|
أزمة الحداثة المُعَوْلَمة ..
محمد البورقادي
الحوار المتمدن-العدد: 5215 - 2016 / 7 / 6 - 15:18
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
الأزمة المُعولَمَة :
إن العولمة كحركة اقتصادية ساهمت في تعبيد الحياة الإنسانية في كل المجالات وأحدتث رفاها عالميا ينهل منه العالم بحسب استعدادات عوالمه ومجتمعاته وأفراده ، لكن بقدر ما كانت هاته الحركة نافعة ومحسنة لمستوى العيش عند البعض بقدر ما كانت نقمة أدت ويلاتها إلى القضاء على حياة البعض الآخر. فالعولمة كانت ولا تزال سببا في خلق العديد من الأزمات وفي استشراء الفوضى العالمية ، وفي انكماش الأخلاق واضمحلال إنسانية الإنسان وجوهره ، فهي لم تزد هذا الإنسان إلا شرهاً واستقواء وجورا وطغيانا ، فبعد أن بلغ الإنسان الذروة في الصناعة التقنية وفي المعدات الحربية وفي وسائل الاتصال والتواصل ، انقلبت موازين الأخلاق وارتد العقل أكثر همجية وحيوانية ، فهل استفاد الإنسان حقا من هذا التطور !! لا أعتقد ذلك ،فقد ارتد هذا الإنسان من قمة ارتفاعاته وتراجع للوراء أكثر من تقدمه للأمام ، فأصبح يصنع السلاح ليحارب وليبيد ويسحق ، ويصنع السيوف ليقتل ، ويشاهد التلفاز ليزداد عنفا وشراسة . فرغم ما وصل إليه الإنسان من تقدم في كل المجالات فإن ذلك لم ينعكس على تقدم أخلاقه وقيمه ونظرته إلى الكون والحياة والأشياء إلا بالقدر الضئيل جدا ، ولم يُرى أثر هذا التقدم في ممارساته وسلوكاته وميولاته وتمثلاته للواقع ، فما جدوى الاختراع والاكتشاف إن لم يؤثر ذلك في النفوس ويحيي الضمائر ، بل على العكس من ذلك ،وعلى غير المتوقع، ازدادت معه الخلافات وكثرت معه مؤججات العنف ودواعي الجريمة والانتقام ، وتنامت معه غريزة الانسان للسيطرة على الطبيعة واستنزاف مخزونها الذي يتناقص بالتدريج معلنا نضوبه وموته . إن العولمة بهذا الاعتبار ، هي قوة مدمرة وليست خلاقة، تهدف إلى القمع وإلى الاستحواذ الأقصى على الموارد وإلى استعباد المستضعف واستعمار الأقل نصرة وعتاد ، وفرض نظام القوي على الضعيف والإنغراس المتوحش بالقوة مادية كانت أو رمزية في كل خصوصيات هذا الضعيف وموارده . إن الرفاه الاقتصادي كشعار لخطاب العولمة ما هو إلا ذريعة وغطاء تمت فبركته بحبكة عالية من طرف منظري العولمة لاستعمار العالم وتركيعه وإخضاعه للنظام العالمي الجديد ، هذا النظام الذي تتسلل مفاعيله كل النطاقات بما فيها "الاجتماعي" محاولا اختراق أبنيته وإعادة نمذجتها وفق نموذجه الخاص ، وما فكرة التنمية المستدامة التي تتشدق بذكرها ألسنة المنظرين إلا أزمة مستدامة ،إذا ما توقفنا عند حقيقتها ، ترزح تحت وطأتها دول العالم النامي بالخصوص باعتباره بقرة حلوب ترضع منها صناعة الغرب بما يقوّي عتادها الرمزي والمادي. إننا نمضي صوب الكارثة كما يعتقد إدغار موران ، تلك الكارثة التي يجب أن نقر بوجودها حتما لا احتمالا لنسعى لتلافيها ، فالفوضى التي يعرفها العالم نتيجة انحراف التوجهات العالمية تحمل أيضا بين طياتها بذور الإصلاح والنجاة من المأزق العالمي ، لأن أي نظام في سيرورته لتدبير تناقضاته وتحدياته يصير بفعل ذلك أكثر غنى وقوة وتتنامى فرص مناعته ونجاعته بشكل كبير ، وهذا هو ما يحمله (أي النظام) على التحول والتجدد ، مستفيدا مما خلفته خبراته المتراكمة إبان الشدائد التي لا يعيد إنتاجها بقدر ما يجيد تفاديها في المستقبل ، ومن هنا فموت النظام هو بداية تشكله من جديد وفق معايير وأسس أكثر صلابة ومرونة ، وبالتالي فالأزمات التي يعرفها كوكب الأرض هي ما يتيح له إمكانية تحوله وتطوره شرط الإقرار بمسبباتها الحقيقة والعمل على تلافيها.
