محمد مهاجر
الحوار المتمدن-العدد: 5196 - 2016 / 6 / 17 - 21:52
المحور:
الادب والفن
رئيس افريقيا
-
كنا طلاب علم فى ذلك الوقت وكان لكل منا غرفته ونقتسم فيما بيننا الخدمات فى شقة فى مسكن الطلاب. وكان زميلى امبامبا حديث عهد بالبلد. وفى يوم الاحتفال الكبير بالعيد القومى لبس احسن ما عنده من ثياب افريقية ووضع قلادات من الفضة والعاج والودع والخرز. وكان مهندما بجلبابه الواسع الابيض ذى الخطوط الزرقاء الرفيعة والطاقية الموشاة بالرسوم الجميلة اضافة الى الوشاح الذهبى المزركش الرائع المتراقص على كتفه. وبرغم حوارنا الذى استمر اياما حول الموضوع الا انه ظل متمسكا بالمعلومات التى رسخت فى ذهنه وهى ان التقاليد تلزم كل فرد بان يرتدى الزى القومى لبلده. وحاولت مرة ومرة اخرى فى ذلك اليوم وبعدة طرق ان اوضح له خطأ المعلومات المضللة التى بلغته بخصوص لبس الزى القومى لكننى فشلت لان عناده لم يترك له اى فرصة لكى يصغى الى باذن محايدة. واخيرا خرجنا وانا متاكد من تبعات العناد
بعد ان توترت مفاصلنا من فرط التعب وصلنا الى مركز المدينة. كانت الاجواء متخمة بالطرب المجنون والمسارح تملأ الساحات والشوارع. ولما فحص صاحبى المكان وجد ضالته فى متناول اليد فسحبنى من يدى والح على ان ارافقه الى احد المحلات التى تبيع البيرة الرخيصة. كان يعب الكاس عبا مذهلا كمن يخوض سباقا محموما وحين شعر باصابع الجوع تدغدغ جدران معدته اصر على الا ياكل سوى بطاطس مقلية. ومن هنا بدانا رحلة بحث طويلة محفوفة بالمتاعب الكثيرة نظرا للزحمة وطول الصفوف امام محلات البطاطس. ووضحت له ان الوضع المريح والمختلف تماما سيجده فى محلات اللحوم بانواعها والدجاج والسمك, لكن عناده لم يترك لى اى خيار سوى موالاته. وكان يدعى بان رايه نابع من عقيدته الدينية التى تحرم عليه اكل اللحوم. وافترقنا فى لحظة مفاصلة نادرة حدد فيها كل منا معالم طريقه ومحكات بحثه عن المتعة المتاحة فى تلك المناسبة المميزة
استمتعت بما انتقيت من معروض ثقافى مختلفة الوانه لذيذ الطعم ثم عدت الى المنزل عند الاصيل. دفعت الباب ورائى وتوجهت مباشرة الى غرفتى فخلعت القميص والجزمة فوضعت جلبابا على كتفى ثم دلفت الى الصالون ورميت بجسمى كله على الاريكة. وبعد حين كان امبامبا يقف قريبا منى لكننى لم انتبه لذلك نظرا لانشغالى بالتلفاز الذى كان يبث بعض المشاهد من الاحتفال. ولما التفت فاجأتنى هيئته المغايرة تماما لامبامبا المهندم الذى خرج معى عند الضحى. لم يسلم اى مكان فى ملابسه او جسمه من الوسخ ولم يك هنالك اى وشاح على كتفه, اما الجزمة فكانت ملطخة بالطين ويفوح منها العفن الشديد. ولم يتفوه بحرف واحد بل رجع فاغلق الباب وبسرعة عاد فوضع جسمه المتهالك على الكرسى ثم ابتدر الحديث قائلا
بعد رحلة بحث مضنية نجحت فى العثور على محل لبيع البطاطس المقلية كان يديره رجل ابيض متوسط العمر ومعه اسرته المكونة من زوجته وبناته الاربعة الجميلات اللائى كن يرتدين زيا تقليديا يعود الى القرون الوسطى. طلبت الاكل فناولتنى زوجته البطاطس وسالتى بلهجة فضول عن هندامى فاخبرتها بانه الزى التقليدى الافريقى. اخرج الاب كاميرا حديثة وصورت لقطات تذكارية عدة مع الاسرة. وحين فرغنا شكرني الجميع لكن احدى الفتيات صاحت فجاة
