|
رواية جسد ضيق وكشف المسكوت عنه في حياة الراهبات مقال دكتور إبراهيم المليكي
هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية
(Howaida Saleh)
الحوار المتمدن-العدد: 5191 - 2016 / 6 / 12 - 04:21
المحور:
الادب والفن
د. إبراهىم الملىكى
إن الرواية هي الجنس الأدبي الأكثر رحابة والذي يمكن المتلقي من الإنصات الحالم إلي الواقع، فهي بمثابة مساحة من التخييل تنفتح أمام القارئ كأنّها حلم يتهادي من عالم يتسربل بالتخييل، ليكشف زيف الواقع وقبحه أو جماله وتعدديته، فالنص، الرّوائي يستطيع أن يعيد تشكيل معطيات الواقع ويقدمه في معطي لغوي قادر علي أن يعقد تصالحا بين المتلقي وواقعه. فلو أنك مواطن قبطي مثلا تعيش في صعيد مصر، وتعاني من كابوسية الواقع الذي تعيشه بشكل يومي من مفردات تتسرب إليك غصبا من حديث يدور ـ فرضا ـ بين اثنين من المسلمين الذين يشاركونك ذات الوطن، لكنهم يرونك رغم أنك "مسيحي بس أمين جدا" أو مع إنك "مسيحي بس شغلك لا يُعْلَي عليه" أو في أسوأ تقدير يرونك "عضمة زرقة" أو "كوفتس" كيف سيكون الواقع حينئذ بالنسبة إليك؟ وهل لو أنك قرأت رواية "جسد ضيق" للروائية والأكاديمية المصرية هويدا صالح والتي صدرت مؤخرا عن دار الراية للنشر والتوزيع بالقاهرة لن تتوقف لتتأمل واقعك وذاتك وإحساسك الدفين جدا والذي تخجل أن تصرح به لأحد حتي لا تتهم بإثارة الفتنة الطائفية أو للتفريق بين "عنصري الأمة" تلك المقولة المكذوبة والتي يكذبها الواقع طوال اليوم؟ ألن تساعدك هذه الرواية علي إعادة صياغة أسئلة الوجود بالنسبة إليك ؟ ألن يجعلك هذا العمل الأدبي الذي صيغ من صدق وشجن علي أن تتخطي أزمتك النفسية كمسيحي تتعرض كل يوم لذات الاضطهاد؟ ما الذي قدمته هويدا صالح في "جسد ضيق" حتي تلبي أفق توقع القارئ الذي يمسك بروايتها ولا يفلتها بسبب متعة الصياغة وجمال الأسلوب وعمق تصوير الشخصيات من الداخل، والجرأة المطلقة علي كشف المسكوت عنه فيما يخص ثنائية الروح والجسد؟ كيف استطاعت الكاتبة أن تدخل تلك المنطقة الشائكة من سرديات تتسلل إلي الروح ببساطة ورهافة، لكنها في ذات الوقت تنبش في كل هذا القبح الذي يمارس علي المواطن المسيحي وتخرجه للعلن؟ إن الرواية تدور في صعيد مصر، حيث تعيش الطفلة فردوس حياة مليئة بالتعاسة والألم، لكنها تمتلك روحا فضفاضة تضيق علي هذا الجسد الذي لا يتسع لكل هذا الفيض الذي تحمله داخلها رغم كل هذه التعاسة. تعود الكاتبة عبر الفلاش باك لتستعيد طفولة فردوس، وتكتب تاريخها الشخصي وعلاقتها بجسدها وعلاقتها بالعالم وكل ما هو خارج الذات، وحينئذ لا تكتب الكاتبة التاريخ الشخصي لفردوس فقط، بل تكتب التاريخ السري لآلام ومعاناة كل المسيحيين، رجال ونساء، تكتب تاريخ الألم المسيحي في تفاصيل مدهشة ومربكة في نفس الوقت، ففردوس التي تربت في قرية نائية من قري الصعيد والتي تعيش في بيئة "الشعب المسيحي" المنعزلة، وكلمة الشعب تطلقها الكنيسة علي المواطنين المنتمين لها، وكأن الكنيسة دولة والمسيحيون شعبها. يتكشف للقارئ عبر تفاصيل السرد وبنياته تعاسة فردوس وأمها