|
ثلاث لوحات لمحمد محي الدين ...
جابر حسين
الحوار المتمدن-العدد: 5183 - 2016 / 6 / 4 - 21:48
المحور:
الادب والفن
ثلاث لوحات لمحمد محي الدين ، إذ ينهضنا لنري الوطن ، لنكون فيه* ! ----------------------------------
في قصيدته وضع الحقيقة ، والرياح ... البحر والمدي الممتد ، الفقراء والناس الذين عليهمو عبء التساؤل والثبات ! وأرخي السدول علي قصيدته ، أكسبها غموضا لينا وجسارة في اللون فتوهج المعني ، وأشرقت العبارة !
تحل ذكري رحيله الأولي وقد ذهب عنا إلي حيث يغدو " ذكري " في ضمير ثقافتنا ، في شعرنا وإبداعنا . نحتفي به ، بمسيرة حياته وسيرته ، ثم ، وهذا هو أجمل وأغني ما في حياته ، بشعره وأعماله الإبداعية في تنوعها المثير ، فماذا ترك لنا محي الدين ، ماذا بقي لدينا منه يرافقنا في حاضرنا فيمنحنا ألق الحياة والثقافة وجدواها النبيلة ؟ منذ حوالي أكثر من عامين علي رحيله صباح 26/5/2015 ، كنت قد أرسلت إليه رسالة ، ولأنها ليست تدخل في حيز الخصوصية التي كم راكمنا في خبائها خيباتنا وآمالنا فقد نشرتها في الملأ ، فطالعها ، كغيره من القراء ، في الصحف ! قلت له وقتذاك :
اللوحة الأولي :
* إلي محمد محي الدين :
فيما بين النهر والشجر ما بين السحابة والحديقة والمطر بين العبارة والحواشي والمتون ( كان ما سوف يكون ) ! بحر من الحبر الملون وأفق شاسع ، ممتد في المعني ... وفي الناس المسرة ! يا عزيزي ، كم علمتنا كيف للكلمات تغدو بعضا من تضاعيف الرؤي حيث التضاد ... والصراع ، فنعيشها ... وتدع الحياة بنفسها تخلق المعني تسع المخيلة الفسيحة فتزهر ألف فكرة ! هكذا إبتدأت وأوغلت ... في ركضها المجنون صوب النهر ... في شارع الأسفلت ، في الحوانيت الصديقة في الكتب العتيقة في موقع " الشجرة " فكانت الفكرة كانت الثمرة ! و ... تركتها ، تسعي في المدينة في أزقتها ، وخلف بيوتها الطينية الجدران . حتي أنمحي الفارق اللفظي ما بين المسيرة والكتابة فارتدت كل التصاوير أردية الهوية والنجابة ! هي رحلة الملكوت في العمر القصير تسير فيها ، والدنيا حصار في حصار ! وحدها ، هي وحدها ... ألق القصيدة في ( حديقة الورد الأخيرة ) . نضار في نضار !
تقول حكمتها وكسوتها الملونة البديعة حبيبة الزمن الجميلة الآن تجلس أمام ( الكونتنتال ) تجللها المهابة الوسامة ، يا محمد ... الوسامة والقيامة !