هذا رئيس افريقيا
وضحكت كثيرا وضحك معها الجميع وقهقنا ثم عادت الاسرة الى العمل لكن عبارة الفتاة انتشرت قى المكان انتشار النار فى الهشيم. ولم ابتعد سوى خطوات معدودات حتى استوقفتنى زمرة من الشباب المشاكسين الثملين واخذنا صورا جماعية وضحكنا ورفعنا الكؤوس واعلنا فرحتنا الكبيرة بالمناسبة. ثم جاء دور عروسين شابين واقفين على رصيف الترام فكررت معهما نفس المشهد. وانتشرت عدوى الصور التذكارية وفى كل مرة كان الناس يشيرون الى ويصيحون
هذا رئيس افريقيا
العروسة توقفت حينا لكى تشاهد مع زوجها اللقطات التذكارية وتطمئن تماما من ان ذاكرة الكاميرا تحتفظ بمخزون كافى من الصور الجيدة. ولما انتهت تركت زوجها وشقت طريقها بصعوبة حتى وصلتنى فصافحتنى بحرارة وشكرتنى ثم تحدثنا لبعض الوقت. وفى لحظة ما شملتها بنظرة فاحصة فوجدت انها شابة جميلة انيقة حليبية البشرة تضع على راسها اكليلا فضيا مزينا بقطع من البلور اضفى على شعرها الاشقر الطويل ابهة وسحرا نادرا. كان حديثها طيبا لكنه لم يدم طويلا حيث الح بعض المحتفلين على مواصلة مهرجان الصور التذكارية. وانتهزت العروسة الفرصة لتأخذ لقطات اضافية واخذت معها كذلك الوشاح واخبرت زوجها بانه هدية من رئيس افريقيا. واجزل الزوج الثناء على فشكرته على حمده وكلماته الطيبة لكن الخجل منعنى من استرداد وشاحى. وتحركت بخطوات سريعة مضطربة لكى ابتعد لكن استوقفنى فى منتصف الطريق مهرج شقى اراد ان يشارك فى تكريمى
قام المهرج بتصميم وشاح من كيس من البلاستيك وثبت عليه عبارة رئيس افريقيا وهى مكونة من بالونات صغيرة ملونة على شكل احرف لاتينية مثبتة بشريط لاصق. وكانت براعة المهرج و حنكته وخفة يده نادرة جدا. وحين البسنى الوشاح وتاج البلاستيك البرتقالى واستعد للتصوير معى اطلق الجميع صيحات البهجة وعلا التصفير والتصفيق. واصبحت تنهال على الهدايا من كل الاصقاع. ولم تسبب لى الزهور ولا بطاقات المعايدة ولا العملات النادرة ولا البالونات اى متاعب تذكر, لكنها كانت وشاحات الفرق الرياضية
كان مشجعى الفرق الرياضية يضعون الوشاحات ثم يلتقطون الصور التذكارية. وفى تلك اللحظات يكون التحدى الكبير وتكون المواجهة الخطرة التى ينفق فيها الوقت الطويل فى الجدل والسباب الذى كاد فى كثير من الاوقات ان يفضى الى التشابك بالايدى والعراك. والسبب الرئيسى لتلك المواجهات هو طريقة وضع الوشاحات وترتيبها حسب مكانة كل فريق رياضى فى نظر مؤيديه. واحيانا كان ياتى فريق من المشجعين لينزع وشاحا وضعه الفريق المنافس حتى يتمكن من اخذ صورة ليس بها اى شعار او اثر يدل على غريمه. واذا حاول فريق ما وضع شعار فريق اخر على الارض فان الحال كان يستدعى من البعض اعلان الحرب. وعند احتدام النزاع ووصوله الى تلك الحالة كانوا يطلبون منى ان اصبح حكما بينهم. وكنت باستمرار ارفض الدور لكن بمرور الوقت زاد الالحاح واصبح الامر مقلقا جدا