الحداثة اللاعقلانية :
ويقيم موران كذلك فرضية الحداثة المأزومة التي لم تنهل من الفكر والشعر والفلسفة القدر اللازم لبقائها في معقوليتها ، فالجانب العلمي التجريبي هو ما كان له الهيمنة في الحداثة وهو ما سخر كل الممكنات في سبيل خدمته وتبرير مشروعه ، فوظف المال والسلطة واللائكية والرأسمالية لشحذ محركاته ، إن مشروع الحداثة بذلك لم يكن إيجابيا ذا هدف نبيل بقدر ما تنكّر للأخلاق والضمير والعقل وأنتج نقيض ذلك كله ، فقد ساهم في التدمير والتحكم والتلاعب ، ومكّن من اختزال القدرة في والابتكار والجدّة في الطابع المادي الطبيعي ، ولم يتعداه لما من شأنه خلق السعادة العالمية ونشر القيم النبيلة الخالدة التي بها يتأنسن الإنسان ويتزكى. فالحداثة بما هي مخزون للعلم والثقافة والحضارة والتنمية ، هي كذلك طاقة جبارة تخلق الموت من قبيل الموت النووي والتراجع الانساني القيمي والارتداد الايكولوجي الحيوي ، كما أن الجانب التقني للحداثة ساهم إلى حد كبير في أتمتة الإنسان وجعله كائنا أوتوماتيكيا مبرمجا على التكرار الأداتي والمقنن، والعقلانية إذ أدت إلى ترشيد الاستغلال ، أدت على النقيض إلى كبت قدرات الإنسان وتهييج ميولاته نحو الاستهلاك وتنميط سلوكاته وإخضاعها لمنطق الآلة والمصنع. إن الانسان الذي استمد من الحداثة مشروعه الكوني ، انتصر للفردانية ورجّح بعده الأداتي المنفعي على بعده الغائي الأخلاقي ، فصار أكثر أداتية وذو بعد واحد على حد تعبير هاربرت ماركوز، هذا الانسان التي أنجته المجتمعات الرأسمالية وجعلته عبدا لرغباتها المتزايدة ، لا يكدح إلا من أجل المال والمتعة. إن العصر التكنولوجي التقني الحالي هو عصر اللاعقلانية بامتياز حيث يختزل الانسان في بعده الأداتي والاستهلاكي ، كما أن الحضارة الصناعية تجعل من الحاجات الانسانية حتميات قاهرة مفروضة فرضا ، في حين أنها حاجات وهمية مصطنعة بحبكة عالية من طرف وسائط الاتصال الجماهيري ، ذلك أن المجتمع حين يحرص على تلبية حاجيات أفراده بالتحيين على الدوام من آليات الترويج ، ليس هدفه من ذلك استمرار الفرد وتحقيق رغده ، ولكن هدفه بحسب ماركوز هو تكوين الانسان ذو البعد الواحد الذي يستعيض عن الحقيقة بالخيال ، وعن الواقع بالصورة ، وعن الروح بالجسد ، والذي يبيع قيمته مقابل وهم حريته ،والذي يعرف سعر كل شيء ولا يعرف قيمة أي شيء .ويدمن نفسه لاختيارات ومستجدات السوق ، فما أشبهه بالعبد الذي يتوهم أنه حر لمجرد أنها منحت له حرية اختيار سادته . إن الانسان في محاولاته لإيجاد ممكنات تحرره سقط عوض ذلك في سراديب استعباده ، فالمجتمع الصناعي قد سرق من العامل حرفته واستعاض عنها بالآلة فعبّده إياها ظنا منه أنه قد حرره ، فالآلة سيطرت عليه في محاولته للسيطرة عليها وحولت العمال من منتجين للبضاعة إلى خدم للآلات التي تنتج البضاعة ، ففاقم ذلك من بؤسهم وحرمانهم ليجدوا في الدين أفيونا ينسيهم مرارة البؤس ويمدهم بالراحة الازمة لمكابدة شظف العيش على حد تعبير ماركس. وانطلاقا من ذلك لم تعد علاقة الذات والموضوع مقتصرة فقط على معناها الظاهري المجرد ، أي علاقة الانسان بالعالم المادي ، بل تجاوزتها إلى تمظهرات أخرى أكثر تشابكا وتعقيدا ، فنجد في المجتمعات الراهنة علاقة الانسان كذات في مقابل الآخر كموضوع ، وتنوضح هذه المعادلة بعلاقة رب المصنع بالعامل ، والآلة بالعامل ، والواقع الاستهلاكي مع الفرد المستهلِك ، والسلطة الرمزية والمادية في مقابل المواطن العاجز الخاضع ، والعولمة كحتمية في مقابل تراجع السوق المحلية ، والثقافة العالمية الغربية في مقابل الثقافة المحلية ...