هكذا ، رأيته تلك الأيام ، ممسكا إليه بلحظة الشعر ويسير حثيثا فيه ، لكنه ، في ذات الوقت ، أشتغل علي المسرح ، علي الكتابه فيه وأعداد السيناريوهات والأخراج ، من أعماله المسرحية التي أنجزها كتابة وأخراجا وتمثيلا أحيانا ، فقد كتب : - القطر صفر. - مطر الليل . - هبوط الجراد . - الرجل الذي صمت . إلي جانب مؤلفاته المسرحية كتب سيناريوهات مسرحية وإذعية وسينمائية عديدة ، وعد وأخرج مسرحيات كثيرة ومثل في بعضها أحيانا . أعماله في اتساعها وتنوعها لم تحصي وتحصر وتسجل بشكل دقيق بعد ، أنها مهمة تنتظر أن نقوم بها تمهيدا لإعداد أعماله الكاملة تمهيدا لطباعتها ونشرها . كنت قد رأيت ذلك المنحي قد شرع يسير فيه ، ذلك التوجه الذي ( جذب ) إليه العديد من الشعراء مؤخرا ، وفي خاطري الشاعر النوبي الكبير كمال عبد الحليم الذي أسماه ( مسرحية الشعر ) . تذكرت يوم حالفني الحظ فحضرت حوارا أجراه الشاعر أحمد النشادر مع محمد محي الدين بمدني حوالي العام 2009 لصالح ملف ( تخوم ) الثقافي بصحيفة الأحداث . أذكرجيدا أجابته حين سأله النشادر كيف يري الراهن الشعري عندنا ، سرح ببصره إلي أعلي الشجرة كثيفة الأغصان التي كنا نجلس تحت ظلها ذلك النهار ، ركز عيناه إلي الصفق الأخضر يراقص الرياح الخفيفة في تثنيه وقال : ( لا يعجبني ، تلك الطلسميات لا تعجبني ولا أفهمها ! ) و ... صمت ، لم يعلق النشادر ولا أنا ! قصيدة محي الدين ، طوال مسارها ، ظلت واضحة في تعابيرها وفي كلماتها وبعيدة عن الغموض ، لأنها لا تجلس إلا في الضوء ولاتحب أن تكون في الخبأ وأن كان رداءا شفيفا يشف عنها ! قصيدته فيها الموهبة الكبيرة والمخيلة المجنحة ، بلغة سلسة وبمفردات سلسة خالية من أي تعقيد ، لكأنها تخاطب اليومي وتجالسه وهو الحري بأن يكون وجها للقصيدة وملمحا باهرا فيها . أيكون ، بسبب من ذلك كله كف محي الدين قليلا عن الشعر ليذهب إلي حيث البراح فسيحا فيسمح له أن يقول برؤياه وهي تلامس الواقع اليومي بكل ضجيجه وصخبه وزخمه الخشن وصراعاته وتناقضاته العديدة ؟
اللوحة الثانية :
هي لوحته هو ، ( عشر لوحات للمدينة وهي تخرج من النهر ) ، نبوءاته الشعرية المبكرة وإعلانه الجهير عميق الدلالة عن إنتمائه إلي شعبه وإلي الوطن ، رؤياه التي جعلها تصدر عن مدينته / حبيبته التي لم يبارحها قط سوي بضع سنوات قضاها في اليمن مبتعثا للتعليم في مدارسها ، فظل وفيا وراضيا أن يعيش أطوار حياته كلها في رفقتها أيا ما كان الحال وأن أشتدت عليها القسوة وتجاسر عليها الطغيان . هذه القصيدة / الملحمة أعدها بمثابة المانيفستو لقصيدته ، فقد جعل فيها رؤياه ومواقفه ورؤاه ، كتبها منفعلا بإنتفاضة الجماهير بود مدني في العاشر من يناير 1982 والمدينة تشيع شهيدها الفنان التشكيلي طه يوسف عبيد . هي كتابة للمدينة وللنهر و ... للشهيد ، لكنها ، في ذات الوقت ، خلاصة مكثفة لمشهده الشخصي وهو في بلبال ذلك النضال الجسور ، فرأي وجه الوطن جليا أمامه ، وعايش نضالات الجماهير وهي تعلو وتعلو وتصفع وجه الحاكم وطغيانه وقمعه ، رأي الصحو والنهوض والجسارة والحيوية تطال كل ما حوله ، فقد كان الحدث عظيما وعميق الأثر ، وسيمتد تأثيره ، فيما بعد ، فيبلغ كل أطراف الوطن من أدناه إلي أقصاه ، فالشعر ، كما أظنه لدي محي الدين ، هو سؤال الوجود ، أي الطرق يسلكها ، أي الاشكال والأساليب ينتهجها ، ولم يكن الأمر عنده متعلقا