الهدهد ! في الآية 20-21 من سورة النمل (( و تفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين؟ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه ، أو ليأتيني بسلطان مبين)) كما جاءت في التلمود تماما ، لكن ما يستوقفنا هنا هو تهديد سليمان بذبح و تعذيب طائر لأنه لم يحضر التعداد اليومي؟ و هي تعكس خفة عقل هذه الشخصية و شدة قساوتها بحيث تكون أول ردة فعلها هو أن تهدد بتعذيب طائر رقيق كالهدهد لأنه غاب بدون إجازة! و لاحظ هذا الإمعان "لأعذبنه عذابا شديدا"! هب أن الهدهد كان مريضاً أو ذهب بحاجة رزق أفراخه؟ إذا كان هذا حال حكم سليمان مع رعيته فكيف يكون حاله مع الأمم التي كان يغزوها و يخضعها قهراً؟ لكن بأي شيء أراد سليمان تعذيب الهدهد؟ نقرأ في تفسير الرازي الكبير : ((قال ابن عباس : إنه نتف الريش والإلقاء في الشمس ، وقيل : أن يطلى بالقطران ويشمس ، وقيل : أن يلقى للنمل فتأكله!)) فتخّيل ! ما يستوقفنا هنا هو قضية مركزية في الحكم الديني استمرت حتى يومنا هذا، و هي شرعة و استساغة التعذيب! فهذا الموقف يشبه موقف الشخصية الأخرى التي مَلَكَت الأرض بتمكين الله و هي شخصية ذي القرنين الذي كان مستعداً لتعذيب أهل قرية لا يعرف عنها شيئا حين بلغ مغرب الشمس ((قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب و إما أن تتخذ فيهم حسنا، قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا - الكهف)).
8- محنة بلقيس! القصة كلها مستنبطة من التلمود ، فبعد أن أنبأه الهدهد عن أمر مملكة سبأ و ملكتها العظيمة ، يرسل سليمان اليهم برسالة تفتقد أبسط مقومات اللباقة و الحكمة و بدون استشارة من أحد ((أن لا تعلوا عليّ و أتوني مسلمين – النمل 29)) و هي عبارة تحمل كل صفات الجبروت لأنها تجعل من شخصيته هو فقط محورا للعلوّ ((فلا تعلو عليّ أنا ، و أتوني أنا مسلمين)) فليس عنده ملأ أو قوم أو حتى حاشية وزراء يقدمهم على نفسه ، بل ينفرد بقراراته و تهديداته كأي حاكم غاشم. قارن هذا الإستبداد المطلق بموقف ملكة سبأ نفسها ((قالت يا أيها الملأ افتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون)) و هي تعكس رجاحة عقلها و حسن تدبيرها باستشارة قومها و قادتها و شفقتها بهم. و برغم من أن قومها عرضوا عليها خيار الحرب لكنها آثرت العافية لها و لقومها و قالت ((إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها و جعلوا أعزة أهلها أذلة)) فلم تزج بهم في معركة لتحمي عرشها ، و هذا يدل على أنها كانت تدير مملكة آمنة مطمئنة مستقرة برفاهية و سلام. عرضت ملكة سبأ لسليمان بهدية لكنه ردها بهذا التهديد العسكري المتغطرس ((لنأتيهم بجنود لا قبل لهم بها و لنخرجنهم منها أذلة و هم صاغرون)). لماذا هذا التهديد بتدمير مملكة لم تؤذيه و لم يشتك له أحدٌ منها و لم تبدر منها بوادر عدوان أو تهديد لأمنه؟ كيف لنا ان نُقيّم موقف سليمان هنا و بأي شيء نبرر له استعداده لذبح شعب بأكمله لأن ملكتهم تعبد الها غير الههُ الذي يعبده؟
9- سيقان الملكة ! تستسلم ملكة سبأ لتهديدات سليمان ، و تشدّ الرحال لتوقيع معاهدة الإستسلام مع سليمان ، فيقرر أن يلهو معها و يلعب لعبة العروش يستعرض بها أحدث تقنياته الجِنيّة التي وهبها الله له ، فيبني صرحا زجاجيا هائلاً ليخدعها أن تكشف عن ساقيها ((قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة و كشفت عن ساقيها – النمل 44)) هنا يثور سؤال! ما فائدة هذا الحديث عن كشف الساقين لملكة سبأ ، و أي شيء أضاف إلى قصتها مع سليمان؟ كالعادة ، احتار المفسرون بهذا الحادثة ، فاستقروا فيما استقروا فيه – راجع تفسير الرازي و ابن كثير و باقي المفسرين للإستزادة - أن "أحد أبوي ملكة سبأ كان من الجن ، فخافت الجن أن يتزوج سليمان من ملكة سبأ فتنجب له غلاماً يحكمهم من بعده ، فأرادوا أن يزهدوه و يكرهونه فيها فقالوا له إن ساقيها كساقي حمار مُشعرين ، فأراد سليمان أن يتأكد بنفسه (الرجل حويطّ) فشرع ببناء الصرح ليعلم حقيقة ساقي ملكة سبأ!" هذا نبي لاهمّ له في مملكته سوى تتبع سيقان المَلكات ، و كأنه لم تكفيه الألف زوجة و جارية اللواتي تعج بهن قصوره حتى مدّ عينية إلى ملكة سبأ!