عندما علت مكبرات الصوت لكى تعلن عن دخول الفرقة الغنائية تنفست الصعداء. وما ان عزفت موسيقى الريقى حتى صعدت الى المسرح. رقصت رقصا اعجب الجميع, فكنت اتمايل تماما مثل بوب مارلى, واحيانا كنت اضرب الارض برجلى ضربا عنيفا فيسمع الجميع وقع اقدامى, واحيانا اقفز قفزات رشيقة. وعج المكان وفى لحظة ما الحت ثلاث شابات جميلات على الصعود فساعدهن بعض المشاهدين وزجوا بهن فرقصن معى ثم انضمت اربع اخريات. وبعد انتهاء الغناء نزلنا من خشبة المسرح فوهبت احداهن نفسها الى فقبلت بان تكون زوجة لى عما قريب, وبعد حين وبسرعة البرق سلكت كل واحدة منهن نفس المسلك. وفى ظرف تاريخى نادر اصبحت الخطيب الوحيد والزوج المحتمل لسبع شابات شقراوات جميلات. واخبرننى بان الامر جاد وانهن يتقبلن وبصدور رحبة التقاليد الافريقية التى تبيح تعدد الزوجات. اما انا فكنت فى البدء اعتقد ان الامر مجرد مزاح ولعب ينسجم مع جو البهجة والاحتفال الكبير
اذنتهم بذهابى فقصدت دورة المياه. وفى الطريق كنت افكر فى مالات الخطوبة اذا ما تمسكت نسائى بما رسخ فى اذهانهن. وسلكت عدة سبل للبحث لان وجود مرحاض مغلق لم يك بالامر الهين. وعز على التبول فى مكان مكشوف لان لقب رئيس افريقيا لم يزل يحيط بى ويخنقنى. واصبح الوقوف فى الطوابير مؤلما وكانت حدة الالم المقيم تحت السرة تزيد كلما زاد ثقل المثانة, ثم زادت صعوبة الحركة واستفحل الامر. وفى لحظة ياس وقنوط قررت ان اذهب الى حديقة بعيدة جدا حتى اتمكن من التخلص من كل اعبائى والتزاماتى
لم تخلو رحلتى الى الحديقة من المتاعب, فكانت عبارة رئيس افريقيا تلاحقنى مع كل خطوة اخطوها. فحين مررت باطفال يساعدون اسرهم على البيع لاحظوا لوجودى فنبهوا امهاتهم الى ذلك الرئيس المتجول غريب الهيئة, فهرعوا لمصافحتى . وعلى مقربة من المكان كان هنالك محتفلين على متن قارب فى القناة يغنون ويرقصون ويلوحون ويصرخون ثم كان هنالك اخرون واخرون, كلهم كان يندهش ويتعجب ويحتفل برئيس افريقيا ويريد اخذ الصور التذكارية. هما كلمتان كل واحدة منهن لها سحر خاص وعبق استوائى مدهش. الاولى مرتبطة بالعظمة والسطوة والابهة والقدرة الفائقة على البطش, اما الثانية فهى توحى بالدفئ والتنوع والبهجة والعراقة التاريخية والغنى الروحى والفضاء الرحب الملئ بالمفاجئات السارة والعجائب. والناس بطبعهم يحبون ان يخلدوا الذكريات الاثيرة عندهم خاصة تلك المرتبطة بتجارب نادرة
بمرور الوقت ادركت ان البعض ظن حقا اننى رئيس افريقى زائر او من عائلة الرئيس, لا فرق, فالامر عندهم لا يتعدى متعة يوم واحد. وكنت فى قرارة نفسى اؤمن تماما بان رئاسة الدولة لم تك من بين احلامى ولم تخطر على بالى ولم امنى نفسى يوما ما بان اكون فى قمة الهرم السياسى لحزب صغير ناهيك عن ان اصبح رئيسا لافريقيا كلها. الرئاسة عندنا اخطبوط يفترس احلامنا الرائعة ويحولنا الى اسرى لمزاجه الفاجر العربيد. انا مجرد طالب علم يحلم بان يكمل دراسته ثم يرجع الى بلده لكى يعمل فى وظيفة توفر له سبل العيش الكريم فيفيد خلق الله ويستفيد. لكن الذى حدث هو موقف نادر تم فيه تنصيبى كرئيس خرافى رغم انفى, بل اضيف الى ذلك خطبتى وزواجى المحتمل من سبع نساء بيض