بالحرفة نفسها ، بالتكنيك وحسب ، أنما كان يشمل أساسا وجهة النظر ، الرؤية ، وما يريد أن يقوله . فإلتزام المبدع لا يتموضع ضمن المفهوم الشائع للكلمة ، فالنضال داخل حزب أو منظمة سياسية شئ ، والكتابة مع الممارسة السياسية شئ آخر ، إلا أن أحدهما لا ينفي الآخر ، لكن نلاحظ أنه نادرا ما تلتحم المسؤوليتان دون أن تسئ أحداهما إلي الآخري ، أو دون أن ينتج عن ذلك إلتباس وسوء فهم . فليس ضروريا أن يكون الإنسان كاتبا أو فنانا ليحس أنه معني بما يقمع ويخنق صوت الشعب ، فذلك أحساس كل مواطن يأبي لنفسه الخضوع والإستكانة ، فإذا كان هذا المواطن ، فضلا عن ذلك ، شاعرا مبدعا ، فذلك يكون من نعم الثقافة والوعي ، لأنه يتوفر مبدئيا علي امكانيات – محدودة لا شك – تسمح له بمقاومة الهمجية والطغيان بشكل أكثر فعالية ، كما تسمح له في ذات الوقت ، بما ينتجه من أدب أو فن ، بترسيخ ورفد ثقافة شعبه ووجدانه ، التي تتهددهما أخطار الديكتاتورية والحرق والأبادة . محي الدين وجد نفسه وكامل وعيه وإبداعه علي المحك ، في مواجهة الإنتفاضة وقدراتها المتنامية حد تبلغ بها هزيمة الطغيان وتحقيق التغيير صوب المستقبل الأفضل . بهذه الروح التواقة للحرية كتب محي الدين ( اللوحات ) . لكن أتمكن هنا من إيراد تلك الملحمة كلهاا في هذا الحيز ، لكنني سأورد منها اللوحة الأولي والأحرف الثلاث قبل العاشرة والعاشرة نفسها ، بقصد أن نري معا كيف كتب رؤاه كلها تقريبا علي إتساع وجوهها وجعلها في هذا المنفيستو مثبتا رايته علي طول حياته الشخصية وفي تجليات إبداعها . فأنظر إلي تلك الحيوية تطال كل شئ في المدينة التي هي الوطن في رؤياه المحيطة :
1 : ( لوحة صباحية : شجر البان استعاد الريح وارتاح على رقصته النسوة يغسلن الجلابيب الثياب الخضر اركان البيوت انتفضت بالأرجل الراكضة الطير انتشي صفقت الزونيا وضجت ساحة الجميز بالطير الصباحى الحمامات تبرجن ونثرن على الابراج ريشاً أبيضاً والنهر اخفى لونه العادى اجيال من الاسماك ترمى ظلها المائي تخضر وتحمر على الشاطئ عمال المجارى بائعات الكسرة الشماسة النسوة ارباب المعاشات في انتظار السفر ، الباصات ملت جسد الاسفلت القت راكبيها وتخلت عن مواعيد لعشاق يعيشون الجوى فيها كراسي الخشب المكسورة الأيدى زماناً في مقاهى السوق تشتاق لرواد يضيئون الزوايا والدراويش استفادوا من نشيج الرعشة الأولى على ايقاع بوب مارلي استفادوا لحظة اخرى من الظل الذى جاور جدران المراحيض العمومىة والنسوة يدخلن تباعا ، والضريح انفتحت منه الشبابيك يلملمن الزورات وارداف التجار المرحليون على باب المديرية تهتز وآلاف من الطير الصباحى على بوابة النيل تحى حمد النيل ورايات الضياء الخضر شوشن اذاعات جنود الشعب في الحامية الباسلة الطير انتشي شجر البان استعاد القبعات الموسميات استراحت غابة النيم على وقع خطى الجند رجال الامن يوفون نذور الحب للتجار والسادة والقادة والأطفال يوفون نذور الحب للأرض البيوت انتفضت بالأرجل الراكضة الاردية الخضراء والزرقاء والكتب الحكايات المجلات الطباشير المناديل الزهور النور والنسوة نشرن الجلاليب على الجدران جهزن الملاءات الحنوط الكسرة الصامتة /الصامدة الشاي وعبَّأن الأناشيد المواعيد وأقلام الرصاص
الجرس الاول دقّ الجرس الثاني دقّ الجرس الثالث .. دقت الاجراس دقّ جرس جرس النحاسى الاساسي الخلاسي الخلاصي الرصاصي الرصاص ! ) ...
هكذا ، من من كائنات المدينة لم يصحو وينهض و ... ينتفض ذلك الصباح ؟ أود الآن أن أصوغ انطباعي عنها علي النحو التالي : أنا لا أعتبر أن الشكل في القصيدة ، أيا ما كان ، يأتي ليعوض شكلا آخر أو ليحل بديلا عنه ، ولا هو ،بذاته ، يعبر عن مضمون جديد ومبتكر . ذلك لأنهما معا ، الشكل والمضمون ، يعبران عن ثمرة من ثمار الوعي العام الذي يتمتع به الشاعر والمبدع عموما ، فالوعي لديهم له جانبان ، جانب جمالي وآخر أيديولوجي ، وهما ، معا أيضا ودائما في جدلية تخصهما وتتحدد جواهرها لدي الشاعر ، هذا مما غدا منذ وقت طويل من القضايا التي لا يختلف حولها إلا اولئك المتنطعين الذين علا صراخهم وهم يهللون بموت الأيدلوجيا ، وهي مقولة ملتبسة تشوه الوعي وتبعده عن أن يعيش الحياة ويلامس واقع الإنسان في نضاله الذي يكف لأجل الحرية والتقدم والسلام ، وضرورة أن يكون المبدع وسط الناس حاملا معاولهم وسائرا في دروبهم نفسها ومن تلك البيئة نفسها تطلع زهور إبداعه وتجلياته الجمالية . وفي ظني أن المنهج الذي أتبعه غولدمان يقترح وسيلة اختراق لهذه المسألة ، باعتبار أن الشكل ما هو إلا الوجه الآخر البارز للوعي . وما لاحظته هنا ، هو أن النتائج – القصيدة أعني – التي توصل إليها محي الدين وعلقها حلية في عنق قصيدته من شأنها أن توضح هه الرؤية ، رؤية العالم ، رؤية الوطن ، رؤية المدينة ، رؤية النهر والشجر والطير وساكني المدينة من الكادحين والفقراء ، رؤية الطغيان حين يقتحم المدينة محدثا فيها الجراح والدم والقتل ، رؤية كل شئ من حوله ، كائنا ما كان ، فكل شئ هو في صيرورة الحياة ومعمعانها الذي لا يكف عن الحركة والنهوض ، رؤية الجلاد إذ يقتص من أطراف ضحاياه و يبكيهم ، هو وزبانيته ، بعد مواراتهم الثري ، رأيت هذه الرؤيات كلها وغيرها ، ولم أعد بحاجة للرجوع إلي غولدمان المعروف عنه بحثه الدءوب عن رؤية العالم ويصل إلي رؤية متكاملة وهي الرؤية التي تتحكم وتبرز في الأعمال بشكل واضح ، وهكذا رأيت أن محي الدين قد فعلها هنا حين أمسك بتلك الجوهرة ، الزمن المحيط برؤيا العالم لديه ، فجعل قصيدته تكون في ذات الزمن الذي تكون الناس فيه ويكون الوطن ، ثم أمسك ببرهات الحيوية في الأمكنة والأشياء والكائنات ، كل ذلك تجده بإمتياز في قصيدته هذه . هذه العين التي تري ، وهذه الرؤية المحيطة ، تجدها قد حدقت في وجهة الآتي ، في المستقبل الذي سيجئ ، ذلك ما نجده في اللوحة السابعة التي قسمها إلي ( أ ) و ( ب ) و ( ج ) ، بدقة الشعر حين يكون ناظرا إلي الرياضيات في حياتنا ، هكذا لتصبح ، الحروف الثلاث بكلماتها الدالات ، مكملات اللوحة الثالثة ، تماما ، مثلما فعلها قبله أمل دنقل في قصيدته : الورقة الآخيرة – الجنوبي . فعلها نزولا علي ملاحظة د . لويس عوض علي العنوان الذي جعله لها ، فعل ذلك في بضع ثوان بمكتب لويس فشطب العنوان وكتب : ( صورة – وجه – وجه – وجه – مرآة ) فصارت أبلغ عناوين تؤشر إلي القصيدة ببدلالاتها اللغوية ومعانيها وأمتداداتها في القصيدة نفسها . محي الدين فعلها أيضا في ملحمته الشعرية الكبري عشر لوحات ، فكيف رأي الغد وهو يضئ أملا ورؤيا في الناس ، فالقادم ، لا شك ، أجمل :
( اللوحة السابعة وأخواتها ، ثم العاشرة :
7 الوان (ا) اسودا كان لون النهار وكانت خيوط الأشعة سوداء مصبوغة بالدخان خطوط الجرائد سوداء صوت المذيع يندد بالشغب الموسمى ويعلن للشعب باسم قوى الشعب ان الاشارة خضراء ان الطمانينة سائدة لا إله سوى القبعات. ب اخضرا كان لون الشجر ج ازرقا كان لون النهر 10 لوحة حمراء تماما اخضرا كان لون الحقول ولون الغصون واشجارها والعصافير كانت مياه الجداول زرقاء والنهر غير أزيائه الحقل غير ازيائه والمدارس والمصنع الدور والأحمر الآن إن الشوارع غارقة في الدم الأحمر والأحمر لايكذب يأتى في سراويل من الدم يأتى راجلا يسبق ألاف الخناجر !