دميانة، وأبيها وكل عائلتها وهم يعانون بسبب المناخ الطائفي الذي يعيشون فيه. تتمكن الساردة من كشف علاقات وتفاصيل بين المسيحيين، بعضهم البعض، وبين المسلمين. تقع فردوس في عشق شاب مسلم، لكن الجميع يقف ضد هذه العلاقة، أسرتها الصغيرة، والكنيسة والشعب المسيحي وكذلك أسرة الشاب المسلم، الجميع يقف في معركة حامية ضد هذين القلبين الغضين اللذين فكرا في غفلة من الزمن أن الحياة من الممكن أن تهبهما السعادة. وحين تضيق الحياة. تتزوج فردوس من شاب مسيحي، لكنها تعاني التعاسة وألم، فقلبها ما يزال يعشق (محمود) وزوجها لم يتمكن أبدا أن يملأ فراغات روحها، ويضيق الجسد تقرر فردوس في لحظة فارقة أن تذهب إلي الدير، لكن قواعد الدير وقوانينه الداخلية تمنع التحاقها به، لأنها متزوجة، والدير لا يقبل إلا العذراوات اللاتي لم يذقن طعم الحياة، حتي يتمكن من التفرغ لعبادة الرب، ويتمكن من محبة يسوع كما يليق به: "أضواء السيارة التي فزعت أرنبا في البراري، لم ترها امرأة تجلس في حجرة مظلمة تدعو يسوع أن يستر عرض ابنتها في الغربة. ورجل يتكور علي جسده بجوار سخونة الفرن يسمع نهنهات الأم المكلومة في ابنتها ولا يعلق. شهقات المرأة التي ارتفعت وهي تدعو أم المخلص أن يعيد لها ابنتها ذكره بتفاصيل حياته مع المرأة. وفي ذات اللحظة التي يستعيد فيها الخواجة حنا تفاصيل حياته مع دميانة كانت فردوس تعيد تركيب مشاهد حياتها قبل أن تتوقف السيارة أمام باب الدير. كانت الشمس قد غابت منذ ساعة أو يزيد، والأضواء القادمة من الدير لا تكفي لتبدد وحشة المكان. نزل معها القس وأمر السائق أن ينزل أيضا، فطريق العودة سيطول وخاصة أنهما سيعودان بعد قليل". ويقف في وجهها كذلك أمها والكنيسة، لكن قديس روحها مارجرجس بشكل أسطوري يهيئ لها كل شئ، حتي أن الكنيسة توافق علي ذهابها للدير:"لاح في فكر فردوس قرار الرهبنة. بدأت الطريق مستعينة بالأم المباركة وقديس روحها مارجرجس. منذ طفولتها وصورة الراهبات تثير دهشتها وفضولها. منذ أن كانت تذهب مع أبيها إلي دير الراهبات في الجبل، وهي ترسم لهن صورة ملائكة بأجنحة بيضاء تجسدت علي الأرض. كانت تراهن في مولد العذراء وقد وقفن يطبطبن علي أطفال مذعورة من الزحام والصخب. يقفن في شموخ وتسامح يهبن البركات للنساء الريفيات الراغبات في بركة يسوع. يسقين العجائز اللاتي فرهدهن الحر والعطش، وقد جئن لأم النور تباركهن. كانت الراهبات تدور بين الصغار والعجائز، تداوي الأرواح بالابتسامات الحانية، وتهب الصغار الحلوي والحمص والفول السوداني. ولا ينسين قطع الملبن الطرية علي الأسنان الخربة للعجائز القادمات من القري النائية". تذهب في رحلتها المقدسة إلي الدير، وهناك تحاول الكاتبة كشف المسكوت عنه في حياة الدير السرية، ترصد عبر السرد ما يمارس علي النساء في الدير من تهميش وإقصاء، حتي أنهن يمنعن من قيادة القداس، ويستعن في القداسات بأسقف أو راهب يأتي إليهن من قبل الكنيسة حتي يصلي بينهن، وليس هذا فقط ما حاولت الكنيسة كشفه، بل كشفت عن تفاصيل حياة الراهبات اللاتي انقطعن عن الحياة، وتفاصيل