|
تخلَّ عن الأمل: 7
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5200 - 2016 / 6 / 21 - 08:42
المحور:
الادب والفن
" فرهاد "، عقد إذاً صداقة مع فتاة سويدية في فترة عصيبة كانت تمرّ فيها. ولعلها الفترة نفسها، التي كانت آخر عهدي بهذه الفتاة الطيبة؛ أنا من سبقَ له أن قطعَ كل علاقةٍ مع صديقها القديم. آنذاك، كانت " تينا " مقيمة بحيّ جديد في أوبسالا يغلب على ساكنيه الأصول الأجنبية. بعيد موت " فرهاد "، ما لبثت أن عادت هيَ إلى الإقامة في مسقط رأسها بجنوب البلاد. لما التقيتها بعد عقدين من الأعوام، كانت قد استقرت منذ زمن بالقرب من مركز مدينة أوبسالا غير بعيدٍ عن منزل ولديّ، اللذين أصبحا في سنّ البلوغ. لم يكن من السهل، في واقع الحال، معرفة ذلك العنوان. فقبل ذلك بأكثر من عامين، كنتُ قد أنتقلتُ إلى مدينة أخرى، تقع إلى الشمال بمسافة ساعة بالقطار.
* كنتُ متلهفاً على رؤية " تينا "، وإذا صديقها القديم يتبرع لي بذلك في رحابة صدر. نعم، عليّ كان أن ألتقي مجدداً بالكذّاب. في واقع الحال، فإنني سبقَ وصادفتُ الكذّاب أكثر من مرة خلال الأعوام المنصرمة. ولكنها المرة الأولى، ولا شك، التي سنتبادل فيها الحديث. ثمة في ستوكهولم، كان الرجلُ يعيش وحيداً في شقةٍ لا بدّ أنّ جدرانها تذخرُ بخثارة عبقريته. إلا أنني التقيتُ به في دار لطباعة الكتب، يملكها صديقٌ مشترك وتقع في قبو أحد الأبنية بضاحية ستوكهولمية نائية. هذا الصديق، هوَ من هاتفَ الكذّاب كي يحضر لرؤيتي. فما أسرعَ أن حضرتْ سيارة حديثة، تلتمعُ تحت أشعة الشمس كشَعر صاحبها، المتوغل فيه الشيب. على الأثر، تكرّم الرجلُ واصطحبني بسيارته في جولةٍ جميلة عبر شوارع العاصمة، المزدهرة كالعادة أيام الصيف المشرقة. بعد ذلك، علينا كان أن نتّجه إلى مدينة الذكرى؛ أوبسالا. بطبيعة الحال، فإنّ " تينا " كان لديها علمٌ بزيارتنا. وقد جازَ لصديقها القديم أن يكلّمها ثانيةً أثناء الطريق، لكي يقترحَ جلبَ وجبة كباب مشوي. ثمة في أوبسالا، أشترينا حاجتنا من مطعم لأكراد عراقيين يقع على طرف المدينة. وقد دفعتُ ثمنَ الكباب ولوازمه، بما أنّ صديقنا قد نسيَ كرتَ البنك في البيت: وهذه حالة شبه عامة، على فكرة، حتى أنها أضحَتْ من فلكلور كرد أوروبا. " أظن أنّ تينا لا تزال تعيش مع ذلك الشخص، المدعو فرهاد؟ " سألتُ الكذّابَ فجأة، في محاولة لمعرفة بعض المعلومات قبيل لقائي بصديقته القديمة. ضيّق عينيه، وقد بدا أنه لم يفقه ما سألته عنه. عندئذٍ، ذكرتُ له أنني أتحدث عما أعرفه من أمر " تينا " بعدما افترقا. فأجابَ مع قهقهته العريقة: " هوه، منذ ذلك الزمن! ". ثمّ أضافَ في نبرة أخرى، تتفاعلُ ربما مع ذكريات غير طيبة: " نعم، عرفتُ صديقها ذاك. كان مجنوناً! ". ثمّ تطرّقَ إلى واقعة انتحار " فرهاد "، وكأنما ليؤكّد رأيه بجنون الرجل. غير أنّ الكذّاب، ما عتمَ أن باغتني بمعلومة فريدة: " كان مصاباً بالإيدز منذ فترة وجوده بروسيا، فلما تضاعفَ عليه المرض هنا في السويد، فإنه تخلّصَ من حياته! ". " على ذلك، فإنّ تينا كانت تُعاشر شخصاً مبتلى بمرضٍ عضال؟ " " ولكنها لم تبقَ معه إلا لفترة قصيرة " " مهما يكن الأمر، فذلك المرض مُعدٍ " " فأنتَ لا تصدّقني، إذاً؟ "، ردَّ عليّ بإنزعاج. ثمة نوع من الكذّابين، يتّسمُ بالعدوانية: إنه مستعدٌ حتى لضربك، ما لو أظهرتَ أنك لا تصدّق كلامه. من حُسن الحظ، أنّ صديقَ الزمن الجميل كان شخصاً قليل الاهتمام بمشاعره، وفوق ذلك، على شيءٍ من الظرف. لقد كان بودي أن أجيبه، عندئذٍ: " لو أنك راكمتَ كذباتك خلال الأعوام، لصارت أكثر عدداً من دولارات بيل غيتس ". نعم، إنه هوَ من أعلمني قبل قليل بأنه يخدم حالياً في شركة إريكسون، كمهندس معلومات. ذلك الصديق صاحب المطبعة، الذي فارقناه منذ بعض الوقت، كان قد أخبرني بأنّ الكذّاب يعمل كمترجم شفهي!
* " تينا "، الحسناء؛ هيَ ذي بعدَ كل تلك الأعوام العديدة. رياحُ السنين، كانت قد ظلمت سحنتها، وخصوصاً أنفها، الذي كبرَ وتجعّدَ قليلاً. هذا، مع كونها ما تفتأ محتفظة بقوامٍ رشيقٍ يُمكن أن يُقارعَ سنَّ اليأس. خلال المأدبة البسيطة، كنتُ أسترقٌ النظرَ إليهما كلاهما. ولا بدّ أن تفكيرَ المرء، تفكيرَه السديد، يعجز عن إدراك كنه تلك العلاقة، التي ربطت بين مخلوقَيْن على نقيضٍ تام في العقلية والذوق والمسلك. المعروف علمياً، أنّ لكلّ قاعدةٍ شواذ. إلا في بلاد السويد السعيدة، وأضرابها، فإنّ الشواذ هوَ القاعدة، غالباً، حينما يتعلق الأمرُ بحياة مشتركة لمواطنة وأجنبي. الكذّاب، دأبت عيناه السوداوان على التعلّق بفم صديقته القديمة حينما كانت تأكل. كان قد التهمَ للتو حصّته من الكباب، فراحَ ينقّل نظراته الملولة بين صحني وصحنها. إذاك، سألني مُتفكّهاً وقد فقدَ صبرَه على الأرجح: " هل شبعتَ؟ ". ولكنني تجاهلته، وواصلتُ الأكل. هنا، خاطبَ صديقته القديمة باللغة التركية، التي سبقَ وعلّمها بعضَ مفرداتها. وسواء أكانت " تينا " المسكينة ما زالت محتفظة في ذاكرتها بتلك المفردات أو نستها، فإنها تنازلت له عن سيخ الكباب الآخر، الذي لم يكن قد مُسَّ بعدُ. بعدما سلبَ الضبعُ ما تيسّر من حصّة مضيفتنا، بدا أن جوعه المزمن قد استفحل. عند ذلك، مدّ يده إلى رقائق الخبز والزبدة وأتى عليها جميعاً. بعدئذٍ، أخذ يقرع بيده على سطح طاولة الطعام وهوَ يدندنُ بصوتٍ قبيحٍ أغنيةً كردية؛ مناحة، على حال الوطن الأم تحتَ حُكم " تورك فاشيست! ".
