|
رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [2] شجرة آدم وحواء
محمد عبد المنعم عرفة
الحوار المتمدن-العدد: 5180 - 2016 / 6 / 1 - 03:59
المحور:
الادب والفن
الشجرة التي أكل منها آدم وحواء مر بنا أن ظهور الأسماء والصفات هو تأويل قوله تعالى (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا) وظلمه وجهله: أن ينسب إلى نفسه (التي في حكم العدم) ما ليس له مما جمله الله به من أسمائه وصفاته. وكانت هذه هي معصية آدم عليه السلام.. فالأكل من الشجرة لم يكن أكلاً مادياً، ولا الشجرة كانت مادية، كشجرة تين أو كرْم الخ مما يردده المفسرون من أهل الظاهر (1)، وإنما كانت أمر عظيم جليل، كانت شجرة الأسماء والصفات الإلهية، من الحياة والعلم والسمع والبصر والإرادة والقدرة والكلام والحكمة الخ. يقول الإمام أبو العزائم في كتاب (الطهور المدار على قلوب الأبرار): (وقد بينت لك أن الله غرس الإنسان بيده في جنة عدنه، فالإنسان شجرة ربه، وهو السدرة التي رأسها مغروس في العرش وأطرافها مدلاة على الجنة، وتلك الشجرة التي هى صورة الحق لها ثمر هو جمالها الذي يجب أن يُحفظ لزارعها سبحانه، فإذا تجاوز الإنسان حد العبودية وتناول ما هو خاص بربه، عصى وغوى لحكمة بينت لك بعضها، فرُدَّ إلى الأرض ليرتقى إلى مقامات القرب وليتجمل بجمال الخلافة، فيكون مرآة لظهور معانى صفات ربه، وحقيقة هي مظهر لظهور صفات نفسه وهي العبودية. واسمع وسلم إن لم تذق، فإن من حرم التسليم والذوق حرم الخير كله.. أودع الله أمانته في آدم فنسى آدم ونسب لنفسه ما ليس له فكان ما كان من ظهور سوءته ومن شدة وجله، والله غالب على أمره، قال سبحانه : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) وإن ما أكل آدم: ما فيه ما أمانه باريه. منحنا الله الذوق، وجملنا بالشوق، وحفظنا من الإنكار، إنه مجيب الدعاء) اهـ فالأكل من الشجرة كان بأن نسي آدم ونسب لنفسه ما ليس لها، فأثبت لها وجوداً مع الله مستقلاً بذاته، وهو من ذنوب السابقين المقربين، وهو في عُرف أهل الله من الشرك الخفي ومن العظائم، ولذلك يقول الصوفية: وجودك ذنب لا يقاس به ذنب، وفي الحديث (كان الله ولا شئ معه وهو الآن على ما عليه كان).
هناك نصوص غريبة ترد في الكتاب والسنة لا يفهم مغزاها علماء الظاهر، نصوص في التشبيه! كقول الله تعالى (ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) جعل نفسه مكان الفقير الذي يأخذ الصدقات! وقوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً) : جعل نفسه كأنه يقترض من عباده. وقول حضرة النبي ص: (خلق الله آدم على صورته) والحديث القدسي الجليل الذي أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟..) لماذا يعطينا الله ورسوله هذه "الإشارات" أو قل هذه اللمحات الخاطفة السريعة والومضات النورانية هنا وهناك ؟ لأمر عظيم جلل.. لكي ننتبه ونفهم أن الله تعالى ظاهر في هذه الصورة الآدمية التي تحمل أنوار الأسماء والصفات.