حياتهن، سعاداتهن وتعاساتهن. نشعر أن الكاتبة تركز علي الرسالة الإنسانية، فهؤلاء الراهبات هن بشر في نهاية الأمر، لهن أحلام، فقدنها في طريق الرهبنة، ولهن تعاسات يعشنها بشكل يومي، لسن ملائكة حتي يتخلين عن طبيعتهن البشرية. تجد في الدير راهبة عجوز، تقع في محبتها، وتجلسها كل ليلة لتستمع منها عن حكايا عشقها، ونتعرف من خلال السرد أن الراهبة العجوز كان لها حبيب فقدته قبل دخول الدير، وأنها تستعيد تفاصيل حياتها عبر حكايا فردوس، وتمر الأيام وتموت الراهبة، عند ذلك تقرر فردوس أن تخرج للحياة مرة أخري لتخوض معركتها الشخصية مع تلك الحياة التي سلبتها كل شئ، وتري أن الرهبنة هي هروب من الحياة: "كانت الجلسة الأولي مع فردوس قادرة علي إشعال نيران الوجد ليس في روح فيبي فقط، بل في جسدها أيضا. وصارت الليالي تمر وحكايات فردوس لا تنفد. كان يختلط الواقع بالخيال في تلك الحكايا، حتي أن فردوس ذاتها لم تكن تفرق ما حدث لها في حياتها قبل دخولها الدير بالفعل وما تخيلته. صارت صناعة الحكايا والخيالات نيران المدفأة التي تشعل روح المرأتين في الشتاء وفي وحدة الدير وبرودته. هل كانت فيبي فقط التي تحتاج لهذا الحكي؟ أم أن فردوس كانت تستعيد كل حكاياها وتفاصيلها الصغيرة حتي تقوم بتثبيت المشهد؟.فردوس استمتعت باللعبة التي دخلتها في البدء مشفقة علي الراهبة العجوز، وهي تستنطقها عن حياة جاءت للهروب منها، لكن حينما بدأت الحكي شعرت بسعادة غامرة تجتاح كيانها، وبمرور الليالي أدركت المتعة، وأدمنتها، فقررت أن تطيل عمر الحكي، بل تطيل عمر تلهف الراهبة العجوز علي حكاياها حتي لا تشعر بالملل وتبحث عن راهبة جديدة تفتح لها صندوق أسرارها الصغير".
#هويدا_صالح (هاشتاغ)
Howaida_Saleh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقال الناقد سيد الوكيل عن رواية جسد ضيق
-
الشغف المصري في كتاب فرغلي عبد الحفيظ
-
التحيّزات الثقافية والحضارية وأثرها على العمران والمدينة الع
...
-
جهود فاطمة المرنيسي في مساءلة التراث العربي .
-
التفاعلات النصية في ديوان -بياض الأزمنة - لعلي الدميني
-
اشتغال الأدب الشعبي في -حكايات شاي الضحى -
-
دور المثقف في صناعة المجتمع..قراءة في كتاب -واحد مصري- لوليد
...
-
السوسيولجيا السياسية في رواية أوقات للحزن والفرح
-
تعرية الثقافة الذكورية في رواية نوافذ زرقاء لابتهال سالم
-
الصراع بين الثقافة المحلية والثقافة الوافدة في إيران
-
مفهوم مختلف للدين في أعلنوا مولده فوق الجبل
-
اللامنتمي يحتج على قسوة البشر
-
فن السياسة والأحكام السلطانية في كتاب-دولة الخلافة-
-
هشاشة الخطاب الديني في حركات الإسلام السياسي
-
عوائق مراجعة المفاهيم في الفكر الإسلامي
-
أول محاولة لقلب نظام الحكم في التاريخ العربي
-
الحب العذري عند العرب
-
مقال د. سيد ضيف الله عن رواية - عشق البنات - لهويدا صالح
-
قراءة في رواية ممرات للفقد ..لدكتور عمار علي حسن
-
نجيب محفوظ بين السيرة الذاتية والتخييل السردي .. أصداء السير
...
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|