|
فيلم من ضهر راجل يُجسِّد العجز بين لكمتيّ قوَى
إيرينى سمير حكيم
كاتبة وفنانة ومخرجة
(Ereiny Samir Hakim)
الحوار المتمدن-العدد: 5178 - 2016 / 5 / 30 - 04:09
المحور:
الادب والفن
يُعَد فيلم من ضهر راجل، واحد من أهم الأفلام الفارقة فى تاريخ السينما المصرية الحديثة، ومن الأفلام التى تستحق ان تؤخذ بعين الدراسة والتشريح النقدى، وحيث أن أهم ما يتميز به هذا العمل هو الدقة فى كافة تفاصيله، والتى جعلت الثغرات الموجودة فى اى عمل فنى فيه ضعيفة وقليلة، فقد أصبح هذا العمل مميز ومختلف عن العديد من الافلام الاخرى التى أُنتِجَت حديثا، ولهذا يسعدنى كتابة وتقديم هذا المقال التحليلي والبحثي لأهم جوانب هذا العمل الخاص.
الدقة فى الأداء التمثيلى ****************** • الفنان القدير محمود حميدة ***********************
الذى تفتقد المعرفة العالمية لموهبته، قد قدم الدور بعمق ضارب فى تفاصيل تلك الشخصية المعقدة والمركبة بشكل كبير، فقد تطلب تجسيد دور الاب تحقيق تناقضان، احداهما على المستوى الجسدى اما الاخر على المستوى النفسى، فهو أب شيخ فى الستينات من عمره وفى نفس الوقت يحمل جسديا قدرة قديمة على القتال وعافية ليست ذابلة تماما، اما عن المستوى النفسي فحمل بها تناقض ما بين منهجية بلطجى قديم يستخدم العنف لكسب القوت، وبين حالة لإنسان جدد ذهنه وخطواته وظل لسنوات طويلة إمام لمسجد، فعلى المستوى الجسدى حقق معادلة الشيخ القوى وعلى المستوى النفسي حقق توازن إنسان تائب تتصارع بداخله بعض الرغبات الانتقامية التى لم يكن حينها يجرؤ اختياريا على تحقيقها.
• الفنان آسر ياسين ****************
جاء اداء هذا الفنان فى عزلة تامة عن التقليد او التأثر باداءت فنانين سابقين او غربيين للتعبير عن بعض ملامح تلك الشخصية، خاصة وانها شخصية حساسة تخدع المتفرج للوهلة الاولى انها تتشابة مع شخصيات قدمت فى افلام عديدة اخرى، الا ان الحقيقة انها شخصية لها قدر كبير من الخصوصية والتكوين الفريد، ولقد جُسدَّت باداء خاص كذلك، حتى ان التفاصيل الدقيقة كانت حرة تماما من اى صبغة اخرى غير اداؤه الخارج من الاجتهاد الشخصى لممارسة موهبته هو فى تقديم تلك الشخصية الصعبة والدسمة التركيبات النفسية والتحولات الاخلاقية المملوءة بالهواجس والوقائع، ويتبين كم استطاع ان يجسد تلك التناقضات على ملامحه دون مبالغة او تهويل، وعكسها بتعبيرات تعطى انطباعات غير مباشرة وهذا تحقيقه اصعب بكثير، فعندما كان رحيم رحيما كان يبدو كم ملامحه مستريحه، ويبدو هذا التعبير اوضح حينما يأتى التباين مع ملامح رحيم الذى تحول لقاسي متجهم الوجه والذى اعطى انطباع كم هو تشوه داخليا وكأن دمه صار أَسوَد!.
كما يتبين الجهد الكبير الذى بُذل خلف هذا الاداء من تدريبات بدنية تُظهر مصداقية الانطباع لدى المشاهد على شخصية رحيم بأنه بطل ملاكمة بالفعل، وكيف كان التركيز على دواخل وفروقات الشخصية المتشعبة التنقلات النفسية والدرامية، حتى ان طريقة ضربة اليد للملاكمة لم تكن مصطنعة لاضفاء تاثير درامى يلجأ اليه المراهقون من الممثلين للتعبير عن انفعال ما فى الشخصية او ملمح منها، ولقد اعتمد كليا على استغلال كافة وسائل التعبير بتوازنات حقيقية دون مبالغة فى اى منهم، وهذا ما يتميز به الفنان آسر ياسين بشكل عام، وهو حفاظه على بصمته الخاصة فى التعبير وهذا ما يندر فى اداء الممثلين الشباب حاليا، والذين لا يخلو مجمل تعبيرهم من التأثر بهذا الفنان او ذاك.