ولو فهم الناس هذا لذاقوا ثمرات كلها أحلى من الآخر: الأمر الأول: سيعلم الناس فضل الرسل والأنبياء عليهم، لعظم حظهم ونصيبهم من النور الظاهر فيهم، وسينتهى دين الوهابية اليهودية الذي يفرق بين الله ورسله ويراه شيئاً وهم شئ آخر (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) دين قبائل بني اسرائيل البدائية التي لم تعرف معنى التنزيه فضلاً عن نور التشبيه والتجلي، هو هو دين صحراء نجد الذي ابتدعه العميل البريطاني محمد بن عبد الوهاب، الذي تلقاه عن ابن تيمية، وابن تيمية تلقى مسألة التفرقة (أي التفرقة بين حياة النبي ص ووفاته في مسألة التوسل)، تلقاها عن يهود السامرة، كما قال العلامة أبو بكر الحصني في "دفع شُبَه من شبه وتمرد") الأمر الثاني: سوف يرتقي الناس كثيراً جداً في تعاملهم - بما يفوق التصور - عما هم عليه الآن. أخوك الإنسان يا أخي صورة مقدسة عظيمة الشأن، فتعامل معها بمنتهى الرقي والحذر، ولا تحتقر أحداً فتهلك نفسك بنفسك، إياك ثم إياك، وتقول سأُرْضي الله بأن أصلي وأصوم، بل رضاه في تعاملك مع خلقه، وسائل لترقية أخلاقك وتهذيبها، وأخلاقك الحسنة في التعامل مع خلق الله ستجعلك أقرب الناس مجلساً من رسول الله ص وليس الصلاة ولا الصيام، كما ورد في الحديث: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)، هذا هو ديننا.. ليست العبادات هي الهدف، ومع ذلك فالله غائب عنا فيها، غائب عنا في صلاتنا في صومنا في حجنا في معاملاتنا في سلوكنا في أخلاقنا، حتى وقعنا في العجب ونسينا قوله تعالى (والله خلقكم وما تعملون) ووقعنا في الشرك الخفي والأخفى، ولذلك نقع في المعاصي، لأن سبب المعاصي: الوقوع في العجب أو الشرك، قال رسول الله ص (لولا أن ابن آدم يعجب بعمله لعُصم من الذنب) يقول العبد فعلت وفعلت، وحتى وإن لم يقل: يكون العمل معجبا به بينه وبين نفسه ويراه في الداخل، وفي الحقيقة أن الله تعالى لا يريد العمل وإنما يريد الصفات والأخلاق الإلهية أن تظهر على عبده. الأمر الثالث: سوف يكف السلفيون والملحدون عن بحثهم عن الله في السموات والمجرات، ويعلموا أن من أسمائه (الظاهر) وأنه ما خلق الدنيا إلا لكي يظهر، وأنت يامن تبحث عنه: ما أنت إلا مظهر.
* هناك نقطة هامة نسيت أن أذكرها في المقال السابق وهي: أن ظهور صفات الله تعالى في الأنفس ينقسم إلى قسمين كذلك، وهما: 1- الصفات الخَلْقية: كالحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة والقدرة والعلم، وهذه هبة ومنحة إلهية يشترك فيها كل الناس مؤمنهم وكافرهم، ولذلك وقف رسول الله ص لجنازة يهودي حتى توارت، فقيل يا رسول الله: جنازة يهودي! فقال: (أليست نفساً) ؟. فرسول الله ص والأنبياء وكمل الأولياء يشهدون المعاني لا المباني، فهذه النفس - أيا كان صاحبها - فيها أنوار الأسماء والصفات ظاهرة فيها. 2- الصفات الخُلُقية: كالحِلم والأناة والعفو والمغفرة والمسامحة والصبر والحب والإيثار والكرم والشجاعة والفتوة والنجدة الخ، وهي التي نحن مطالبون بالتخلق بها حتى نكون صورة من سيدنا رسول الله ص وأهل بيته، فهي محل التكليف والإمتحان، وبالتخلق بها يحصل معنى العبادة كما قال تعالى (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً..) الآيات، هؤلاء الذين يمتلأون بالحب والسلام والخير والإستقامة والصدق: هم عباد الرحمن، الذين تخلقوا بأخلاقه حتى صاروا صورة حقّيّة منه سبحانه، فهو غيب مطلق باطن، لكنه (الظاهر) بهؤلاء الصفوة الذين لأجلهم خلق كل شئ وسخر لهم كل شئ، وخلقهم لأجله هو، ولذلك كان إمامهم وسيدهم رسول الله الذي يمثل الصورة الكاملة والمظهر الأكمل المراد من قبل الحق تبارك وتعالى، ولولاه ما خلق الله آدم وبنيه: (ولولا محمد ما خلقتك)، بل ما خلق الله الدنيا (ولولاك يا محمد ما خلقت الدنيا) (لولاك ما خلقتُ الأفلاك).