وصلت الى الحديقة وراسى يضج بالافكار الكثيرة المتناثرة المقلقة. ونظرت حولى واستدرت فى كل اتجاه فلم اجد فى الحديقة مكان ليس فيه بشر. مئات الالوف حضروا الى مركز المدينة من اجل الاحتفال, فلا الحديقة ولا الكبرى المؤدى اليها ولا النفق تحت القناة ولا الشجيرات المتشابكة ولا شئ, لا يوجد مكان ليس به بشر. ونال منى الضنى واعتقلنى بين اسواره وانتفحت مفاصلى وشعرت بالوخز فى قدمى فتوقفت فى قارعة الطريق وانا افكر واتساءل
اكل هذه الجموع جادة فى الاحتفال بى باعتبارى رئيسا لافريقيا؟
وبعد حين قررت ان اعاند التعب واتوغل فى الحديقة الكبيرة فقادتنى الصدفة الى مكان مختلف جدا. ومن حسن الحظ كان المكان مناسبا لانجاز مهمتى لكن التوغل فيه كان يعنى القبول بامرين متناقضين وهما الامان من المتطفلين والخوض فى الوحل. وقررت المضى قدما رغم الصعوبات الكثيرة. كنت امشى بصعوبة واذب عن جسمى غصون الاشجار المتشابكة واتحمل الوسخ والعفونة الطاغية. ووضح لى ان الموقع اتخذ كمكان لقضاء الحاجة. والذين ياتون الى هنا يقامرون بسمعتهم وفلوسهم لان الغرامة التى تطلبها الشرطة تعادل اضعاف تكلفة التاكسى الذى يوصل الفرد الى محطة القطارات. وفعلت فعلتى رغم ادراكى لكل المخاطر. وجاء سنجاب متطفل ورفض المغادرة رغم تكرارى لعمليات طرده. ورميته بالاغصان والثمار والحجارة فكان يختفى ثم يعود ليظهر فى مكان اخر. والحيوان الصغير يدرك انه محبوب والكل يجد متعة لا نهائية فى اطعامه والتحدث اليه, خاصة السياح
لما شعرت ان حديث امبامبا سيطول اقترحت عليه ان يذهب لكى يبدل ملابسه المتسخة ذات الرائحة النتنة. وفى اللحظة التى وطأت فيها رجلاه ارض الصالون من جديد اتسعت حدقتا عينيه وفتح فمه واسعا وهو يشاهد المقطع الذى ظهر فى التلفاز وبدت فيه عبارة رئيس افريقيا واضحة على ظهره. ظل واقفا خائفا يترقب. وفى تقديرى فانه قد ظن ان رئيس بلاده قد تدخل ليجعل ادارة القناة التلفزيونية تامر ببث تلك اللقطات. نهضت وتحركت حتى اصبحت بجانبه فربت على كتفه ثم قلت
هون عليك فانت لم تقترف اى جريمة. انت لم تك الا نفسك. كنت انت حين سكرت حتى الثمالة وحين رقصت فافضت فى الرقص واجدت, وكنت انت حين خطبت النساء السبع. الخطأ الوحيد هو قبولك بالرئاسة وانت كاره لها. والرئاسة عندنا لا ترضى بالمزاح, فاما ان تقبل التكليف عن طيب خاطر او ترفضه وتتحمل نتائج رفضك. والرئاسة تجلب معها تبعاتها واعباءها ومتاعبها الكثيرة. وكان عليك الا تلبس دثارا ليس لك
استدار امبامبا نحوى وكان يبدو عليه بعض الاطمئنان. ولم اشأ ان ازيد عليه المتاعب بتوضيح كل الحقائق. والحقيقة التى يجهلها هى ان هنالك عدة قنوات تنقل الحدث وقد يكون من بينها قنوات قامت بتغطية كاملة لصديقى امبامبا رئيس افريقيا فى ذلك اليوم
-
#محمد_مهاجر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