• الفنان وليد فواز والذى قدم دور البلطجى بنكهته الخاصة والتى تتسم بخفة دم بصبغته هو، والتى استطاع ان يقدمها بمهارة عالية دون ان ينُشذ عن متطلبات الدور بالرغم من جميع المعطيات النصية والاخراجية التى تشكل تلك الشخصية بثقل دم كبير حتى تكون شخصية مكروهة تماما وسببا لنفور المشاهد الذى لا مهرب لديه من شرها، حتى يقدم لها عذر معنوى يبرر لها احدى جرائمها، فكان بالرغم من خفة الظل التى يعطيها للمُشاهد فى خطوط رفيعة من التعابير، إلا انه يحتفظ بحالة الكُره التى يتلقاها من المشاهد، واعتقد ان هذا كان اكثر مما تطلبه الدور وقد حقق له إضافة ايجابية أعطت العمل ككل قدرا من اللطف فى الاحداث، وقد كان إتقانه لهذا الدور مُدرِكا للتفاصيل جيدا حتى ان نطقه لاسم "رَحيم"، قد تميز به منفردا باداء لفظى خاص، حيث كان حريصا على نطقه "رُحيِّم"، مهمشا معناه الحقيقي والطريقة السلسة فى التعبير كبقية من ينادونه به، مؤكدا على فهلوة خاصة فى النطق وتقليل فى المعنى.
• الفنان شريف رمزى ******************
كان اداء دوره فى هذا العمل هو بمثابة انطلاقة ابداعية حقيقية له، فجاء اداؤه متسما بنضج فنى يحمل صقلا خاصا فى موهبته يميزه عن بقية الادوار التى قدمها قبلا، وبعيدا تماما عن تقليدية اداءاته السابقة التى قدمها عن الشخصية الشريرة او السلبية، فقد قدم السهل الممتنع بأداء يعكس اجتهاد تم فى كواليس تقمصه للدور، حيث دراسة ليست بقليلة حول ماهية الشخصية التى يقدمها، وما تحمله من سمات شخصية تكونت من ابعاد نفسية تشعر بها، نتجت عن معاناة مَرضية تكتلت على مدار سنوات، والتى لم نراها فى سرد احداث العمل انما رأيناها فى تعابير وجهه، التى عبّرت عن صراعات نفسية مزَّقت نفس هذا الشخص لسنوات طويلة جعلت منه هذا المتكتم الصارخ بعنفه الشخصى المتمثل فى صمت الافاعى!.
• الفنانة ياسمين رئيس ******************
كانت تجسد دور انثى قوية ثابتة الشخصية، انما متذبذبة الانفعالات والتفعالات تجاه ما يخص حبيبها، فحملت الشخصية تشابكا نفسيا متعدد الاتجاهات استطاعت ان تُعبِّر عن تعقيداته بسلاسة، وكان من اقوى مشاهدها فى العمل مشهد ابلاغها لحبيبها بحملها منه، فقد تطلب هذا المشهد تحقيق تناقضات مشاعر تجاهه على وجهها، وحفاظ نبرات صوتها على الحديث بقسوة فى الحوار، ذلك مع إبقاء المُشاهد على انطباع انها مازلت تحبه وهذا ما لا يتضمنه النص انما التعبير التمثيلى وحسب.
