|
فتنةُ العزلة/ شهادة إبداعية
نمر سعدي
الحوار المتمدن-العدد: 5184 - 2016 / 6 / 5 - 00:52
المحور:
الادب والفن
فتنةُ العزلة
(شهادة إبداعية)
نمر سعدي/ فلسطين
أصرَّ بعضُ أصدقائي الشعراء على مشاركتي في الأمسية الشعرية التي عُقدتْ مساءَ الأحد الفائت في مدينة طمرة الواقعة في شمال شرق مدينةِ حيفا في الجليل، ولأنهُ آلمني أن أخذلهم هذهِ المرَّة فقد لبَّيت طلبهم بكل محبة، لأنَّ الذين خذلتهم وأنا أتتبَّعُ غناءَ السيريناتِ الغامض كثرٌ ولأنني فعلا نادمٌ على عدمِ تلبيةِ دعواتٍ كثيرة ونداءات مكرَّرة من مؤسسات ثقافية ومراكز إعلامية وتجمُّعات ثقافية وغيرها، وأصبحَ التهرُّبُ من المشاركةِ ديدناً وعادةً، ولكنني أقرُّ بأنَّ هذا هو طبعي ولم أستطع أن أغيِّرهُ، ميلٌ للعزلةِ وغوصٌ على جوانيَّات النفس، فالرهبة التي تنتابني في أغلب المرات وأنا على المنصَّة، والمصحوبةُ بارتباكٍ غيرِ مفسَّرٍ تجعلُ كلَّ صعودٍ إلى المنصَّة كأنهُ صعودي الأوَّلُ أو وقوفي المتوتِّرُ أمامِ حشدِ التلاميذِ في أيامِ الدراسة الابتدائيَّة لا أعرفُ كيفَ أبدأ أو كيفَ أختمُ، سأقولُ هذه هيَ عادتي المحبَّبةُ.. فالكائنُ الشعريُّ الذي يسكنني لا يحبُّ تلميعاتِ الإعلامِ الباهتةَ، تجربتي الشعريَّة نمت في ظلِّ ملكوتِ العزلة.. طبعاً كانت لي مشاركات غير قليلة هنا وهناك في عكا وشفاعمرو وحيفا، ولكن كصوت شعريٍّ استطعتُ أن أحافظ على بريقي الخام حتى وأنا أتخطَّى الثلاثين وأراهنُ على تجلِّياتي المفتوحةِ على فتنةِ العزلة. كثيراً ما كانَ زملائي الشعراء والكتَّاب يطلقون عليَّ لقب (حسب الشيخ جعفر الفلسطيني).. أستاذ فن التدوير في الشِعر العربي الحديث وصاحبُ (نخلة الله) و (الطائر الخشبي) و(زيارات السيِّدة السومرية)، وأحد أهم الشعراء العرب في السبعينيات، مبدعٌ استثنائيٌّ اكتوتْ روحهُ بنارِ العزلة واختارَ البقاءَ (رغمَ أهميَّتهِ) في الظلِّ، هذا الشاعر أخذ القصيدة العربية إلى مدارات قصيَّة على مستوى التدوير والتجديد في المجاز واللغة والنفس الشعري وفتح آفاق لا نهائية لها، خصوصاً في مرحلتها المأزومة بعد موت بدر شاكر السيَّاب، ما حدا بالكثير من الشعراء العرب الكبار للتأثرِّ بهِ حتى من غير أن يعترفوا بذلك. وأذكرُ أنَّ أحد أصدقائي قالَ لي مرَّةً مناكفاً إذا كتبتَ ديواناً فسمِّهِ (نخلةٌ في صحراء) تناصاً مع ديوان حسب الشيخ جعفر لأنك تشبهُ تلكَ النخلةَ مجازاً. هناكَ تبريرٌ نفسيٌّ خفيٌّ لقلِّة مشاركاتي ينبعُ من موقف قديم لي حيال حركة الشِعرِ المحلِّي في فلسطين الداخل، موقفٌ يدعوني إلى أن أكونَ غيرَ منتمٍ إلا لنفسي وبعيداً عن أجواءِ الشلليِّة والمداهنة والنفاق، فلو وضعنا تسعين بالمئة ممَّا يُكتب ويُنتج في هذه البقعة الجغرافية الضيِّقة (ويُسمَّى ظلماً وبهتاناً شِعراً) على المحك الحقيقي للشِعر فسوفَ نجدُ بأنهُ ليسَ شعراً بتاتاً، هو مجرَّد محاولات لصياغةِ أناشيدَ عاديَّة ليسَ أكثر، فما يجري على ساحةِ شِعرنا الفلسطيني المحلي صوّرهُ مرةً صديقي الكاتب المتميِّز سهيل كيوان ب(مجزرة شعريَّة حقيقيَّة) وقد أصابَ جوهرَ الحقيقة، كما أنني لا أريدُ أن أذهبَ إلى أمسيَّةٍ وألقي شِعراً لا يفهمهُ أحدٌ بسببِ استعاراتهِ البعيدةِ وإشاراتهِ العميقةِ لأنَّ الجمهور تعوَّدَ على نوعٍ معيَّن من الشِعرِ ينحو إلى البساطة، مع أنَّ للأمسيات أهميةً كبيرةً برأيي الشخصي تتمثَّلُ في اقترابي من قرائي الحقيقيين وملامسةِ أذواقهم. الكتابةُ في الظلِّ هي طريقةٌ مدهشةٌ للإنصات إلى رفرفاتِ عصفورةِ القلب، وهي صرخةٌ مكتومةٌ ضيقةٌ كجرح امرأة ومزمومةٌ جيدا كفمِ قمرٍ صغير متوهجٍ كجمرةٍ في ريح الصيف.. هيَ حجرٌ ضوئيٌّ يمحو غبارَ الضجيجِ تماما وماءٌ فوضويٌّ يجرف ركام القصائد المبعثرة في طريقِ قلبي.. هي دفيئةُ كائن غير مدجَّن.. مرتبك ولا يعرف ما يريدُ بالضبط من القصائدِ والأشياء.. دفيئةٌ مقدَّسةٌ لقصائد مسربلة بتشظيات الروح ومنجمٌ سريٌّ للتحوُّلات، والشِعرُ الصافي أشبهُ بتوهُّجات نورانيَّة تعملُ على سلبِ شيء من الروحِ بعدَ كلِّ ديوان كما تسلبُ اللسعةُ حياةَ النحلة. أحاولُ دائما أن أتعلَّم من أخطائي، ففي احدى الأمسيَّات الشعرية التي أقيمت في مدينة الناصرة قبلَ سنوات لاحظتُ أن الشلليَّة هي التي تحكمُ المشهد الثقافي وإذا كنتُ لا تنتمي إلى هذه الجهةِ أو تلك فسيكونُ مصيركَ التجاهل والإنكار والإقصاءِ عن دائرةِ الضوءِ المباركة. الشعر هو مكابدةٌ وجوديةٌ وعذابات لا تنتهي إلا بانتهاءِ الحياة.. تشوُّش، ارتباك، توتُّر دائم بلا سبب، شغفٌ حقيقيٌّ إلى زرقةٍ لا تُنال، قلقٌ أبيضُ الموج، لعنات متتالية، انهياراتٌ جماليةٌ تولدُ معك فتجعلكَ لا تركِّز في شيء.. تؤثرُ عليك في كلِّ مناحي الحياةِ.. في طعامكَ وشرابكِ ونومكَ وذهابكَ صباحاً إلى العملِ وتصعلككَ اللذيذِ في المدن الغريبةِ وحتى في كلامكِ مع امرأة عابرة أو قيادتكَ لسيارتكَ، قانونٌ يحكمُ حياتكَ ويجعلكَ أكثرَ عرضةً للرياحِ الغامضةِ التي تلفحُ قلبكَ، وأكثرَ حساسيَّةً للسعاتِ الجمالِ والأضواءِ المخبوءةِ في شموسِ الجسد. القصائد أشبهُ بامرأةٍ تنتظرُ حبيبَها والشاعرُ هو عوليس آخر، قدرهُ أن يفقد كلَّ شيءٍ ليحظى بهذا التاجِ غير المرئيِّ الذي ضفرتهُ لهُ أصابعُ تلكَ المرأة العصيَّةِ. لا يستطيع مربٍّ أو سائقُ حافلة أو بائعُ خضراوات أو رجلُ سياسةٍ (مثلا) أن يقرِّر بعدَ بلوغهِ السبعين وتحتَ وطأةِ الضجرِ واليأسِ والفراغِ بعدَ إحالتهِ إلى التقاعد أن يصبحَ بينَ عشيَّةٍ وضحاها شاعراً، من غير أن يقرأ المتنبي وأبا تمام وجرير والمعريِّ وأحمد شوقي والسيَّاب ودرويش وأمل دنقل والبياتي وغيرهم من حالمي البشريَّة الكبار وصانعي موروث الشعرِ العربي القديمِ والحديث ومن غير أن يسرقَ الدفقة الشعريَّة والشعوريَّة في الشِعر الأجنبي، أنا شخصيَّا لا أستطيع أن أتصوَّر شاعراً أياً كانَ لم يقرأ شكسبير أو لوركا أو بابلو نيرودا أو ريلكة.. لا أستطيع أن أؤمنَ بهِ.. على أيةِ قراءاتٍ يستندُ هذا؟ وما هيَ حدائقُ قصيدتهِ الخلفيَّة؟ كما لن تجعلَ كلُّ مدائحِ نقَّادِ الدنيا من (الشعراءِ) الرديئينَ شعراءً عظاماً. حتى ولو لم أنل نصيبي من الاهتمام النقدي والإعلامي أو لم أرسِّخ وجودي في الذاكرة الجمعيَّة للشعر الفلسطيني الحديث ولو كنقطةِ ضوءٍ واحدة. فلستُ سوى متمِّمِ مسيرةِ من جاءَ قبلي وأعوِّلُ على الجيل الذي سيأتي بعدي لعلَّهُ يكتبُ تلكَ القصيدةَ التي لها ما بعدها في حركةِ الشِعر العربي.
*******
#نمر_سعدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفلسطيني نمر سعدي في «وقتٌ لأنسَنةِ الذئب»/ قصائد تحمل روح
...
-
حبقٌ لظلالِ القصيدة/ نصوص قصيرة
-
كانَ صديقاً للفراشاتِ (عن أميرِ القصيدةِ التونسيَّة أولاد أح
...
-
هواجس على طريقِ القصيدة
-
تلويحةٌ لحارسِ الذاكرة
-
وردةٌ من دخان(مجموعة قصائد جديدة)
-
مرايا نثرية 3
-
سبايا الملح/ مجموعة قصائد جديدة
-
بورتريهاتٌ ليليَّة بفحمٍ أبيض
-
قلبُهُ طائرٌ للحنين(في رثاء جهاد هديب)
-
نقوشٌ على حجرِ الورد
-
الكتابة غواية محفوفة بالمكر
-
إيماءاتُ خريفِ المعنى
-
سِفرُ المراثي
-
تقاسيم على غيتارة الحنين
-
إيقاعات 1
-
مرايا نثرية 1
-
مرايا نثرية 2
-
تقاسيم على نايٍ أندلسي وقصيدةٌ إلى خليل حاوي
-
فيسبوكيات
المزيد.....
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|