أليس هذه الرؤية نفسها ما نراه يحدث الآن من قمع وسجن وقتل لشبان وشابات بلادنا بواسطة الجلاد الذي يوغل في الدم ، يوغل فيه إلي أن تكون للشعب الكلمة الفصل ويذهب الطغيان بكل رموزه إلي دائة النسيان ، إلي مزبلة النسيان مجللا بالعار والحقارة كلها . وبرغم الإطالة في هذه اللوحة التي أعتذر عنها ، لكنني أعتقد ، بإطمئنان كثير ، أن هذه القصيدة بالذات ، من بين كل شعره ، تستحق قراءة متأنية وتأملا فيها ، والشئ نفسه لمشروعاته للمسرح وللسينما ، فإبداع محمد محي الدين يحتاج لدرس كثير سيأتي ، لا شك ، آوانه و ... يكون !
اللوحة الثالثة :
في أخريات سنين حياته توجه محي الدين بكلياته إلي غرب البلاد ، إلي حيث الجرح الدامي في خاصرة الوطن ، إلي دارفور . ظل ينقب في تاريخها فيراه من جديد ، بعيون الشاعر فيه وقلبه ثم ليسقط مشاهداته الخصبة علي الواقع الحي ، علي اليومي من حياة الناس والوطن . تداعيات نابضة بالحياة لاتزال ، تنثر فينا نزيف الدم وصراخات الجسد ، يؤشر عبرها إلي رؤيات وأحداثيات وتجليات ، يراها في الوطن ويراها أيضا في الشعب ، شرع ، بتوق جارف ومحرق ، ليكون الأتون وفي المتون نفسها لا في الحواشي والهوامش منها ! كتب سيناريوهات عديدة إستلها من ذلك الرحم الولود ، ولنقرأ معا مجتزأ صغيرا واحدا من تلك الأعمال لنري كيف رأي وجه التاريخ الهناك وهو يداخلنا في راهننا المعاش : * ثورة السلطان عجبنا . قرأ وجه دارفور عبر تاريخها الطويل ، الذي لا يكف يمتد ويمتد ، فكتب : ( شكلت جبال النوبة تفاعلا مستمرا في قلب الأحداث السياسية والعسكرية في التاريخ القديم . كانت لها علاقاتها القوية ذات الجذور مع الدولة المروية ، وأمتدت هذه العلاقة مع علوه ودنقلا في العصور الوسطي . ظلت جبال النوبة لقرون عديدة منطقة نزاع بين سلطنة الفور والسلطنة الزرقاء ، وقد شكل النوبة عماد جيش بادي الثالث ملك الفونج فأكسبوه القوة والشدة والثبات ) ، ثم كتب في مقابلها ، سيناريو بسيط : - ( مشهد عام . جبال النوبة : ( نقوش مروية ، أهرامات ، معابد ، جداريات ، مخطوطات سنارية . ) . - إشارات : ( خرائط لدولة الفونج ، الفور ) . - إفادة حول الدور التاريخي والسياسي لجبال النوبة .
شرع محي الدين يكتب تلك الحقبة التاريخية لتلك البلاد ، التي تتوهج الآن وتتعمد بنيران الثورة ولهيبها ودمائها ، نضالا جسورا يمتد فينا وفي المدي ويشهد العالم كله علي عار الطغيان وصلفه وقسوته وخسته . رأي الثائر يتقدم شعبه حاملا شعلة الثورة مناديا بها في الملأ ضد المستعمر البريطاني ، ضد الطغيان . رأي ( عجبنا ) ، فكتبه كما رأه : ( ظل النيمانج في ثورة وحالة حرب دائمة ضد الحكم البريطاني بقيادة البطل الثائر الشهيد عجبنا أبن أروجا ، سلطان قبائل الاما ومنطقة النيمانج ، بطل ومقاتل ومحارب شجاع . أسم نادر تحفظه ذاكرة الجبال وتمتلئ بسيرته الشعاب والدروب في منطقة الدلنج التي تضم ثمانية مناطق كبيرة هي : النتل ، وكرمتي ، وككره ، وتنديه ، وشلارا ، وحجر السلطان ، وكلارا والفوس . لم تخضع قبائل الاما للسلطة الحكومية الإستعمارية منذ دخول الجيش البريطاني السودان . أظهرت تمردها وخاضت معارك شرسة وضارية دفعت بالانجليز لمحاولة اخضاع ( النيمانج ) لسيطرتها بكل الحيل والحملات العسكرية وتوجيه الضربات الخاطفة . ) .
