محمد عبد حسن
الحوار المتمدن-العدد: 5219 - 2016 / 7 / 10 - 19:46
المحور:
الادب والفن
حين تكون جارًا مخلصًا للنهر.. فسيحدثك بحكاياته. وما دمت لا تنزل إلى النهر ذاته مرتين.. فأن ما سيصل إلى أذنيك منه, وهو في طريقه إلى البحر، سيكون مختلفًا في كل مرة تجلس فيها قربه.. أو تلقي جسدك فيه لتحسَّ بكل ما يعتريه وهو يقص عليك حكاياته التي لا تنتهي.
الشيء ذاته يحصل وأنت جالس في فيء نخلة لا تعرف من زرعها.. ولا كيف بقيت عصيَّة على كل الخراب الذي مرَّ حتى استطالت كل هذا الطول.. ما دمت لا تعرف كل ذلك.. وكثيرًا غيره.. فستحدثك هي تحت إغراء فيء بارد.. وعزف تحدثه الريح في السعف.. لتستبقيك فترة أطول لسماع حكاياتها.
دهشة الوصول إلى النهر زادت أو اتسعت عندما أصبحت أعي ما تقصه عليّ عمتي الضريرة.. تلك الحكّاءة التي لم تعرف بورخس.. ولا سمعت به يومًا.. والتي راقبتها طويلًا, وأنا أصب لها الماء في قدح أو (طاسة) تحملها بيدها, راقبتها لأعرف كيف (ترى) كمية الماء قبل أن تقول لي (بَس) . مندهشًا كنت حين عرفت أخيرًا أن لها عينًا في رأس إصبعها التي تدليها في (الطاسة) أو القدح تنظر بها وأنا أصب لها الماء.
عمتي تلك حدثتني عن (خضرة أم الليف).. و (عبد الماي).. وأشارت لي إلى (الطنطل) الذي لا أدري لماذا اختار الجلوس في قلب قمة النخلة.. (هل تراه).. كانت تقول لي مشيرة بإصبعها إلى اتجاه لا نخلة فيه, وكنت أراه حيث تشير!
كانت تحملني إلى رأس الزقاق بإحدى يديها تاركة الحائط يقودها من يدها الأخرى إلى هناك حيث تجلس وتضعني بحجرها مستقبلة (حصان السيد أبو الكاز) بترقيصة ما زلت أحفظها : (حصان السيد.. هليانة).
منها عرفت حكايات بنت السلطان.. ولعبة الصبر.. و (أم رجل مسحة ورجل حصان).. وحكايات كثيرة عرفت فيها بعد أنها استلهمتها من ألف ليلة وليلة. ولمّا لم تكن تقرأ.. فلا بد أن أحدا قرأها لها.. أو أن نخلة, من النخل الكثير الذي كان قريباً من دارنا واختفى كله الآن, حدثها بكل ذلك.. فأنا لم أراها تذهب إلى النهر يومًا.
كل حكايتها تلك حملتها معي إلى فضاء الصف في (مدرسة الجمهورية التطبيقية الابتدائية النموذجية المختلطة).. هكذا كان اسمها. وكانت وقتها مدرسة بمسرح, وغرفة للموسيقى.. وصندوق خشب صغير كُتب عليه (صندوق دعم العمل الفدائي) يوضع أمامنا في فترة الاصطفاف الصباحي.. ومكتبة تنتشر على طاولتها الكبيرة في المنتصف إصدارات (دار ثقافة الأطفال). الكثير مما حدثتني عنه عمتي رأيته هناك مجسداً بريشة (صلاح جياد) وَ (طالب مكي) وَ (علي المندلاوي) و آخرين.
في (الجمهورية التطبيقية), كما كانت تسمى اختصارا, غنّى لنا (الأستاذ طالب غالي) في يومه الأخير قبل أن يذهب, ورسم لنا الفنان الرائد (الأستاذ هادي البنك) الكثير من اللوحات بطباشير ملون, فيما حاول جاهدا (الأستاذ محمد رضا السهيل) تعليمنا مبادئ خط الرقعة.
ما أعقب ذلك لم يكن بكل هذا الخصب.. وإن كان لا يخلو من إشارات مضيئة لم أجد بدا من الاتجاه إليها. (الست سهيلة ....).. نظرت إلي بعينيها الواسعتين بعد أن حجزت (دفتر الإنشاء) الخاص بي لديها مع دفتر طالب أخر يدعى (أحمد سعيد) لتعرف من نحن.. (الست جوزفين يعقوب كملو).. أقنعتنا، بكلّ ألوانها، بتكوين نواة مكتبة لكل منا.. كان ذلك في (متوسطة 8 شباط التجريبية) كما سُمّيتْ وقتها وكانت بإدارة المربية الفاضلة (الست إلهام أبو شعير).
تبقى الطفولة هي الفترة الأكثر خصبًا.. الأكثر غنى, وكل ما يعقبها هو محاولة لتمثّلها وعيشها من جديد.. الانطلاق منها.. ولكن ليس بعيد عنها .. أو تمنّي الرجوع إليها من جديد حين يصبح الخارج, بكل سعته, أضيق من خرم إبرة.
من عاش سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي يدرك ذلك.. ويدرك أيضًا أنه لم يكن أمام الكثيرين غير طريقين, الأول هو أن يختفي.. والثاني, هو أن يختفي!
بعد اختفاءات عدة لم تكن بعيدة.. اختفى أخي. يوّلد فيك الفقد رغبة ملحة لخلق عالم آخر لا فقد فيه.. مغاير تجد فيه كل ما تفتقده. وإذ يتعذر عليك ذلك.. تضطر إلى خلقه وبناءه، ولو على الورق، لتفاجأ أخيرًا أن عالمك الذي خلقته لا يختلف كثيرًا عن ذلك الذي تهرب منه. فهل تكون عملية الكتابة هي طريق للتخلص من هم عبر طرحه على الورق؟!