قال الملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" 1/295: ( حديث لولاك لما خلقت الأفلاك ) قال الصغاني إنه موضوع (2) كذا في الخلاصة, لكن معناه صحيح فقد روى الديلمي عن ابن عباس مرفوعا : أتاني جبريل فقال: يا محمد لولاك ما خلقت الجنة ولولاك ما خلقت النار، وفي رواية ابن عساكر: لولاك ما خلقت الدنيا) وقال في "الرد على وحدة الوجود" (1/69): (ثم لما كان نبينا أكمل بني آدم بل وأفضل أفراد العالم ورد في حقه: لولاك لما خلقت الأفلاك فهو إنسان العين وعين الإنسان)اهـ وفي الشريعة للآجري في باب (ورفعنا لك ذكرك) (ج 3 / ص 50): (فأوحى الله عزوجل إليه : يا آدم ، وعزتي وجلالي ، إنه لآخر النبيين من ذريتك ، ولولاه ما خلقتك، قال محمد بن الحسين الآجري : وقد روي عن ابن عباس أنه قال : ما خلق الله ولا برأ ولا ذرأ أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وما سمعت الله عزوجل أقسم بحياة أحد إلا بحياته صلى الله عليه وآله وسلم قوله عزوجل (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) قال : وحياتك يا محمد ، إنهم لفي سكرتهم يعمهون) اهـ وفي البحر المديد لابن عجيبة (ج 6 / ص 30) : (وعَجبوا أن جاءهم مُّنذر منهم) رأوا أنفسهم خالية عن مشاهدة الغيوب ، وإدراك نور صفات الحق ، فقاسوا نفس محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنفسهم ، ولم يعلموا أنه كان نفسَ النفوس ، وروحَ الأرواح ، وأصل الخليقة ، وباكورةً من بساتين الربوبية. يا ليتهم لو رأوه في مشاهدة الملكوت ، ومناصب الجبروت ، إذ خاطبه الحق بلولاك ما خلقتُ الأفلاك) اهـ وتفسير ابن عجيبة الشاذلي من أروع تفاسير الصوفية بعد تفسير (أسرار القرآن) للإمام المجدد أبي العزائم. وينقل أبو طالب المكي قائلاً: في أخبار داود عليه السلام: (إني خلقت محمد لأجلي, وخلقت آدم لأجل محمد, وخلقت جميع ما خلقت لأجل ولد آدم, فمن اشتغل منهم بما خلقته لأجله حجبته عني, ومن اشتغل منهم بي سقت له ما خلقته لأجله) قوت القلوب في معاملة المحبوب ص 696، 975 وقال الإمام ابن حجر الهيثمي: (إن الله لما خلق الدنيا بأسرها من أجل النبي جعل دوامها بدوامه ودوام أهل بيته؛ لأنهم يساوونه في أشياء مر عن الرازي بعضها؛ ولأنه قال في حقهم: اللهم إنهم مني وأنا منهم؛ ولأنهم بضعة منه بواسطة أن فاطمة أمهم بضعته، فأقيموا مقامه في الأمان) الصواعق المحرقة (2/ 448) ويقول ابن تيمية: (والله تعالى اظهر من عظيم قدرته وعجيب حكمته من صالحى الآدميين من الأنبياء والأولياء ما لم يظهر مثله من الملائكة حيث جمع فيهم ما تفرق في المخلوقات فخلق بدنه من الأرض وروحه من الملأ الأعلى ولهذا يقال هو العالم الصغير وهو نسخة العالم الكبير، ومحمد سيد ولد آدم وافضل الخلق وأكرمهم عليه ومن هنا قال من قال: إن الله خلق من أجله العالم أو انه لولا هو لما خلق عرشا ولا كرسيا ولا سماء ولا ارضا ولا شمسا ولا قمرا.. و إذا كان أفضل صالحي بنى آدم: محمد، وكانت خلقته غاية مطلوبة وحكمة بالغة مقصودة اعظم من غيره، صار تمام الخلق ونهاية الكمال حصل بمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.. فإذا كان الإنسان هو خاتم المخلوقات وآخرها وهو الجامع لما فيها، وفاضله هو فاضل المخلوقات مطلقا، ومحمد إنسان هذا العين وقطب هذه الرحى وأقسام هذا الجمع كان كأنها غاية الغايات في المخلوقات فما ينكر أن يقال انه لأجله خلقت جميعها وانه لولاه لما خلقت، فإذا فسر هذا الكلام ونحوه بما يدل عليه الكتاب والسنة: قُبل ذلك) مجموع الفتاوى 11/ 96 (3)