إلخ. لقد أمسى إنسان الآن بمثابة جهاز ينتج ويعيد إنتاج ممكنات وفرضيات تدميره وتشييئه ، هذا الانسان الذي جعل منه المجتمع الصناعي اللاعقلاني التي دجّنته الآلة والتكنولوجيا مجرد تابع لا اختيار له. فبعدما كان سيّد نفسه ومركز الكون بلغة ديكارت ، جعلت منه أداة مُساسة تخدم سياسة القوى الاجتماعية المسيطرة في الوقت الراهن. إن الحداثة بحسب موران ، حين لم تمازج بين الفلسفة كتأمل في الوجود والبحث عن سعادة الانسان، وبين العلم والتقنية كأوجه لتموضعات تلك السعادة، قد خرجت عن معناها وصارت متناقضة مع منطلقاتها ، فتمخضت نتيجة ذلك عن ارتكاسات وانتكاسات جد مهمة ، زادت توغلا وانعكاسا على أوضاع الانسان ، وهذا ما يبرهن لنا دائما أنه كلما استحكم الانسان على القوى المادية تضاعف حجم انحطاطه في القوى المعنوية ، وهذا يُستقرأ من الواقع حولنا ويشهده التاريخ ورائنا ، فالإفراط في الاستهلاك لا يؤدي إلى الإنهاك فقط وإنما إلى الضجر الذي لن يخبو وقعه المرير في النفوس إلا بالمخدرات والعقاقير الطبية ، والإفراد في الفردانية لا يؤدي إلا لمزيد من العزلة والتعاسة والاكتئاب ، فتستحيل بذلك الحياة الحضرية كابوسا مزعجا يضفي طابع الاحتضار عوض طابع الحياة والسعادة. و لهذا لم يكن فوكوياما مخطئا عندما اعتقد أن العصر الراهن حين بلغ الذروة التقنية والعلم قد أعلن نهاية تاريخه ، أو كما قال :" ما نشهده ليس مجرد نهاية الحرب الباردة، أو مرور فترة معينة من تاريخ ما بعد الحرب، ولكنها نهاية التاريخ على هذا النحو ... هذه نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وبداية عولمة الديمقراطية الليبرالية كشكل النهائي للحكومة الإنسانية" (فوكوياما ، 1992) ، لكن فوكوياما ، على العكس مما طرحه موران ، يقصد بنهاية التاريخ ميلادا للعالم الجديد المنشود الذي يحسن فيه العلم من حياة الانسان ويخلص البشرية من الفقر والمرض ويمكّن الانسان من السيطرة على خصمه القديم (الطبيعة) بواسطة التكنوجيا الحديثة ، لكن ما تحقق هو خلاف ذلك كله ، حيث يبدو كأن الانسان أطلق على حد تعبير موران قوى لم يعد بمقدوره التحكم فيها ، فغيرت العالم بكل المقاييس من حيث يصعب تدارك سلبيات متغيراته أو إيقافها عن التوغل والتعمق لفرط سرعتها وانتشارها. إن العقل والإرادة والتربية هي مصادر الخير التي لا تنضب وهي ما به تنمو السعادة وتتحقق في أرجاء الكون وهي صانعات التقدم الحقيقية ، وإنها (أي تلك المصادر ) لا تثمر إلا وهي مجتمعة ومتكاملة فيما بينها ، فإن فرط من سلسلتها مصدر واحد لم تحقق نجاحا ، ذلك أن العلم بدون تربية قاصر عن بلوغ الخير المنشود ومثال ذلك ما حققه ابتكار السلاح النووي من كوارث عظيمة وحروب دامية وقدرة على " إنتاج الموت الجماعي" بلغة موران ، وما خلفته التقنية الطبية من تحسين النسل ومن تلاعب جيني مقابل ذلك ، وما أدت إليه القوة الاقتصادية من تدمير للمجال الحيوي بما من شأنه أن يهدد بقاء واستمرار البشرية على سطح كوكب الأرض. فالعلم بما هو منير للظلمات ، هو كذلك معمٍ للأبصار إن لم يراعى حد الوسط فيه وإن لم تُعمل قيم العقل والتربية في استعماله بما يكفل التقدم للأمام وليس للخلف ، وبما يحفظ جودة البقاء والاستمرار الأمثل للبشرية كذلك ، وينبغي لتحقيق ذلك أن نتجاوز " العقل الأداتي" ، ذاك العقل الذي يُسخر لأسوأ مشاريع القتل ، بل ينبغي أن نمضي لحد تجاوز الفكرة القائلة بالعقل الخالص بحسب موران ، "إذ ليس هناك من وجود لعقل خالص ، وليس هناك من وجود لعقلانية بدون شعور وبدون وجدان" (موران ، 2007) ، فالعقل يجب أن يمتزج مع الشعور لتدبّ فيه الروح ويصنع الحياة الحقيقية وينتج عقلانية منفتحة تحرّر الانسان عوض أن تشيئه ، والعقلانية بذلك لن تكتمل عناصرها إلا بالجمع والتكامل بين تمفصلاتها وأجزائها ، لأنها كلّ لا يتجزأ ، ومتى تمكن الانسان من تحقيق ذلك فقد ارتقى إلى معناها الحقيق ، هذا المعنى الذي لا يُختزل في الذكاء الأعمى الذي لا يرى إلا جزءا من سيرورة مستمرة ، فيعجز إذ أحاط بمكون صغير فقط ، أن يبني نظرة شمولية تتأسس عليها الحقيقة المطلقة فيقوم بموضعة ، وتحت سياق ما ، مخططاته تبعا لرؤيته القاصرة تلك والتي اقتضاها تسرّعه وانعدام تبصّره. فحين يشعر أنه انتصر على الطبيعة بسيطرته عليها ، يدرك أنه هو المهزوم الأكبر ، إذ يقلص من ممكنات وجوده على سطح الأرض بنفاذ مخزونها المحدود ؛ فاللاتنظيم والفوضى الذي سقط فيها عالم اليوم بكل مكوناته ما هو إلا نتيجة حتمية لضيق تصور الانسان الذي لم يتسع لعناصر الواقع المركب ، والقول بالحتمية التاريخية التي يفرضها تطور المجتمعات كتأويل لمخلفات هذا التطور وتناقضاته هو أمر ليس له ما يبرره إلا إذا أسقط الانسان عقله وألغى إرادته واختياره وسلم لذلك قسرا وهذا محال ، وبالتالي فليس هناك من مسؤولية للحتمية التاريخية فيما جنت باختيارها أيدي البشر وبما كسبته تبعا لمخططاتها وتصوراتها القاصرة، ولهذا لا يمكن إنكار مشاركة البشر الحصرية في صناعة تلك التناقضات ، بغض النظر عن السياقات التي دعت أو ساهمت في ذلك ، لأن العقل يستلزم التنبؤ بالمحتمل ووضع الاستراتيجيات الكفيلة بمجابهته ،ألم يقل نابليون بونابرت بأن "أفضل الاستراتيجيات هو توقع أسوأ النتائج والاستعداد لها". ثم إن مشروع الحداثة ، إذ يراهن على تنمية الانسان أو حياة الانسان ، هو متناقض مع جوهره وماهيته ، لأنه قد انتهى إلى عكس ذلك ، إذ يتلاعب بمصير هذا الأخير ويقوّض هدفه ، ومن هنا لزم ليس فقط إعادة النظر في منطلقاته وإنما تصحيح أولوياته ومبادئه بما لا يسمح أو يدعو إلى إعادة إنتاج تناقضاته في المستقبل وبما يحمل على المزيد من التقدم وليس على المزيد من التقهقروالانحطاط اللامحسوب. إن المعرفة لكي تكون شاملة موضوعية ، يجب أن ينظر إليها في إطار نسقي وفي سيرورة زمنية ممتدة ، ثم لا ينبغي إخضاع أو توسيع دائرة المنطق المتحكم في الآلة الصناعية