أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الأول: 3















المزيد.....

الفصل الأول: 3


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 5208 - 2016 / 6 / 29 - 04:55
المحور: الادب والفن
    


في هذه الآونة من الخريف، تُسبّحُ المدينة الحمراءُ باسم الحرّ والرطوبة، باسم الله والشيطان إذا شئتَ. في دروبها ودورها وبورديلاتها، تنتشرُ روائحُ روث الخيل ودخان المركبات والطاجين والبخور والمني. العطور الباريسية، لا يُمكنها السيطرة على تلك الروائح.. ولا أيضاً على عبق دكاكين العشّابين، في سوق الرحبة الكبيرة، وكلّ منها ذو واجهة من الأهرامات المبنية من البَهار، تُبهر السيّاحَ بقدر ما يُزعجهم إلحاحُ المتسولين. هأنذا أرى امرأة متسوّلة، ثمة على جانب الدرب المؤدي من منارة الكتبية إلى باب دُكالة. لقد اختارت أن تمكثَ تحت أفرع شجرة تين نضرة، متدلية من وراء سور أحد الرياضات.. امرأة مدمنة على الرائحة الحرّيفة لأوراق التين، التي ربما تذكّرها ببلدتها الأولى، التائهة في مجاهل جبال الأطلس ـ كما تجعلني حجرة السجن هذه، أستعيدُ ذكرى دمشق.. أجل، إنني أرى الآن المتسوّلة بعين فكري، مثلما كنتُ أراها يومياً بعينين عمياوين إلا من رؤية درب حياتي، المؤدي من منارة الفضيلة إلى باب الرذيلة.
العاهرة العظمى، هيَ ذي. الحق أقول لكم، أنها لا تخلو من الانسجام أيضاً. يُمكن ملاحظة ذلك في أبسط مجردات المدينة، وكائناتها، على السواء. كتلك القطة، الناصعة البياض، التي كنتُ أصدفها لدى مروري عند ساحة الحرية، وهيَ قابعةً تحت الأغصان المزهرة، البيضاء، لعريشة مجنونة تهمي على جدار قبو الديسكو. ولو صحَّ خبرُك المثير، يا مسيو سيمو! *، لكان لدينا مثالٌ آخر لا يقلّ روعةً وانسانيٌّ هذه المرة: ففي سبيل غايةٍ تاريخية ـ كذا ـ توغّل الرجل الكَاوري* في أكثر دروب القَصَبة نأياً. كان يبحثُ عن أخلافِ سلالةٍ أصيلة من السبايا الصقلّيات، الناصعات البشرة ( كتلك القطة البيضاء آنفة الذكر )، اللواتي كنّ برفقة حراسهن في الطريقَ إلى قصر يوسف بن تاشفين. فَضَلَّ حراسُهن الطريقَ، فوقعنَ بأيدي الدهماء الملثمين بعمامات زرق. ولكن الرجل الغريب، لم يلبث بدَوره أن وقعَ ضحيةً لبعض الشفّارة * في احدى متاهات الدرب، فسلبوه حتى ملابسه. ثم أطلقوا سبيله مع مؤخرةٍ يسيل منها إلى باطن قدمه الحافية، المنيُ، مختلطاً مع روث الخيل.
أيمكنُ كتابة تأريخ آخر للمدينة؟ نعم، ولكن شريطة أن يكون مُدَوّناً من لَدُن امرأة، أكثر شبهاً بالرجال منها إلى النساء؛ خُلُقاً، على الأقل.. امرأة، ذاتَ تجربة بالعالم السفليّ، تنتظرُ حبيسةً حُكماً مُشدداً، أبدياً..امرأة، كان دأبها محاولة تحدّي هيمنة الرجال التاريخية وخصوصاً على عالم الأدب.. امرأة، لم تنجح سوى بتقليد كتابات شقيق روحها، الذي كان يُمزقها ببساطة لكي يدوّن غيرها.. امرأة، كانت تعوّض فشلها الروحيّ بانتصاراتٍ جسدية مع الرجال والنساء سواءً بسواء.. امرأة، فقدت كلّ اهتماماتها السابقة، بعدما حلّتْ في بيئةٍ تحتقرُ الأدبَ وكلّ شيءٍ يُلهي عن جَمع الفلوس.. امرأة، لم تنقصها الشجاعة للتعاطف مع أدنى أنواع العواهر، دونما أن تفقدَ مع ذلك احترامَ أفراد أعرق السلالات، المحتدّة الشرف؛ رسمياً، على الأقل!