____________________________________________________________________________________ (1) يقول الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسير (التحرير والتنوير) عن هذه الشجرة أنها: شجرة مرئية لآدم وزوجه ، والمراد شجرة من نوعها أو كانت شجرةً وحيدة في الجنة. وقد اختلف أهل القصص في تعيين نوع هذه الشجرة فعن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها الكرمة ، وعن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة، وعن قتادة وابن جريج ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين. ووقع في سفر التكوين من التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر). اهـ هذه الأقوال مكذوبة على مفسري الصحابة، لأنه لم يكن أحد منهم معروفاً بالإطلاع على صحف أهل الكتاب إلا عبد الله بن عمرو بن العاص، وشجرة التين أو شجرة الكرْم: نص الإنجيل على أنها الشجرة التي صادفها المسيح في طريقه – على روايتين – فلعنها فيبست ولم تثمر بعد، فلماذا يتنقل نفس المسميان إلى تفاسيرنا إلا إذا كان نقلاً ونسخاً ؟ الواقع أن المفسرين ظلموا القرآن العظيم وسخفوا معانيه وحقائقه الكبرى، وهو مما يقولون براء. فكل ذي ذوق إذا قرأ الكتب المقدسة يجد الفرق كبيراً بين القرآن وبين التوراة والإنجيل الحاليين، حيث تجد الإهتمام بالتفاصيل الهامشية والتركيز على الأشياء، بينما يركز القرآن على الأفكار والحقائق الكبرى من إقامة الحق والعدل والقسط ومنع الظلم، فأي جناية على القرآن جناها المفسرون حينما عكسوا الأمر قلبوه رأساً على عقب، فجعلوا الشجرة في التوراة هي شجرة المعرفة، وفي القرآن العظيم هي شجرة الحنطة أو التين أو العنب ؟! إن الإنشغال بالسفاسف والأشياء والمادة دون المعاني التجريدية والحقائق العميقة: كان من طبيعة البشرية في أطوارها الأولى قبل البعثة المحمدية، فحينما جاء رسول الله ص نقل البشر - في معرفتهم بالله - نقلة نوعية من طفولة التشبيه إلى نضج التنزيه، ولم يكونوا يستوعبون أو يفهمون قبل ذلك فكرة وجود ذات بلا جسم وصورة، فعالم الأشياء يقوم على الماديات والملموسات بالحواس الخمس؛ لذلك كان الإنسان البدائي أقرب شيء إلى الأشياء من أي عالم آخر. وكان العالم من حوله عبارة عن أشياء يرجو بعضها ويخشى بعضها وربما عبد بعضاً منها. وهذه هي طبيعة عقلية الطفل الرضيع، فهو لا يفهم المعاني المجردة كالإخلاص والأمانة والصدق والعدل والحرية الخ، لأن هذه المعاني المجردة تحتاج إلى خوض تجارب تكشف عن حقيقتها للعقل كي يفهمها، وأما بدون خوض التجارب فلن يفهمها. يقول المفكر المعروف "مالك بن نبي": أن الإنسان يدور – بحسب نضجه الفكري - بين ثلاثة عوالم: عالم الأشياء، وعالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وهو يتدرّج في دخول هذه العوالم منذ الصغر، فيدخل أوّل ما يدخل إلى (عالم الأشياء) بعد الولادة، من خلال حواسه الخمس يتحسس ما يحيط به ابتداء من أمّه و صولاً إلى ما تصل إليه يديه. ثم يدخل عالم الأشخاص عندما يرتبط الطفل بأمّه و أبيه وإخوته فتقوى عاطفة البنوّة والأخوّة والصداقة، فيتأهل لدخول (عالم الأفكار) حين يتقدم في مراحل تحصيل المعرفة.. وعالم الأفكار عند مالك بن نبي هو الذي تتقدم به الأمم وتقوم به الحضارات، وهنا يعود سوس الوهابية لينخر في جسد الأمة قائلين أن الإسلام لا يقدس الأشخاص وإنما يقدس الأفكار، وقد سبق لنا الرد عليهم وبيان جهلهم بأن أهل البيت يمثلون أفكاراً وقيماً ومبادئ عظيمة، بها نحيا ونسعد، وفرق كبير بينهم وبين تقديس حاكم طاغية أو كاهن مشعوذ مثل سلفية اليوم. بيت القصيد من هذا كله: أنه إذا كان للأولين عذر في رؤيتهم لشجرة آدم أنها شجرة التين أو الحنطة من عالم الأشياء – مع أنه ورد في التوراة أنها شجرة المعرفة، فهل لنا عذر في أن نتابعهم على هذا حتى الآن ؟ وقد يقول قائل العبارة المعتادة المالوفة: أن هذه أمور هامشية وقصص "لا تؤثر في العقيدة"، ونقول: أن حصر العقيدة في مجموعة المسائل الجافة المكرورة التي يتناولها أهل المتكلمون والسلفية، لا يفيد علماً بالله ولا نوراً في القلب، والشجرة لو كانت شجرة عنب فعلاً لكان لقول هذا القائل (أن هذه أمور هامشية) وجه معتبر من الصحة، ولكنها ليست كذلك لأن القرآن أبدأ وأعاد فيها في عدة مواضع، والقرآن حينما يكرر شيئاً عدة مرات فاعلم أنه يعظمه، وأن ورائه مصلحة عظيمة لنا من العلم به سبحانه أو بأيامه، وإن لم تكن العقيدة من القرآن دون وسائط ففي عقد القلب عليها نظر! وكم من العقائد التي نحن مكلفون ومطالبون باعتقادها في الله ورسوله ص وأهل بيته، ولا محل لها في كتب العقائد، ولكن تجدها في كتب التصوف. والعلم النافع هو ما أصلح قلبك، وليس هو عبارة عن جهاز كمبيوتر أو قرص صلب تحشوه معلومات ثم تسمي هذا علماً! الله لا يريد منا هذا، العلم علم القلوب والجهل جهل القلوب، ولو كان صاحب القلب الجاهل يحفظ القرآن ومئات الألوف من الأحاديث والمتون والأراجيز والألفيات ثم لم يؤثر هذا في أخلاقه وانصلاح قلبه: لسمي عند الله جاهلاً، لأن العلم باختصار هو أن تعرف نفسك (أنك عبد عدم مفلس لا تملك حتى صفاتك) وتعرف ربك (أنه هو الرب المنعم المتفضل المتجلي عليك بكل ما تتمتع به من حياة وسمع وبصر وكلام وعلم وقدرة وإرادة الخ الصفات التي تعيش بها) هذا هو مربط الفرس الي يحوم حوله فحول العلماء بالله، وقد علمنا رسول الله ص مراراً وتكراراً قاعدة مفادها: (ولكن ينظر إلى قلوبكم) (ولكن يناله التقوى منكم).. افهم عن الله مراده، فهذه ليست قصة وإنما افتتاح مسيرة البشرية ومشوارها الطويل، فإن كنت لا تبالي بأن تعرف حقيقة معصية آدم، فاعلم أنك لا تبالي بصلتك بالله! ويجب عليك أن تعيد (برمجة) تفكيرك التراثي: أن العلم يتلقى من كتب المتكلمين والفقهاء، فإن العلم هو الخشية كما قال ابن مسعود: (كفى بخشية الله علما)، والخشية من أعمال القلوب، والقلوب ليست من اختصاص الفقهاء وإنما اختصاصهم الجوارح، ولا المتكلمين لأن اختصاصهم النظر العقلي، ولكن يختص بالقلوب الصوفية وحدهم، فهم فرسان هذا الميدان، ولذلك لن تجد العلم عند غيرهم إلا قشوره وفتاته بالكاد، بينما ماهو مسطور في كتب الصوفية لا يمثل ماتحمله قلوبهم من فيوضات وعطاءات، وإنما هو غيض من فيض. (2) عدم ورود أحاديث صحيحة في هذا الباب ونظائره أمر طبيعي، لأن علوم الحقائق محلها الصدور لا السطور، وللخصوص لا العموم، ومن الأخطاء الشائعة في زمن المادة أنه لا يوجد علم إلا وهو مدون في الكتب، وهذا خطأ فادح، بل مافي الكتب إلا جزء يسير من العلم الحقيقي بالله، وهذه حكمة بالغة لله تعالى رحمة بهذه الأمة المرحومة وصوناً لها من الإنكار (حدثوا الناس بما يعقلون أتريدون أن يكذب الله ورسوله) ؟ لأن هذا علم مخصوص لا يصلح إلا للخصوص، يقول الإمام أبو العزائم في (أصول الوصول إلى معية الرسول): وعند أهل هذا العلم- وهو العلم بالله تعالى- أن علمهم مخصوص لا يصلح إلا للخصوص، والخصوص قليل، ولم يكونوا ينطقون به إلا عند أهله، ويرون أن ذلك من حقه، وأنه واجب عليهم كما وصفهم على كرم الله وجهه في قوله: حتى يودعوه أمثالهم ويزرعوه في قلوب أشكالهم، كذلك جاءت الآثار عن نبينا وعن سيدنا عيسى عليهما الصلاة والسلام: (لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، كونوا كالطبيب الرفيق الذي يضع الدواء في موضع الداء) في لفظ آخر: (من وضع الحكمة في غير أهلها جهل، ومن منعها أهلها ظلم، إن للحكمة حقاً وإن لها أهلاً وإن لأهلها حقاً، فأعط كل ذي حق حقه) وفي حديث عيسى صلاة الله وسلامه عليه: (لا تعلقوا الجـوهر في أعناق الخنازير، فإن الحكمة خير من الجوهر، ومن كرهها فهو شر من الخنزير). وهذا النوع من العلوم قد اندرس في زماننا ولا يوجد إلا عند الإمام الوارث، يقول الإمام أبو العزائم: (وقد كان للمتقدمين علوم يجتمعون عليها ويتفاوضونها بينهم قد درست في زماننا، ولليقين والمعرفة معان وطرائق يسلكونها ويسألون عنها قد ذهبت في وقتنا، وكان للصالحين مقامات وأحوال يتذاكرها أهلها، ويطلبون أربابها، قد عفت آثارها عندنا لقلة الطالبين لها، ولعدم الراغبين فيها، وفقد العلماء بها، وذهاب السالكين في طرقها منها طلب الحلال، وعلم الورع في المكاسب والمعاملات، وعلم الإخلاص، وعلم آفات النفوس، وفساد الأعمال، والفرق بين نفاق العلم والعمل، والفرق بين نفاق القلب ونفاق النفس، وبين إخفاء النفس شهواتها وإخفائها ذلك، والفرق بين سكون القلب بالله، وسكون النفس بالأسباب، والفرق بين خواطر الروح والنفس، وبين خاطر الإيمان واليقين والعقل، وعلم خلائق الأحوال، وأحوال طرائق العمال، وتفاوت مشاهدات العارفين، وتلوينات الشواهد على المريدين، وعلم القبض والبسط، والتحقيق بصفات العبودية، والتخلق بأخلاق الربوبية، وتباين مقامات العلماء إلى غير ذلك مما لا نذكره من علم التوحيد ومعرفة معاني الصفات، وعلوم المكاشفة بمجلى الذات، وإظهار الأفعال الدالة على معاني الصفات الباطنة، وظهور المعانى الدالة على النظر والإعراض، والتقريب والإبعاد، والنقص والمزيد، والمثوبة والعقوبة، والاجتباء والاختيار. وإذا علم القلب بالحب واليقين والكشف والتمكين وفقه أسرار الدين، بما تلقاه الإنسان من العلوم النافعة التي فرضها عليه رسول الله ﴿-;---;-----;-------;---------;-----ص وآله﴾-;---;-----;-------;---------;----- ولم يتلق غيرها من العلوم التي بها اعتدال اللسان، والشهرة والسمعة والمنافسة في معرفة الأمراء والوزراء والطمع في الوظائف، ومزاحمة كلاب الدنيا، كان صاحب هذا القلب الذي علم ما فرضه رسول الله ﴿-;---;-----;-------;---------;-----ص وآله﴾-;---;-----;-------;---------;-----، وجهل ما زاحم فيه أهل الدنيا، على الصراط المستقيم، من خاصة أهل اليمين، وقد يرفعه الله إلى مقامات المقربين ، ولم يكن أحد أعلم من إبليس، وكم أضل الله قوماً على علم لم يصافهم بعلوم اليقين، ولم يجتبهم للفقه في الدين، ولم يقمهم عمالاً له سبحانه. قال الله تعالى: ﴿-;---;-----;-------;---------;-----وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا﴾-;---;-----;-------;---------;----- إلى آخر الآية، فالعلم بالله لا يلزمه تلك العلوم، وكم من أعجمي عرف ربه وعربي عالم بجميع العلوم جهل نفسه. وشتان بين من عرف نفسه فتجمل بجمالها الحقيقي لربه، ومن جهل نفسه فتعزز برذائل الأخلاق من الكبر وتعظيم نفسه، واحتقار الخلق في نظره، وذم عمال الآخرة، ومدح أهل الدنيا، والغرور بعلمه، وجاهه، ومنصبه، وماله، وضياع الأوقات في التزلف للحكام، والتملق لهم طمعاً في جاه أو منصب، أو علو في الأرض بالباطل). (3) قوله: (فإذا فسر هذا الكلام ونحوه بما يدل عليه الكتاب والسنة: قُبل ذلك) يذكرنا