في تفسير الطبري نقرأ "عن عطاء بن السائب ، عن مجاهد ، في قوله ( وكشفت عن ساقيها) فإذا هما شعراوان ، فقال : ألا شيء يذهب هذا ؟ قالوا : الموسى ، قال : لا الموسى له أثر ، فأمر بالنورة فصنعت . و روي أيضاً عن عمران بن سليمان ، عن عكرمة وأبي صالح قالا : لما تزوج سليمان بلقيس قالت له : لم تمسني حديدة قط ، قال سليمان للشياطين : انظروا ما يذهب الشعر ؟ قالوا : النورة ، فكان أول من صنع النورة ." و النورة مادة كلسية تستخدم لإزالة الشعر. لاحظ شدة اهتمام الملك بسيقان الملكة المشعرين ، و أن نساء سبأ لم يكن يرين بأساً من سيقانهن المشعرات حتى نبأهم النبي سليمان ، يبدجو أن هذه كانت إحدى مهام هذا النبي.
10 - نبيٌ مدلّل! على عكس قصص باقي الأنبياء الذين تبدو مهمتهم صعبة و مضنية و محفوفة بالمخاطر و التضحيات ، فأن الأمر يختلف مع سليمان ، فليس له جُهدٌ يذكر! فهو لم يشق طريقه أو يصنع مجده كأبيه داوود من قبل ، ذلك أن قصته تنبيء عن فتىً نشأ و عاش كأمير مدلل بين أحضان المَلِك و العناية السماوية المركزة التي منحته من المُلك ما لم يُؤت أحدٌ من العالمين ، فأصبح ذا قوى خارقة تتحكم في الإنس و الجن و و الطير و الوحش ، بل و حتى في قوى الطبيعة. و لأن مهمة "الأنبياء" جسيمة و مسؤوليتهم مقدسة و سلوكهم مؤيد بـ "الوحي الإلهي و العناية الربّانية الفائقة" ، فلنا أن نسأل: ماذا فعل سليمان بكل هذا السلطان الرهيب و الملك العريض المهيمن الذي صار تحت يديه بعد أن طلبه من الله ((رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي )) بكل ما في هذا الدعاء من أنانية مفرطة و كأنه ولد مدلل لا يحب أن يشاركه في لعبته أحدٌ! أليس لنا أن نسأل ما هي إنجازات سليمان و ماهي آثاره و كيف استفادت البشرية من ملكه و حكمته؟ كنا ننتظر من هذا النبي أن يوظف ما أوتي من قوة و سلطان قاهر فيسخرها لتحقيق مهام صعبة تعمّر الارضَ و الإنسان ، و تنهي الفقر و الحرمان ، و تحقق حلم الاديان ، بان يملأ الأض قسطا وعدلا و امان ، لا أن يملأها بقدور و تماثيل و جفان! كنا ننتظر من هذا النبي الملك أن يسعى فينشر العدل الإجتماعي و الرخاء في مملكته ، بل في الأرض جميعاً ما دام يتحكم في مخلوقاتها جميعا ، فيقضي على قوى الشرّ فيها! كنا ننتظر منه أن يقضي على الفقر و البطالة ، و الجوع و الأمراض و العالة ، و يصلح الأرض و سبخاتها ، و يستخرج منها أثمارها و خيراتها ، و يوزع ثرواتها بين سكانها ، و يضرب مثلاً للتقشف و مراعاة أحوال الرعية ، فيكون مثالاً تحتذي به الملوك و السلاطين.
لم تذكر قصة سليمان أمر الفقراء في مملكته و أمر الرعية و العدالة المرجوة فيهم ، بل على العكس ، نراه يغضب لأنه افتقد طيرا من حاشيته فيتوعد بذبحه او تعذيبه بسادية من في عقله لوثة! هذا ملك أول عقوبه يفكر فيها هي الذبح ، ثم التعذيب الشديد في حق طائر ، فما بالك بغيره؟ ثم نراه ينشغل بحيل المراهقين و آلاعيبهم لتكشف له إمرأة غريبة عن ساقيها ! بل يسخر لهذا العبث موارد الدولة و طاقاتها! وهو أيضاً حاكم أهوج ، يلجأ إلى التهديد العسكري و العدوان على مجتمع آمن مطمئن بلا تردد لأنهم رفضوا غطرسته ، و لو كان حكيما لارسل وفدا يعرض عليهم دينه بالحكمة و الموعظة الحسنة لا أن يرسل لهم رسالة تهديد في جناح طائر!