***
الحجرة المستطيلة الشكل، الجد نظيفة ومنظمة والكائنة في الدور الثاني للفيلا، لم تكن حارّة بحال. بل هوَ جسدُ صاحبتها اللامع اللدن، والمُتطلّب، الما يفتأ مشتعلاً بتلك النظرة الرجولية. عينا " خَدّوج "، الرماديتان والمائلتان قليلاً كعينيّ والدها الراحل، كانا قد التقيا في تلك الليلة الخريفية بعينيّ ذلك الشاب، المستلقي على رصيف العَرَصَة المجاورة، المُحاذية لمنزل الأسرة. أحسَّتْ هيَ، على الأثر، بلسعة كهرباء بين ساقيها ـ كما رعشة الذروة، التي تعتريها عادةً على سرير الأسرار. كان يجب أن تمضي ساعة أخرى، قبل أن تتوسل " خدوج " لوالدتها على مائدة العشاء وبنبرة إلحاح: " لنعُد إلى ذلك المكان، كي نستفهم عن حال ذينك الشقيقين المسكينين ".
كانت " خدوج " ما تزال بقطعتيّ ملابسها الداخليتين، مستلقيةً على السرير الضيّق، حين دخلت عليها زوجة الأخ. وكعادة هذه الأخيرة، خصوصاً في حمّام السوق، راحت تلمسُ البدنَ الورديّ شبه العاري. انقلبت " خدوج " على بطنها متضاحكةً، على أثر شعورها بالدغدغة. حينئذٍ كان من الواجب على عجزها الفاره، المتكوّر في سروالٍ نحيل بلون الزهر، أن يتبدى بأجلّ بهائه وإثارته. وقد يكون ردفاها، كما تساءلت هي عندئذٍ، من جذبا نظر ذلك الشاب الغريب. فقالت لها " غُزْلان " بنبرة التملق، المتجذّرة في تربتها القروية: " إنك لتغمطين حقَّ هاتين العينين، الشبيهتين بعينيّ الغزال، وتقاسيم وجهك الأخرى الحسنة ". بغض الطَرْف عن طَرْف الغزال، يُمكن الجزم بأنّ " خدوج " كانت جميلة فعلاً. ما كان ليُعيب وجهها الأذنان الكبيرتان ( ورثتهما عن أمها )، ما فتأت تخفيهما تحت شعرها الكستنائيّ اللون. أما نتوء الخدين ـ كما كان خطيبها العراقيّ يتفذلك وليسَ بدون تفكّه ـ فإنه علامة يشترك بها البربرُ مع أبناء العرق الأصفر. ولو نحينا جانباً أيّ فذلكة إنتربولوجية، يكون من الضروري التأمّل في الأسطورة القديمة، المتداولة خصوصاً بين أمازيغ ورزازات؛ وهيَ أنّ أصول أسلافهم يهودية.
" يا لوسامة ذلك الشابّ، ويا لعينيه الآسرتين "، قالت الفتاة حالمةً كأنما تخاطبُ نفسها. علّقت زوجة الأخ، وفي عينيها انعكاسٌ لأوار ذلك الجسد المجاور، المشتعل الجذوة: " غُزال ياختي..! " *. ثم أضافت مع ابتسامة خبث " ورفيقته أيضاً في غاية الجمال، بشعرها الناعم الأشقر، المسترسل على كتفيها ". عقّبت الأخرى بشيءٍ من الغيرة: " إنها شقيقته، ولا شك ". لقد أصرّت " خدّوج " على صفة القرابة هذه، مُتحججةً بالشبه الكبير بين الشاب والفتاة. على صغر سنّها، كانت زوجة الأخ خيرَ من يفهم فتاتنا، المتجاوزة عشريناً من أعوام العُمر. كانت تتفهّمُ نزواتها، أيضاً. كلاهما، كان كنز أسرار الآخر. إلا أنّ المرأة الصغيرة، " غُزْلان "، المتميّزة بنصاعة البشرة والملامح الجميلة عموماً، كانت تشعر على الدوام بأنها أقلّ حظاً من شريكتها. كانت تحسد ابنة حميها، أكثر من كلّ شيء، على تمتعها بالحرية.. الحرية المبذولة لها حتى ذلك الوقت، على الأقل. الإشارة الأخيرة، تُحيل إلى قرب عقد قران " خدوج " على ذلك الرجل العراقيّ، المقيم في فرنسا.