ابن تيمية كالعادة ببطل رواية (دون كيشوت) ذلك الشاب الذي يدعي معرفة كل شئ ويظن أنه كذلك، وهو ليس كذلك في حقيقة الأمر، لا سيما حين يدور في ميدان التصوف، لأن هذه علوم كشفية لدنّيّة، تُنال بالمجاهدات وتصفية القلوب وليست لكل أحد، ولا يصدقها ويؤمن بها إلا أهلها من أهل الإيمان الفطري، وأما ابن تيمية فليس من أهل مقام (واتقوا الله ويعلمكم الله) ولذلك فعلمه كسبي لا كشفي، لأنه ليس من أبناء الطريق ولم يسلك على يد شيخ مربي، وإنما قال هذا الكلام الطيب أعلاه نقلاً مخلاً بالمعنى عن "الفتوحات المكية" للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، فقد كان يطالعها ويتعلم منهاومن كتب الشيخ محي الدين - على قدره - يقول: (وإنما كنت قديما ممن يحسن الظن بابن عربى ويعظمه لما رأيت فى كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من الفتوحات والكنة والمحكم المربوط والدرة الفاخرة ومطالع النجوم ونحو ذلك ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده ولم نطالع الفصوص ونحوه وكنا نجتمع مع اخواننا فى الله نطلب الحق ونتبعه ونكشف حقيقة الطريق.. ) ( الفتاوى 2/464) ومجرد قوله: (ونكشف حقيقة الطريق) ينبيك عن جهله بالطريق، لأن التصوف علم تراكمي كغيره من العلوم، فهل ابن تيمية سيخترع العجلة ويبدأ من الصفر كما يظن ؟ هو ليس بنبي ولا إمام مجدد، بل مثله مثل غيره، والطريق لها أصول أولها ومفتتحها اتباع الشيخ المربي، وهذا بمثابة رخصة المرور، فإن ملكتها جزت وسلكت الطريق وارتقيت وتزكت نفسك وتطهر قلبك من بلاياه وفواقره، وبدأت تشرق فيه الأنوار ويعقل عن الله ورسوله مراده، وإلا فلا تتعب نفسك.. كان يحسن الظن بالشيخ محي الدين إلى أن قرأ كتاب الفصوص.. ألقى العصفور بنفسه في حمى النسور، وضاقت حوصلته عن حمل علوم القوم فكفرهم! لأنه غريب عن مدينة العلم وفقيه ليس بصوفي ولا شيخ له، ولهذا حتى مع قرائته الصحفية لكتاب الفتوحات المكية فهو لم يفهم نظرية ظهور وتجلي الله في مخلوقاته على فطريتها وبساطتها، لأن القابل غير موجود.
#محمد_عبد_المنعم_عرفة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسائل إلى الدكتور عدنان إبراهيم [1] حكمة خلق الإنسان وإيجاد
...
-
أُحِسُ حيال عينيكِ.. بشئ داخلي يبكي
-
قانون الكارما.. محكمة العدل الإلهي
-
فن الإستمتاع بالحياة [3]
-
رحمة الصوفية (إهداء للعزيزة الكاتبة فاطمة ناعوت)
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [19]
-
الحج والجهاد في الإسلام.. رؤية الإمام المجدد السيد محمد ماضي
...
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [18]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [17]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [16]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [15]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [14]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [13]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [12]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [11]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [10]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [9]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [8]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [7]
-
الإمام المجدد السيد محمد ماضي أبو العزائم.. سيرة وسريرة [6]
المزيد.....
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|