• الفنان صبرى فواز *****************
لقد كان توظيف استخدام حركات زوايا الرأس كفيل بالتعبير عما تكنه تلك الشخصية من اعتبارات نفسية ومفاهيم سلطوية تنعكس على ارتفاعات وجهه وانخفاضاته، حيث الكبرياء والحزم والخبث والتربص يظهرون من بين تعابير وجهه المتقلب الحركة حسب نياته المختلفة، وهو لأسلوب خاص اتبعه فى التنفيذ التشريحى النفسي لتجسيد تلك الشخصية مستخدما فيه بمهارة لغة الجسد، ولقد بعث من خلاله بالرسائل المدونة على الورق بطريقة سلسة اجاد التكلم عن الشخصية بواسطته، كما حرص على استخدام مساحة محددة من طبقة الصوت لا تصل الى أبدا الى الارتفاع سواء فى حالات غضبه او هدوءه، تعبيرا عن الثقة المفرطة التى كان ينعم بها هذا الضابط الفاسد، ولم تصل تلك الطبقة الى الحدة والضجيج سوى فى مشاهد محاصرته لخاطفى ابنه، مفعلا بذلك التناقض والذى كان بمثابة كشاف تم تسليطه على الحالة الوحيدة التى رضخت امامها ثقة هذا المسئول الظالم.
• الفنان محمد لطفى ****************
وكأن هذا العمل يُعَّد الظهور الاول للاستغلال الدرامى الحقيقى لخبرة الفنان محمد لطفى الرياضية، والتى من الواضح انه اطلق معها جميع خبرات السنين التمثيلية السابقة، والتى استهلكها كثيرا فى اعمال اقل بكثير من قدراته، فلم يكن معه النص المتيح له هذا العمق فى التعبير ولا توفير الاجواء الاخراجية المناسبة لتحريرها، لذا كان حضوره فى هذا الدور زاهيا بشدة حتى انه ادى كما لم يؤدى من قبل بكل تلك الشمولية فى التفاصيل والقدرة الكبيرة على الالمام بالدور والتحكم فى ابقاء التوازن بين الرياضة والتمثيل، ولم يغلب حضور احد منهما على الاخر فى تجسيده للشخصية هنا.
• الفنان يوسف عثمان ******************
والذى جسد دور ابن الضابط الفاسد، ولقد اعتمد دوره على مساحة كبيرة من الصمت مع أداء النصف وجه، حيث كان مكمم الوجه وكان المطلوب منه استخدام النصف الاعلى فقط من وجهه بتعبيرات العينين وانفعالات الجبين المختلفة، ليعبر عما يفكر فيه من تناقضات نفسية وفكرية تعرض لها حين كان مخطوفا، فكان هذا هو نَصه الاساسى من سيناريو العمل، ولقد اجاد التعبير به مستخدما ملامحه المتسائلة والمذعورة بطيبة وغضب.
تصميم المعارك *************
والتى صممها كل من المصممين أندرو ماكنزى وعمرو ماكيفر، ومن الجدير بالذكر التماهى التام لتصميم المعارك فى الاتقان العام لتفاصيل العمل وذوبانها فى بوتقة البيئة العامة للفيلم والتى تندرك تحت بند البلطجة، وانما البلطجة الخاصة بهذا العمل فهى لها طابع خاص، لا يعتمد على حرب الاسلحة البيضاء كبقية الافلام ولا يسلط فيها الضوء سوى على القوى البدنية وحرب العنف السلطوية فى نفوس "حرافيش" العصر فى ثوبهم الجديد.
ومن اهم ما تميز به تصميم المعارك الخاص هو ما تعلق بطريقة العراك لشخصية "رحيم"، لشخص أُجُتر لدخول معارك "شوارعية"، وهو فى الاصل كان بطلا للملاكمة، وقد تم التصميم الحركى على هذا الاساس، وهو شئ جدير بالملاحظة والاشارة اليه، فلم يكن هناك ضربة واحدة تتنافى مع طباع هذا الشخص، فلقد صممت على اساس دراسة لشخصية هذا الرجل، فانتقلت جميعها من اداء العنف الايجابي الى اداء العنف السلبي انما تحت غطاء انفعال نفس الشخص بنفس معطيات قوته البدنية ومفاهيمه الرياضية.
الموسيقى التصويرية والتوظيف الدرامى *********************************
قدَّم الفنان عمرو اسماعيل مشاعر منغمة انسابت بمعانى لحنية من بين تفاصيل العمل، ولقد جسد المشاعر المختلفة بتناقض بليغ فى الاحاسيس الموسيقية واستطاع ان يترجم اقصى معانى العجز واقصى معانى العنف بقدرة كبيرة، وكان لضربات الميتال اللحنية توظيف درامى متميز جدا، حيث كانت تصاحب المَشاهد كصعقات كهرباء متقطعة، والتى كانت تصيب الموسيقى التصويرية اثناء تجسيد مشاهد تُعبر عن العنف التحولى لشخصية ما.