أخذ محي الدين من الحقبة وجهها الثائر وذاكرتها ، الثورة والثائر معا ، تأملهما طويلا ليحدث السيناريو بكلمات تشي بالمشاهد الحية وهي دورة حياتها علي الخشبة أو الكاميرا فكتب : (- خريطة جبال النوبة . - أغاني تراثية ، فلكلورية حماسية . - صور ورسومات . - صور السلطان عجبنا . - أرشيف . - إفادة . - مارشات : أصوات . ).
تأمل تلك الثورة فأشتغل عليها ، تلك الثورة التي أندلعت شرارتها العام 1914 وأنتهت في فبراير 1948 بمحاصرة عجبنا وقواته ومنعهم من مصادر المياه فبدأ العطش ينال منهم حد أن خزنوا البطيخ بكميات كبيرة ليستخدمه الثائر وقواته عوضا عن الماء الذي لم يستطيعوا أن يتمكنوا منه . لكن القائد العسكري البريطاني ( سي مارشال ) أحكم عليهم الحصار حتي تمكنوا من اعتقاله في المنطقة الحدودية بين سلارا وتندبه ، أعتقلوه هو وأحد أبنائه ورئيس هيئة أركانه ومساعده الكجور كليلون . وهو الشاعر النابه ، محب الوطن والشعب و الحياة ، لم يفته أن ينظر إلي المرأة في مشهد الثورة ، فقاده تنقيبه ليراها في سيرة الأميرة النوباوية ( ماندي ) ، حين دخلت معترك الحرب بجسارة الثوار ، تلك المقاتلة من بين بنات النوبة الثائرات ، تماما مثلما أشار إليهن ، السلالة من النساء الباسلات في تاريخنا : مهيرة بت عبود ورابحة الكنانية وغيرهن ، يقول محي الدين : ( حملت ماندي البندقية واتجهت صوب ميدان المعركة ، حاولوا إرجاعها فإنتفضت غاضبة ورمت ( بخستها ) إلي الأرض وصاحت : ( دعوني ، ليس الوقت وقت كلام ) ! كان تحطيم البخسة عند النيمانج يعني الوصول إلي قمة الغضب والإصرار علي عدم التراجع . أفسحوا الطريق ، صاحت ماندي وأسرعت مهرولة إلي قلب المعركة . كان دخولها إلي صفوف المحاربين دفعة معنوية عالية ، إمتلأت الصدور حماسا وعزيمة وقاتلت ماندي بكل ضراوة وقوة . خلد الجيش السوداني تلك المرأة الثائرة بمارش عسكري يعرف بمبارش الأميرة ماندي ، مستلهم من الأغاني الشعبية والحكايات التي انتشرت تعبر عن الفخر وتتغني بأمجاد تلك المرأة الثائرة . ) . يقولون ، الحياة أنثي ، فقال محي الدين ، الثورة أنثي أيضا . أضاء الحدث فأبرزه وأعلاه مشعا كما الشهاب في وجه الراهن إذ يسير الوطن والشعب في دروب الإنتفاضات والتغيير ، نضالا وكفاحا ومآثر ! وعن الأميرة ماندي كتب في السيناريو : (- المرأة تحمل البندقية وتعبر الجبال . - سقوط البخسة . بداية مارش ماندي . - زغاريد ، أهازيج ، أغاني أسطورية . ).