***
" خدوج "، كانت قد أعتادت على التبرّم أمامَ " سُمَية "، شقيقتها الكبيرة والوحيدة، من سوء اختيارها للرجل المدعو " رفيق ". كانت تحتجّ بمماطلته في شأن البدء بإجراءات الزواج، بعد مضيّ عدة أشهر على إعلان خطوبتهما. زوجُ الشقيقة، " إريك "، كان قد أعتاد بدَوره على تكرار القول: " إنه شخصٌ غير صريح، ولكنه ذكيّ ويُدبّر أموره بشكل ممتاز ". هذا الفرنسيّ المقيمُ كذلك في باريس، كان مهندساً معمارياً في الشركة ذاتها، التي سبقَ لحَميه المغربيّ الراحل أن عمل بها. الصهر، هوَ نفسه من عرّفَ الأسرة على " رفيق "، فبالغَ في حينه من شأن مطعمٍ يملكه هذا الأخير في عاصمة النور. " اريك "، وكان عندئذٍ قد اقتربَ من سنّ التقاعد، كان يطمحُ الآنَ بمشاركة خطيب " خدّوج " في شراء رياض ( نزل سياحي )، يقع في منطقة معروفة بمراكش القديمة. وبالتالي، كان يودّ الاستقرارَ نهائياً في هذه المدينة المبهجة، المُشمسة على مدار العام.. هذه المدينة، المحظوظة فوق ذلك بالكثير من مواطنيه المستثمرين، ممن لا يعرف موظفو الضرائب المحليون طريقاً إليهم.
" خدّوج "، مثلما دأبتْ على القول، كانت تتوق إلى الجانب الرومانسيّ للعشق. وكانت تعتقد أيضاً ( لحين تعرفها على من سيُصبح خطيبها الرسميّ )، أن ذلك الجانب متوفّرٌ فقط في الرجل الشرقيّ. الاندفاع الفجّ نحو المعاشرة الجنسية ـ بحَسَب رأيها دوماً ـ هوَ حالة مأثورة عند الغربيين. " إريك "، بطبيعة الحال، لم يكن هوَ المقصود بوجهة النظر الأخيرة؛ بما أنه يكبر شقيقتها بحوالي ثلاثين عاماً. فولدا الرجل، الشابان، كانا تقريباً من جيل " سمية ". كانا توأمين؛ ذكرى من زوجته الأولى، الفرنسية. وقد حقَّ لفتاتنا الملولة، " خدّوج "، أن تشعُرَ بالندامة لأنها صرّحت مرةً أمام خطيبها بوجهة نظرها السلبية في ذينك الشابين. فقال لها عندئذٍ ببرود، وبعد وهلة تفكير: " يُخيّل إليّ أنك كنتِ على علاقة ما، مع أحدهما؛ أعني مع ذلك العازب! ". إذاك سددت إلى عينيه القاتمتين، الماكرتين، نظرةً مباشرة عبْرَ ظلّ الحجاب المُسدل حتى حاجبيها.. لقد كانت نظرة صارمة، فيها ما فيها من تكلّف وتمثيل ـ كالحجاب الاسلاميّ، الذي أجبرها هوَ على ارتدائه وفق شرطه الجديد لإتمام إجراءت الزواج.. لقد كان بودّها حقاً لو أنها من الممكن أن تصرّح لهذا الدّعي، بأنّ الشابين قد ناكاها كلاهما، ومعاً.
مفردات عربية، ملحونة بلهجة أليفة، كانت قد انسلّت إذاً إلى سمع " خدّوج " من تلك الناحية، التي تواجد فيها كلا الشقيقين الغريبين. وإذا بها كأنما قُلِبَ كيانُها، خصوصاً على أثر تلك النظرة المليّة من جانب الشاب. ولعل الأمر كان قد اختلفَ تماماً تلك الليلة، لو أنه تعلّقَ بشاب كَاوري: " خَدّوج "، لم تكن من ذلك النوع الشائع بين الشباب، المَهووس بأيّ شيء غربيّ، والذي ازدهرَ في الآونة الأخيرة. هذا على الرغم من حقيقة، أنها كانت تشارك للعديد من مواطنيها في حلم الهجرة إلى أوروبا. لقد كانت هيَ تنتمي إلى جيل جديد من المغاربة ( وخصوصاً الفتيات )، ممن أصبح يفهم لهجة الشقيقين تلك، وذلك بسبب انتشار الأغاني اللبنانية. بهذه الحالة، يُمكن القول أن الاختلاف الفادح بين اللهجتين، المغربية والشامية، كان في صالح هذه الأخيرة: " شيرين "، من ناحيتها، ستُخبر الأسرة فيما بعد، أنها وشقيقها تعمّدا التخاطبَ بالعربية، لا الكردية كمألوف عادتهما، علّ ذلك يجذب انتباه المارّة؛ هما من كانا قد أدنفهما الجوعُ والعطش والضياع.
....................................