ولقد كانت ضربات الميتال فى انسب حضور لها، على سبيل المثال، فى مشهد حيرة رحيم امام كيس الملاكمة، بعد زواج حبيبته ومعرفته بانها مازالت تعشقه ووقوفه امام هذا الكيس، متحيرا ذهنيا بين قرارى تنفيس انفعاله، حيث يتنازع نفسه ملاكمة بين قوتين، وهما قوته الفطرية التى اعتاد ان يعبر عنها بنبل حينما كان ملاكما فيُطلِق طاقته وقوته بشرف، والقوة الثانية هى قوة الشر الذى اجتاحه ليعبر عما بداخله من غضب فى قوة غضب جنسى يطلقها حيث يبتلع قرص يُشرِد طاقة ارادته وقوته التى لوثها بإنتهاك شرف حبيبته بعدئذ.
فكانت ضربات الميتال مع هذا التجسيد النفسي تعكس تحفيز أعماق نفسه المشوهة، كزيارات جحيمية على رأس هذا الحائر التعيس وكأن الشيطان يئن فى رأسه.
الكتابة *****
بالرغم من أن أركان العمل كانت توفر معطيات بإمكانها أن تعطى نتائج أفلام البلطجة التقليدية، المُقدَمَة فى الفترة الأخيرة من إنتاج السينما المصرية، إلا أن الكاتب محمد أمين راضى تمكن من أن يَخرج لنا بنتائج مختلفة تماما، فالبلطجة لم تكن المحور الرئيسي المقصود، بل ما وراءها من معانى وأغراض فلسفية، فلقد ضفَّر الأبعاد الفلسفية بالواقعية بذكاء، لذا جاء الفيلم اجتماعى من الدرجة الأولى فلسفىّ بامتياز - وهذا ما سيتم شرحه لاحقا -، ولقد جاء النص مُعزِزا لهذا الهدف المزدوج، مُشبَّعا بجُمل وتعبيرات تعكس تجسيد الرسالتين معا، وتبصمهما بنزعة إنسانية، لذا جاء الفيلم مختلفا وله كيانه الخاص، ويستعرض سينمائيا قضايا اجتماعية ليست جديدة، لابتذال تكرارها واقعيا، إنما بطريقة جديدة فكريا وفنيا، وهذا شمل زاوية الفكرة العامة التى تناول منها تلك القضايا، وطريقة تنفيذها وتقسيم مَشاهدها، بطريقة جديدة استهدفت زرع مرايا متعددة الكاميرات لملاقاة اشخاص لا ينتمون لحكاية نفس المشهد، فى مشهد واحد، مما جعل العمل يستعرض أنفاق نفسية واجتماعية بطريقة العصف الذهنى، المُستخدِم لعنصر الرؤية والفكر.
الاخراج *******
استطاع المخرج كريم السبكى ان يَخرُج من فخ الاخراج الامريكى الذى وقع فيه العديد من المخرجين المصريين مؤخرا، خاصة مخرجين افلام الاثارة والاكشن، حيث استخدم دراسته فى الخارج بحرص واحترافية، انما بعيدا عن اسقاط تأثره بلقطات وتوظيف مؤثرات تُحرِّف الاجواء المصرية إلى اجواء غريبة عنا، والتى عادة ما تحول العمل الى مسخ لا يحمل روح هويته الحقيقية، ومع ذلك فيبدو جليا مهارته الاخراجية التى تتسق مع مهارة الاخراج الغربى بشكل كبير ولكن ليس مع روحه، ولقد استغلت مهارته دراميا كل تفاصيل المعطيات الفنية التى اتيحت له من اول قدرات الممثلين حتى الاضاءة وحركة الكاميرا، فلقد جاء هذا الفيلم مصريا خالصا حتى موسيقى الميتال التى زارت مَشاهد العمل لم اجدها نشاذا فى هذا العرض الدرامى الخاص، بل تمصرت بروح الغضب التى طُرِحَت فى بيئة مصرية صريحة، وهذا التوازن الاخراجى يُحسَب له كثيرا!.