* علاقة " فرهاد " مع هذه المرأة الرهيفة المشاعر، كانت مختلفة ولا غرو. تعرّفَ على " تينا " ذاتَ مساءٍ ربيعيّ في صالة ديسكو، تقعُ على طرف أكبر حديقة بأوبسالا. كان آنذاك مع مجموعة من الطلبة والمعلّمين، يحتفلون بانتهاء السنة الأولى من دراسة اللغة. إلا أنه تكلّم مع البنت الحسناء بالانكليزية، كونه يُجيدها أفضل من السويدية. كانت حينئذٍ تحاول التهرّبَ من شابّ أفريقيّ، بقامة مارد، سبقَ أن راقصته أكثر من مرة. من موقفه أمام عجلة الروليت، كان " فرهاد "بدَوره يلاحقُ الفتاةَ بنظراته. هواء الربيع، المندفع من نوافذ وأبواب الصالة الأرضية، كان يرفعُ ثوبَها الخفيف والقصير ذي اللون الأصفر البرّاق. مغناطيسُ عينيه، حقّ له أن يجذبَ الفتاة إلى طاولة الروليت، المشمولة بضوءٍ قويّ. كانت تقفُ إلى جانبه تتفرج على اللعب، حينما شعرت بعد وهلة بيده الناعمة تمسّ كتفها العاري. تلك، كانت دعوة صامتة إلى صخب الرقص والموسيقى. ترددت قليلاً. لعلها أرادت أولاً معرفة أيّ رقعة محظوظة ستستقرّ فيها كرة الروليت، وكما لو كانت قد راهنت في ذهنها على أحد الأرقام: بيْدَ أنه الحظ، في آخر المطاف، من جعل يد " فرهاد " تستقرّ على كتف " تينا " كي يقودهما كلاهما إلى عالمٍ غير واقعيّ. إلا أنّ هذا، حديثٌ آخر!
* مجازاً، ولا مِراء، كان قولي ذاتَ مرة بأنني أعرفُ " فرهاد " كمعرفتي لنفسي. ربما سيصل أحد القراء في رؤيته لملابسات قضية المخطوطة، إلى كون صاحب الحق الأصل في امتلاكها هوَ أكثر من مجرد مواطن لي ( أنا كاتبُ هذه السطور )، وأن ثمة حبلاً سرياً قد ربطنا معاً. وإذا كان من واجبي أن أتقبّل أية رؤية، ففي المقابل، أسارعُ لنفي أيّ شبهةٍ يُمكن أن تراود البعض بكوني نوعاً من " قرين " لذلك البطل: إنّ ظروفاً معينة، موضوعية أكثر منها ذاتية، هيَ من دفعني إلى تبنّي مخطوطة تُقارب مرحلة مهمة من حياة هذا الشاب.. بل حياته برمتها، طالما أنّ المقدورَ لم يُمهله كثيراً من الوقت على أثر انتهاء شقيقته من كتابة المخطوطة. بكلمة أخرى، وببساطة، أنا كيانٌ منفصلٌ تماماً عن الرواية، وإن كنتُ أتماهى بالسرد هنا وهناك كما ظلالُ السُحُبِ على صفحة مياه البحيرة. ولكن، أهذه رواية أم ضربٌ من السيرة الذاتية؛ مذكرات أو اعترافات؟ القارئ، من حقّه لوحده ان يعطي حواباً هنا أيضاً.. ولكن، ليسَ قبل أن يمضي إلى الأخير في مغامرة القراءة. وأقول القارئ، لا الناقد: فهذا الأخير، في نظري المتشائم، هوَ فئة أدبية انتقلت منذ زمنٍ بعيدٍ من عالم الواقع إلى متحف المنقرضات!
* هأنذا أفتحُ المخطوطة، مجدداً. فلنتابعَ إذن ما جدَّ مع الشقيقين، بعدما تركناهما ليلاً ثمة في مراكش؛ عند العَرَصَة المتناعسة، المستلقية على طرف شارع محمد الخامس، غيرَ بعيدٍ عن تلك الفيلا، التي لن تتأخر في فتح بوابتها لهما.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تخلَّ عن الأمل: 6
-
تخلَّ عن الأمل: 5
-
تخلَّ عن الأمل: 4
-
تخلَّ عن الأمل: 3
-
تخلَّ عن الأمل: 2
-
تخلَّ عن الأمل: 1
-
الرواية: استهلال
-
سيرَة أُخرى 34
-
احتضار الرواية
-
فاتن حمامة والزمن الجميل
-
أقوال غير مأثورة 6
-
سيرَة أُخرى 33
-
الهلفوت والأهبل
-
سيرَة أُخرى 32
-
بسمة مسمومة
-
الغموض والوضوح
-
عَرَبة العُمْر
-
اتفاقية سايكس بيكو وشعوب المشرق
-
أحلى من الشرف مفيش !
-
سيرَة أُخرى 31
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|