ثم كيف غاب أمر مملكة سبأ عن سامعيه؟ تخيّل مملكة كبيرة بالغة الثراء تُشارك في إدارتها كافة المخلوقات من الإنس و الجن و الطير و السباع و يفترض أنها كانت أثر إقليمي و مع ذلك لا علم لها بمملكة مجاورة ذات صيت و نفوذ تأريخي حتى اكتشف أمرها الهدهد! من غير المعقول أن قوافل التجارة أثناء حكم أبيه لم يخطر ببالها أن تصل إلى سبأ و هي مملكة الأحجار الكريمة و كنوز الخيرات الأفريقية؟
ثم ماله ذهب يستعرض عضلات جيشه و حيل شياطينه على مملكة تبعد عنه الفي كيلومتر بحجة أنهم "لا يعبدون الله" و ترك ممالك مجاورة له لا تعبد الله؟ مثل الفراعنة في مصر الذين كانوا يعبدون الشمس كأهل سبأ ، و الفينقيين الذين كان لكل مدينة لهم فيها إله يعبد ، و البابليين في وادي الخصيب الذين كانوا يعبدون عدة آلهة مثل "مردوخ" و أبوه "إيا" و ابنه "نبو" و "عشتار" الآشوريين في شمال العراق ، و الإمبرطورية الفارسية الزرادشتية و عبادتها للظلمة و النور! و كل هؤلاء كانوا يحاذون مملكته و على مشارفها ، لكنه تركهم و توجه إلى ملكة سبأ! و لو ذكرت له قبيلة افريقية يحكمها رجل عجوز مخرم الأذن مجدوع الأنف رأسه كأنه زبيبة لما لقي له سليمان بالا و لا احتال ليكشف له ذلك العجوز عن ساقيه سواء عبد الشمس أم سجد للحجر، لكن الهدهد عرف كيف يُسّيلُ لُعاب الملك !
أين ذهب ملك سليمان؟ ما مرّ معنا يثبت أن سليمان و مملكته لا تعدو أن تكون اسطورة منتحلة من خيالات اليهود، فمن الناحية التأريخية العلمية ، لا يوجد أي دليل على وجود هكذا شخصية بهذا المُلك الخارق ، خصوصا ما تحدث به اليهود عن هيكل سليمان العظيم ، فقد فشلت كل محاولات اليهود الإسرائيليين في فلسطين في العثور على أي شيء أو أثر تأريخي أركيولوجي يدل على أنه من بقايا هذا الهيكل المزعوم. يقول عالم الآثار الإسرائيلي "مازار" (إننا لم نعثر إلا على القليل جدا ًمن اللقى الأثرية تعود إلى القرن العاشر قبل الميلاد) ثم يقر أنها متواضعة إذا ما قورنت بالحضارات المحيطة مثل الحضارة الآرامية و البابلية و الفينقية و المصرية. و لكن لا هذه الحضارات و لا غيرها في العصور المختلفة أشارت بوثيقة واحدة لوجود هذه المملكة المزعومة! فمن غير المعقول ان تختفي آثار مُلك و مملكة بهذه العظمة و الغطرسة و تنمحي آثارها و قد بقيت آثار حضارات و ملوك سبقوه و عاصروه كالفراعنة و البابليين و الآشوريين؟ حتى آثار سبأ وصلت إلينا وبقيت معالمها و من المفروض انها اتحدت مع مملكة سليمان و أصبحتا مملكة واحدة ، خصوصا بعد واقعة كشف الساقين! لكن شيئاً من هذا لم يحدث ، لأن البناء القصصي كله من وحي الخيال الإسطوري الذي شعر بنو اسرائيل بحاجتهم اليه في وجود الحضارات و الإمبراطوريات و الأديان المنافسة.
لا يخفى على اللبيب أن كل قصة سليمان بلا معنى ، نعم قد تصلح فصولها لتسلية الأطفال، لكنها بالتأكيد لا تصلح لمجتمع يؤمن بالسبب و النتيجة و البرهان و لا يمكن طرحها كنموذج سياسي أو أخلاقي لأنها تفتقد كليهما، و مع ذلك اكتسبت تلك القصة قداسة النصوص و تحولت إلى حقيقة لا يماري فيها "إلا من في قلبه مرض" ، و هكذا يفعل الدين بالعقول ما يشاء. و بالرغم من هذا ، فقد أظهر اليهود سليمان كملك مستبد أراد السيطرة على ممالك أخرى للتوسع و الإحتلال ، فكانوا أقرب واقعية إلى اسطورتهم من الذين اقتبسوها منهم وجعلوا من سليمان نبيا .... من الصالحين !
#ظافر_موسى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أوساخ النّاس !
-
هل أتاك حديث ابن عبّاس ؟
-
من أديسون إلى الخوئي ... في ذكرى ولادة إمام المخترعين !
-
عزانا و عزاهم !
-
محنة ابراهيم !!
-
فرخندة ! باي ذنب قتلت؟
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|