حول بعض مشاهد العمل ********************
• مشهد الولادة ************
اما عن حضور الفنانة رانيا يوسف فى العمل والذى لم يتعدى دقائق بسيطة، الا انه كان له قوة حضورية كبيرة خاصة فى مشهد الولادة، حيث مواجهة امرأة لفطرة الولادة بمفردها، فكم هو مشهد مهيب!، والذى يعد من اعظم واهم مشاهد السينما المصرية، ولقد كان بمثابة شباك فى العمل تم الاطلالة منه على معانى اكبر واعمق انسانية لما يحمله من بُعد عميق فى الادمية نفسها، فعندما ترى هذا المشهد تجد نفسك كمتفرج قد تسرب ذهنك لا اراديا الى عالم اخر من المعانى الانسانية والاشارات الوجودية، فجاء مشهد الولادة بمثابة ولادة انطباعات رمزية فى مشاعرك تتصل بفلسفة الخليقة والخير والشر، تُحمل معك الى نهاية العمل حيث تشمل كافة نواحى مكنونات مكونات مَشاهده!.
والذى أجد انه لم ينقصه مصداقية، سوى عدم تناثر الدماء على الارض وفوق جسد هذا المولود!.
• مشهد الاغتصاب ***************
ولقد لاقى هذا المشهد كما ردد البعض نقدا عنيفا لما قُدم به من عنف!، وحقيقة هذا المشهد هو انه لم يُظهر اى عُرى جسدى، بل كان العُرى نفسي، ولم يُقصد به العنف الجسدى انما العنف النفسي، وذلك ليعبر عما وصل اليه حال هذا ال"رحيم" الذى اغتُصِبَت نفسه بداخله قبلا من قِبَل الظلم، وتحول من "رحيم" الى "سادى"، ومن "مجنى" عليه الى "جانى"، وأرى أن مشهد الاغتصاب هذا يبدأ من المشهد الذى يسبقه، حيث مناورته الذهنية لغضبه امام كيس الملاكمة، وان معنى هذا المشهد تم استكماله لاحقا في المشهد الذى جاءت اليه حبيبته واعلمته بحملها ونيتها على اجهاضها لطفلهما، واخبرته كيف تسبب فى اذى لكل فرد فى محيط حياتهما.
فهذا هو المشهد الكامل للاغتصاب، هذا هو المعنى المتكامل له، فبين اغتصاب النفس والجسد تحول "رحيم" الى متوحش، وانجرف بأخطائه ليمارس حبه باغتصاب بعد ان لُطخ داخله بخطايا المجتمع من حوله، فقد استعلن هذا المشهد دوائر قهر يسكر بداخلها مجتمع بأكمله يعمل يوميا على صنع العديد من الضحايا، فيها يتحول الفرد الى مريض فصام، يجرح وينجرح فى نفس الوقت!.
ابداع ما بين ميل جيبسون ووليام بوجيرو *********************************
فى المشهد الختامى حيث نظرة الاب المذبوح معنويا لاجل ابنه المذبوح شبابه واقعيا بالغدر، حيث اقتراب الكاميرا من وجهه والتركيز عليه وحده وملامحه الثابتة، الموجِهه حديثها الى جمهور المشاهدين بالشهادة واللوم وانفجار الالم الصامت بنظرة ثاقبة تتفحص ضمائر المتفرجين، والذى ارى فيه استلهام واضح من مشهد نزول السيد المسيح من على الصليب فى فيلم "آلام المسيح" للفنان ميل جيبسون، والذى بدوره قد استلهمها جيبسون كما صرَّح فى كواليس العمل، من الفنان الفرنسي الرسام ويليام بوجيرو.
حيث نظرة السيدة العذراء التى ذُبح شباب ابنها غدرا، والتى فيها ثبات النظرة الموجهه للمشاهدين، تحمل ألم دفين مكتوم الكلام صارخا بنظرة موَجَهه لضمير الرائى، والتى قد تحمل نفس المعانى تقريبا فى الفيلمين، حيث تشابها فى تجسيدها، بدءا من رفعة حركة الوجه لأعلى ومخاطبة العدسة مباشرة فى هدوء بنفس ايقاع حركة الكاميرا، انما فى اتجاه معاكس، حيث كانت الكاميرا تُرَكَز على وجه العذراء انما تنسحب رويدا رويدا الى الخارج لتشمل معانى يحتاجها هذا الفيلم، من حيث ضرورة اكتمال ايقونة الصليب، والتى تضم شخصيات هامة صاحبت هذا الحدث لتشملهما فى اللقطة، ولاكمال معنى هذا الحدث فى حدث اخر فى المشهد الاخير الذى تلاه.