هذه أطلالة علي هذا العمل الكبير ، قصدنا بها أن نقدم أضاءة صغيرة عنه لنري ، من بعد ، كيف توجه محي الدين بكلياته سنواته الأخيرة صوب هذا الدرب التاريخي الذي أتخذه ملهما ودافعا لإشتغالاته المبدعة ، مسرحا كانت أو أفلاما تسجيلية ، حيث تتركز رؤيات الكاميرا والكادر السينمائي علي أبراز اللحظات المتوهجة ذات الجدوي في نضالات شعبنا ، في المعني وفي الدلالة مستخدما ومستنفرا كل أدوات المسرح والسينما ومتكئا علي القدرات الكبيرة للشعر لديه . علي نفس هذا النسق ، وعلي ذات السياق كتب سيناريوهات عديدة عن تلك نضالات تلك الشعوب منها : * ثورة السلطان علي الميراوي . * جبال النوبة ، مواسم الحب والحصاد . * سيناريو أبطال الجبال . * مملكة تقلي . * منارة الجبال . كل هذه الأعمال جاهزة وصالحة لتكون أمام شعبنا ومشهدنا الثقافي ، وهنا يتوجب علي أن أزجي شكري العميق وأمتناني للأستاذة الصحفية النابهة حنان آدم عثمان التي أرتني هذه الأعمال المهمة ، وكان الراحل قد أودعها لديها أخريات أيامه كآخر أعماله تمهيدا لطباعتها والأشغال عليها لتفيذها ، لكن لم يمهله ، ذلك اللص الجبان علي قول درويش ليكمل مشواره وإشتغالاته المبدعة !
و ... نحن نرفع إليه لوحاته ، في مقام تمجيده جراء حياته الخصبة وما منحنا إياه من جماليات ورؤي ومواقف ، يبقي هنالك سؤالا يلح في الخاطر ، ويقرع فينا أجراسه : تري ، لماذا هذا التوجه نحو التاريخي ، صوب المسرح والكاميرا ، هل يعد ذلك نأيا ما عن الشعر ؟ نعلم أن محي الدين قد درس المسرح وتخرج فيه وزامل العديد من المسرحيين والشعراء ، ونعلم ، أيضا ، أنه بدأ مشوار إبداعه خائضا في بلبال الشعر ، حتي غدا أحد أهم وجوهه في حقبته ، لكنه سرعان ما عاد ، بخفة الكائن عنده ، إلي المسرح وإلي الكاميرا ، أيكون هو الحنين ، أم هو الشعر الذي بدأ يكف عن السطوع رويدا رويدا عنده ، أو بالأحري ، صعب عليه أن يسير فيه ، بطلسمياته ووجوهه ( المغايرة ) التي ، أصلا ، هي لا تعجبه كما تبدو في حال الشعر الآن ؟!
محمد محي الدين : لروحك نقول ، شكرا جميلا يا حبيبنا ، فنحن ، الآن ، نري الوطن أجمل ، وشعبنا يضئ العتمات وينهضنا للنضال ، أليس ذلك ما رأيته وأردتنا نكون فيه ؟!
--------------------- * ود مدني 20/5/2016 . * قدمت هذه الكتابة يوم الخميس 26/5/206 في فعالية نهارية بقصر الثقافة بمدني ضمن أوراق آخري . * نشرت أيضا في صحيفة ( الميدان ) الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوداني يوم الخميس 2/6/2016 في ملفها الثقافي .
#جابر_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الكتابة يشرق الحب أيضا !
-
وداعا شاهندة مقلد !
-
الشاعر محجوب شريف ، مات مقتولا !
-
كلمات في مقام الشعر !
-
كتابة إليه ، إلي الحزب وإلي شعبنا لمناسبة رحيله !
-
دعوة للجنون !
-
د . محمد محمود يكتب بعد موت الترابي ...
-
الهوستس ، بين العجيلي ويوسف إدريس !
-
كمال الجزولي بخير ...
-
كمال الجزولي ، لا تتركنا بالله عليك !
-
وداعا عثمان إبراهيم ، العامل الشيوعي ، قائد الحزب في شرق الس
...
-
وداعا خليل كلفت ، الشيوعي النوبي الجميل !
-
الشيوعيون أيضا ، يحبون عثمان بشري !
-
أعراس محمد محي الدين !
-
في التشكيل ، - أب سفة - حين يستنهض الألوان !
-
رسالة بدر إلي جابر ...
-
وداعا يعقوب زيادين !
-
في مدني ، وأسيني الأعرج يتجلي فيمتدح الأمير !
-
ود المكي وكت نزل مدني ...
-
القدل الآن في تأمل حال البلد ...
المزيد.....
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|