على سائر العلاقات الانسانية لأنه حسب موران فإن "الحتمية الآلية الشكلانية تجهل بكل ما هو ذاتي ووجداني وحر وخلاق " (نفس المرجع السابق) ، وبالتالي فهي(الحتمية الآلية) لن تصلح لغير سياقها المختلف عن الوقائع الحية والاجتماعية المتفردة ، ذلك أن الفكر التقني البيروقراطي يعجز عن إدراك الشمولي والأساسي ويقصر عن فهم تعقد المشكلات الانسانية وتصورها ، ولأن "الانساني" هو أكثر تفردا وتعقيدا وشمولا لزمه فكرا شاملا أيضا يحتوي جميع أبعاده والذي من شأنه أن يحلّ مختلف مشكلاته وليس ذلك ممكن بفكر يتسم بالأحادية والانغلاق والتطرف ولا هو ممكن أيضا بذكاء مجزأ وممكنن بلغة موران ، لأن هذا الفكر يعقّد حين يحاول حلها ويُجهض ممكنات الانعثاق من تلك الأزمات لعجزه عن تصور إيجاد طرائق متعددة ومرنة تواكب مساراتها وتفرعاتها في نفس الآن ، فكما قال جايساكو إكيدا : "إن المقاربة الاختزالية التي تتمثل في الركون إلى سلسلة واحدة من العوامل لحلّ جميع المشكلات التي تطرحها الأزمة متعددة الأشكال التي نجتازها اليوم يمثل بحد ذاته مشكلة أكثر مما يمثل حلا" (نفس المرجع السابق). إن موران ينبذ النظرة العقلانية المجزأة التي لا تنظر إلى الواقع إلا من خلال ماديته وآليته وتقيّمه بما تقيَّم به منطق الموضوع وليس منطق الذات التي تعجّ بالأحاسيس والوجدان وتحفل بالألغاز، فالعقلانية الحقة هي التي تتأسس على التمازج بين العلم والشعور وبين الوعي والفكر وتحاول إيجاد نقط الاختلاف والتشارك بينهما للعمل على تقاربها وتلاقيها ، لأن ذلك ما به تتشكل هوية الانسان الحقيقية المتعددة الأبعاد والوظائف .ولأن الفصل بين تلك الابعاد هو باختصار تجزيء للانسان واختزال لتمفصلاته المعقدة. لقد أنتج العقل التنويري شروط تدميره بذاته حين لم ينتبه لدعوة سبينوزا التي تقول بأنه "ينبغي أن ننطلق من العقل لكي نؤسس مجتمعا آخر أكثر حرية وإنسانية " ، فقد صنع هذا العقل أصنام (الأدوات الصناعية) يعبدها أكثر من أي زمن سلف. وهو حين فعل ذلك أنتج على غفلة منه ممكنات دحره واندثاره ، فلا جدوائية فيه حين يتحدد بوصفه إرثا ثقافيا يُوزّع على غايات الاستهلاك وحين يصنع عبوديته في محاولته لصنع حريته ،تلك الحرية التي يتوهم الإنسان أنها حررته لجهله بالحتميات التي يخضع لها . لقد فقد العقل قيمته حين فقد سيطرته الحكيمة على فكره الذي انحط به في دركات الحماقة. إن علينا القطع مع التعريف الليبرالي للإنسان باعتباره إنسانا اقتصادويا ، في مقابل بناء إنسان آخر أكثر أخلاقية و أكثر إنسانية ، ثم إن التنمية إن خلت أبجدياتها من تنمية الإنسان كذات محققة للتنمية الحقة ، فهي تنمية فاشلة لم تحقق الغاية منها إذ تعوزها المعقولية وتتنافى مع مضامينها، وبالتالي وجب إعادة إنتاج مقوماتها من جديد بما يتلاقح وجوهرها الحقيق الذي يرنو إلى تطور الإنسان وليس تدهوره وانمحائه في مقابل تقديس المادة والآلة. إن بناء وعي الإنسان الجديد لن يتم بدون تنازلات ولن يتحقق بلا تكاليف ، لكنها تكاليف تشريفية تسمو بمقامه وتخرجه من براثن الانحطاط والعبثية التي يموج فيها ، فتنقده من السير إلى الهاوية ، فبطولة الإنسان الآن أصبحت