يقول أحدهم (لن تصبح كاتبًا حتى تمزق طنًا من الورق)! ولا أدري إن كنت أصبحت كاتبا أم لا وأنا لم أحرق غير عدد من الدفاتر المدرسية وأوراق كنت أدون فيها ما أسميته وقتها قصصاً.. وأشياء أخرى. حصل ذلك بعد أن قرأت قصة (انهيار سد مأرب) للقاص الراحل (حمد صالح) التي نشرت في مجلة الأقلام في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي.. هل يسمى ذلك حسًا نقديًا أدركَ حجم الفجوة بين ما أكتبه وبين ما يُكتب فآثرت أن أبدأ من جديد ؟!
بدايتي الأخرى وحيداً لم تستمر طويلًا. فدعوتي للمشاركة ضمن الإصدار الثالث لمشروع (جماعة البصرة أواخر القرن العشرين) من قبل الصديق القاص (الأستاذ قصي الخفاجي) أثرت تجربتي كثيرًا. فمن رحمها خرجت الكثير من نصوص مجموعتي القصصية الأولى (الطوفان وقصص أخرى) الصادرة عن دار أزمنة في عمان عام 2002.
الحديث عن تأسيس هذه الجماعة أتركه لزملائي ممن شهدوا مرحلة التأسيس وأعدوا لها.. إلا أنني أجد من الضروري القول أن مشروع (جماعة البصرة) القصصي بحاجة إلى أن يلتفت إليه نقادنا, البصريون منهم تحديدًا, فهي أطول الجماعات الأدبية التي تشكلت في العراق عمرًا.. وأكثرها إصدارًا (بحد علمي).. إضافة إلى صبغة التجديد والمغايرة التي ظهرت في الكثير من نصوصها.
لم تكن (خرائط الشتات) محاولتي الروائية الأولى.. فهي الثالثة إذا رتّبتُ الأمر تاريخيا. فَـ (الدوامة).. كانت محاولتي الروائية الأولى، وربما تكون أقدم ما أحتفظ به من محاولاتي في السرد، فزمن كتابتها يرجع إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي، وتوجد مخطوطة عند بعض الأصدقاء. أعقبتها (سليمان الوضّاح) التي حصلت على الجائزة الثانية في مسابقة (رابطة الكتاب الأردنيين لغير الأعضاء) عام 1996.. وهي لم تطبع بعد. وقد بحثتُ عن شهادة الفوز تلك فلم أجدها مع القليل الذي أحتفظ به.. والذي نجا من محاولات التخلص من الأشياء الزائدة بالطريقة ،وللأسباب، التي ورد ذكرها في (خرائط الشتات).
الحديث عن أي عمل (إبداعي) من قبل صانعه.. يفسده، يضعه في إطار ضيّق لا يتجاوز فهمه هو. أعدُّ ذلك تجاوزا على سلطة القارئ المنتج (والتعبير هنا للشاعر والناقد الأستاذ مقداد مسعود).
أدّعي أنني في الكثير مما أكتبه أبحث، أو أحاول البحث، عن قارئ منتج. وأزعم أيضا أن ذلك جاء أكثر وضوحا في (خرائط الشتات). إضافة إلى ذلك.. فإن التشظي الذي أصاب كل شيء هنا ترك آثاره على كل شيء، ليس بدءا بالإنسان.. ولا انتهاء بالطريقة أو الشكل الذي نحاول التعبير به.. شرط أن لا نقدم وليدا مشوّهًا.
ما زلت أبحث عن طرق لبقية أحلامي.. وما وجدته منها لم يوصلني إلى شيء. فَـ (جاسم كاكا) الذي تحدثت عنه في (الطوفان) لم يعد ساكنا تحت جسر (الخورة).. فقد تركه ليموت حارسا في عمارة بعيدا عن الماء.. متخليا عن كل سحر عالمه الأول. وَ(مطرود)، قبل أن يموت، كان يطلب يدا تعينه في الصعود إلى سيارة (الكوستر) دافعًا جسده بعصاه مع أنه كان، يوما ما، بطلا في لعبة بناء الأجسام في نادي الشروق. وَ(نعيم الدبّي) كما كنّا نحن الصغار نسميّه.. انتهى به المطاف في سوريا يطوف شوارعها برجلين مقطوعتين.
كلّما مررتُ في طرق وأزقة (المناوي) رأيت كل الغائبين واقفين في الزوايا التي اعتادوا التجمهر بها، ينتظر احدهم الآخر.. ثم يبتعدون حاملين معهم كل صخبهم الذي يثيرونه.. يسيرون على عجل حاملين كتبًا أو صحفً يخفون عناوينها وهم يتلفتون كثيرًا.. متحلقين يراقبون (الزار) بعين واحدة فيما العين الأخرى تراقب الطريق.. فربما تصل سيارة النجدة في أية لحظة. الراحلين الذين ذهبوا إلى الحرب فماتوا، أو رفضوا الذهاب فأعدموا. وأنا أمرّ من هناك يزدحم رأسي بكل ذلك.. تطاردني حكاياتهم لأرويها.
ما زلت أبحث عن طرق توصلني لأحلامي.. جسر يوصلني إلى هناك بطرق مختصرة.
-----------------------------------------------------------------------------
ملاحظة :
لم يتم الالتزام بقواعد اللغة في بعض الكلمات من أجل المحافظة على وقعها كما تلفظ بالعامية.
#محمد_عبد_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