* سيمو، اختصار لاسم سي مُحمد
* كَاوري، أي الأوروبي النصراني
* شَفّارة، أي لصوص
* إنه جميلٌ يا أختاه!





#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الأول: 2
- الرواية: الفصل الأول
- سيرَة أُخرى 35
- تخلَّ عن الأمل: 7
- تخلَّ عن الأمل: 6
- تخلَّ عن الأمل: 5
- تخلَّ عن الأمل: 4
- تخلَّ عن الأمل: 3
- تخلَّ عن الأمل: 2
- تخلَّ عن الأمل: 1
- الرواية: استهلال
- سيرَة أُخرى 34
- احتضار الرواية
- فاتن حمامة والزمن الجميل
- أقوال غير مأثورة 6
- سيرَة أُخرى 33
- الهلفوت والأهبل
- سيرَة أُخرى 32
- بسمة مسمومة
- الغموض والوضوح


المزيد.....




- يشبهونني -بويل سميث-.. ما حقيقة دخول نجم الزمالك المصري عالم ...
- المسألة الشرقية والغارة على العالم الإسلامي
- التبرع بالأعضاء ثقافة توثق العطاء في لفتة إنسانية
- التبرع بالأعضاء ثقافة توثق العطاء في لفتة انسانية
- دار الكتب والوثائق تستذكر المُلهمة (سماء الأمير) في معرضٍ لل ...
- قسم الإعلام التطبيقي بكليات التقنية العليا الإماراتية والمدر ...
- نص من ديوان (ياعادل) تحت الطبع للشاعر( عادل جلال) مصر.
- إخترنا لك :نص (شكرا لطوق الياسمين )حسن فوزى.مصر.
- رحيل الممثلة البريطانية ماغي سميث عن 89 عاماً
- طارق فهمي: كلمة نتنياهو أمام الأمم المتحدة مليئة بالروايات ا ...


المزيد.....

- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري
- هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ / آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
- توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ / وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
- مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي ... / د. ياسر جابر الجمال
- الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال ... / إيـــمـــان جــبــــــارى
- ظروف استثنائية / عبد الباقي يوسف
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل ... / رانيا سحنون - بسمة زريق
- البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان ... / زوليخة بساعد - هاجر عبدي
- التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى / نسرين بوشناقة - آمنة خناش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الأول: 3