متعلقة بمدى توجيه عواطفه وانفعالاته صوب ما يخلصه من الكارثة التي لاحت بوادرها في الأفق ، ورهين بمدى تغليب روحانياته على بيولوجياته ، هاته الأخيرة التي أردته إلى سنوات الجاهلية الأولى. إن الفرد في المجتمع الصناعي يصبح نقطة التقاء ردات الفعل المنتظرة منه عمليا على حد تعبير هوركهايمر(هوركهايمر، 1947)، ففي كنف العقلانية ، أصبح الإنسان لا يتحدد إلا بوصفه شيئا ، أو عنصرا إحصائيا ، تقوم معاييره على حفظ البقاء والاندماج الناجح بالإضافة إلى تموضعه مع وظيفته ومع النماذج (أو القوالب) التي أتيحت له ضمن سياقه المحدد والمحدود ، أما ما تبقى من أفكار من شأنها تحريك وعيه الراكد أو استنطاق ما تستَّر على عقله ، فتخضع لمعارضة الجماعة الحاضنة التي دأبت وتمرست على احتواء جنوح أفرادها. لقد صار مجموع قيم الإنسان يساوي صفرا على حد تعبير هوركهايمر بالمقارنة مع القوى الاقتصادية التي تتحكم في أناته وفكره ، تلك القوى الجبارة التي رفعت المجتمع عن القوى الطبيعة إلى أقصى الحدود الممكنة ودفعت به إلى بوابات التناقض الصارخ وإلى مرمى الصراع والتوثر العالمي ، ففي الزمن الراهن حيث تسود اللاعدالة وتتستر القوى المهيمنة خلف حواجز السلطة، تعاظم عجز الجماهير وزاد ابتعادهم عن ممكنات الاقتدار ، فبقدر ما تتراكم الخيرات الكمية التي توضع رهن تصرف الإنسان ، ترتفع على النقيض من ذلك معدلات الفقر والإقصاء. فلا تعدو جماهير عريضة أن تكون مجرد رقم يتحدد بقوة عمله عند أرباب المقاولات الذين يتمثلون أنفسهم بأنهم يغدقون على هؤلاء الجماهير من فضلهم وعطائهم ، فتظل هاته الأخيرة مرتجفة أمام إمكانية بترها من سياقها الاقتصادي القائم ومتأهبة على الدوام للرفع من مردوديتها لكي تتضائل احتمالات طردها ، فالقوى الاقتصادية المالكة لوسائل الإكراه وبالتالي المحتكرة لأسباب الارتقاء الاجتماعي تتمثل غيرها (أي المحرومين من وسائل الإنتاج كنتيجة حتمية لهذا النظام ، حيث كما هو معلوم ، في المجتمع الصناعي الرأسمالي لا محيد عن تكوّن طبقتين إلا بتكونهما ) كموضوعات عاجزة لا حول لها ولا قوة ، فتخضع تلك الأخيرة قسرا لسلطانها الذي يقيم نفسه كمصدر رزق للأفواه الجائعة. إن ربط الجماهير بهذا النظام العقلاني (اللاعقلاني) يجعلهم أسيري الحاجة الملحّة التي لا يقدرون على تلبية ندائها إلا بالانخراط المكرَه في ذلك النظام ، فتصير الموضوعات هنا داخل قفص محكم الإغلاق (مغلق بآليات السلطة) ولا تستطيع تلك المواضيع (كذوات عاجزة) عن التحرك خارجه إذ ليس لها من وسائل كافية ما تؤمن به حاجاتها . ومن هنا تتشكل فرضية العبودية المفرطة التي بعثت من جديد بعد قرون عديدة من الأفول والاندثار في ظل النظام العالمي الراهن. ولعل مسرحية "في انتظار غودو" لسامويل بيكيت (بيكيت ، 1948) أكبر تجسيد لهاته العبودية القائمة على الاستغلال الهمجي من طرف مالكي وسائل الإنتاج لمُنعدميها .حيث يجسد "بوزو" دور السيد الذي يجرّ "لاكي" ،الذي يمثل دور العبد، بسلسلة حديدية مربوطة في عنقه يوجهه من خلالها حيث شاء ، كما يظهر السيد "بوزو" ماسكا بسوط بين يديه يضرب به عبده "لاكي" إن تردد في الاستجابة لمطالبه المتكررة . إن العلاقة بين هاتين النموذجين هي ما يتطابق تماما مع وضع الإنسان في القرن الواحد والعشرين بل صارت أكثر عمقا وتجدّرا بفضل التمكين العَولمي والأداتي. كما تشخص المسرحية التي تنتمي لفلسفة العبث من خلال شخصياتها الرئيسية "فلادمير " و"إستراجون" ، الهمّ الوجودي للإنسان الذي أردته الحياة الأداتية كئيبا تتشابه ممارساته وتتكرر ردود أفعاله فاقدة بذلك سحرها ومعلنة عن احتضار لهفة الإنسان لترقب القادم والشوق إليه ، حيث تستمر الشخصيات الرئيسية في ترديد نفس الكلمات والقيام بنفس الأفعال في رتابة روتينية مملة ،طوال فترة عرض المسرحية ، تحاكي ممارسات الإنسان في عصر المكننة حيث أتْمتته الآلة وسوَّغه مبدأ السوق وأدلجة وعيه وسائل الاتصال الجماهيري فجعلته مكبلا سجين مآلات الحداثة (اللاعقلانية) والتنوير الخرافي ، ويترقب "فلادمير" وإستراجون" طوال المسرحية مجيء غودو الذي يأملون منه تخليصهم من العذاب النفسي الذي طغى على أحاسيسهم جراء فقدها لهفة اشتياق القادم ،وأي قادم جديد فالكل سيان قد تشابه الماضي مع الحاضر والتقى كلاهما في نقطة اللاتحول التي فرضتها القوى الاقتصادية الضاغطة ،حين امتلكت مفاتيح صناعة القرار فصاغت بفضلها أسس تسلطها وسيطرتها على عناصر المجتمع العالمي. كما تجسد المسرحية بكل براعة ودقة أصداء الحضارة المادية وانعكاساتها على الإنسان الذي وجد نفسه وقد ألغى إنسانيته وحكمته ، صريع تساؤلات لامنطقية ، وضعت مصيره الوجودي وغائيته على المحك، فسلطة الحضارة وطابعها الرتيب ولّدا شعورا دفينا عند الإنسان جعله يفترض أن الكون حوله غارق في اللامعنى ولا سبيل لإضفاء معنى عليه بحال إلا بالخروج منه عن طريق الانتحار، بل وحتى هذا الأخير يبدو وكأن الإنسان عاجز على الإقدام عليه. فالإنسان بذلك غدا محاصرا لا يقدر على الانتصار إلا بالرضوخ وكلما نشد الخلاص للتوترات التي تعتمل في داخله ازدادت اعتمالا وتفاعلا إذ أيقضها وأجج مفاعيلها . فبيكيت حاول أن يصور عجز الإنسان عن التموضع في عالم من صنع يده ، وقصوره عن تغييره لأنه خرج من سيطرته إلى سيطرة وسائل الإنتاج أو كما يقول موران :"يبدو وكأن الإنسان قد أطلق قوى لم يعد بمقدوره التحكم فيها". إن الحداثة كتحيين مستمر لآليات التصرف البشري في الطبيعة والكون ، وكمنطلق لتوسيع إدراكه وتعقيد نظرته إلى الحياة ، قد انتهت إلى غير ذلك إذا ما افتُحص النظر في مُترتباتها على تمثل الإنسان إلى الأشياء الذي انفلتت من قبضته نواصيها لدرجة تحولت فيها إلى غايات يُشغل كل الفكر في تعبيد طرق استغلالها ، فكان من فرط استغلالها أن ارتفعت أسهمها لدرجة فاقت أسهم مالكيها ، فتحررت من عقالهم وأمست هي من تطبع وعي الإنسان وتوجه مساراته . ذلك أن التكاثف المادي اللامحدود بلغ مستوى فاق بكثير مستوى المعقول لدرجة سلبت من الإنسان بعده الروحي والأخلاقي الذي عليه يتأسس بناءه ، وحين بلغ هذا المنتهى صعب عليه التعايش بفعل التناقض الصارخ الذي يشكله الوجود المادي الطاغي على بناءه الحقيقي المضمر في أحاسيسه ومشاعره ، ومما عمّق إحساسه بالخواء واللامعنى تعارض مقومات ذاته الباطنية ،التي وإن تقلصت مفاعيلها بفضل التكاثف المادي فلن تخبو إلى الأبد ولابد أن تبرز مجددا للسطح في لحضات تأمل مجردة تحس الذات أمامها بالتفريط ، ويشعر العقل حيالها بإخفاقه عن إنتاج ممكنات سعادته الحقيقية ، فكما يقول إميل زولا :"لو أخرست الحقيقة ودفنتها تحت الأرض فستنمو "، والحقيقة كالشمس يمكنك أن تحجبها بعض الوقت ، لكنها لن تختفي إلى الأبد ، والحقيقة هنا هي ما انطوى عليه سر وجود الإنسان وما به تتشاكل جميع أجزاءه وتتناسق كل أبعاده ،وهي التي حتما لا تتأسس على الوجود المادي المحض ولا أيضا على الوجود الروحي المحض ، لأن الإنسان خليط هذا وذاك ، فإن طغى الأول على الثاني استشعر بالخواء والضجر ، وإن طغى الثاني على الأول باغته الاكتئاب والضجر أيضا ، ولذلك فالإنسان "لا يقترب من الحقيقة إلا بقدر ابتعاده عن الدنيا " كما قال سقراط ، والحقيقة التي يقصد سقراط لا تتحقق إلا عند انفصال الوعي (كتابث يقيس كل المتغيرات ) عن متغيرات الواقع ، فلا تعود صوره تعتمل في داخله ، حينها يرى الحقيقة متجردة ، والحقيقة في الأديان هي ما يبلغه الإنسان حين تتزكى نفسه بارتقاءها إلى مستوى التماهي مع سرّها الأعظم (الروح) ، وكلاهما لا ينفي الآخر بل يعاضده لأن كمال النفس لا يتأتى إلا بكمال الوعي.
#محمد_البورقادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السلطة القمعية عند ميشيل فوكو وميشيل كروزيه
-
السلوك الجمعي وشروط إحداث الثورة..
-
السلطة والعنف : أي علاقة !
-
السلطة القمعية وشروط بناء الفرد الخاضِع والمُنمَّط..
-
العولمة كسيرورة إنتاج لسياسات الطرد والإقصاء الاجتماعي ..
-
واقع الفرد في ظل هيمنة العولمة والسلطة..
-
جون جاك روسو وشروط تشكيل العقد الاجتماعي..
-
نصائح للشباب: الإكثار من فعل الخير..
-
اختلالات النسق الجامعي..
-
إنسان اليوم في ظل الحضارة المادية..
-
ماذا يُطْبَخُ للمجتمع المغربي تحت غطاء المقاربة التشاركية وا
...
-
نظرة موجزة حول شروط إنتاج الإرهاب..
-
حياتي كلها فداك يا أمّي ..
-
نصائح للشباب : أقبل قبل المغادرة وتيقّظ قبل الفوات..!
-
نصائح للشباب :الدخر ليوم الميعاد
-
التعلق بغير الله خُذلان ..
-
شقاوة الحب..
-
داعش : شروط الإنتاج..
-
التموقع الإقتصادي العربي في عالم العولمة..
-
الفساد في مواجهة التنمية..
المزيد.....
-
المدافن الجماعية في سوريا ودور -حفار القبور-.. آخر التطورات
...
-
أكبر خطر يهدد سوريا بعد سقوط نظام الأسد ووصول الفصائل للحكم.
...
-
كوريا الجنوبية.. الرئيس يون يرفض حضور التحقيق في قضية -الأحك
...
-
الدفاع المدني بغزة: مقتل شخص وإصابة 5 بقصف إسرائيلي على منطق
...
-
فلسطينيون يقاضون بلينكن والخارجية الأمريكية لدعمهم الجيش الإ
...
-
نصائح طبية لعلاج فطريات الأظافر بطرق منزلية بسيطة
-
عاش قبل عصر الديناصورات.. العثور على حفرية لأقدم كائن ثديي ع
...
-
كيف تميز بين الأسباب المختلفة لالتهاب الحلق؟
-
آبل تطور حواسب وهواتف قابلة للطي
-
العلماء الروس يطورون نظاما لمراقبة النفايات الفضائية الدقيقة
...
المزيد.....
-
Express To Impress عبر لتؤثر
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
المزيد.....
|