اما فى العمل المصرى فلقد استخدم المخرج هذا الاستلهام ووظفه، انما ليس نسخا لكن بصياغة جديدة تحمل فكرا يلائم هذا العمل ويضيف الى روح رسالته، فبعدما كانت الكاميرا تشمل الاب مع رفيقه الذى يسند جراحه، وبعد ان تنقلت لتشهد على اقتراب رجال البوليس من مكانهما، رفع وجهه واقتربت منه الكاميرا لتُطبِق فاها عليه وحده بنفس ايقاع كاميرا الفيلم السابق، مُشبِّعا المُشاهد بنظراته ورسائلها حتى النهاية، حيث أن الإجابة هنا عند المشاهد بعدئذٍ.
البُعد الفلسفى للفيلم ***************
• العنف الانسانى بين الفطرة والاكتساب *********************************
يرصد الفيلم توازنات قوى العنف فى الانسان ما بين العنف الفطرى والعنف المُكتَسب، وتوظيف كلا منهما فى المجتمع بانشقاقاتهما واختلافات مبادئ استغلالهما!.
فما بين قوى العنف الفطرية التى كانت فى "رحيم" الطفل حيث ضربه لصديقه، وما بين انتقال العنف فيه لممارسة ايجابية فى الرياضة، حتى انحرفت الى مسار البلطجة، فنجد توضيح العمل لتشريح فلسفة العنف عند الانسان من وجهة نظر اجتماعية مصرية، وذلك بسرد احداث عكست ان هناك من العنف ما يُستغل للمارسة القانونية المشروعة المُمَجَدة لكسب البطولات وتفخيم العنف بالتعامل معه كرياضة يُحتفى بذوى الخبرة فيها والفوز بها فى المجتمع، ومنهم من يستغلها بشكل فطرى يندرج تحت بند العشوائية والفوضى لتصبح البلطجة وغيرها من المظاهر القتالية الخاصة بكل مجتمع، مصدر رزق له، يحيا بها وعليها، وهى حالة من العنف المكتسبة من إطار الخلل العام للمجتمع، وهناك حالة ثالثة وهى أن يصبح كل من هذين النوعين من العنف الفطرى فى صورته المنمقة والعشوائية، المقبولة والمرفوضة فريسة منهكة الارادة فى شباك ارادة اخرى تستغلهما بعنف ثالث، تتحكم به سلطة رجل فاسد ذو نفوذ، وهو اخطر عنف فيهم حيث انه عنف فى جوهره لا يحميه قانون وفى واقعه لا يخشى مواجهة القانون!.
حتى ان هذا الفساد بإمكانه ان يعطل او يشوه فرص ممارسة التوبة، حيث هناك من يجلس على كرسي سلطة يضيق الطرق على الارادة الفردية، ويأتى به الى عرين الخطأ مباشرة، فنجد ان مجتمعنا يسلك فى دوائر فساد عامة وسلطوية بإمكانها ان تصيب الفرد بذاته.
• حرافيش العصر ***************
قدم العمل بطريقة غير مباشرة صورة عن وجودية حرافيش كل عصر، والذين هم نتاج مجتمع وسُلطة، وكان هؤلاء البلطجية هم حرافيش هذا العصر الذين يوجههم العنف وينصاعون تحت اوامر الاقوى الادهى فيهم، وتستخدمهم العصا الفاسدة لبعض المسئولين، والذين يشكلون قوى مهمه برغم عدم اهميتهم هم انفسهم فى نظر المجتمع او فى نظر من يستغلهم ويصنع بهم قرارات اكبر منهم.
• فصامية الانسانية فى مشاهد فصامية *******************************
اتى الفيلم بالعديد من المشاهد المنقسمة الى مشهدين او ثلاثة ربما، تتمازج أحداثهم فى تناقض انسانى بالغ، مثل مشهد ولادة رحيم والذى كان يتمازج مع ممارسة الاب لقسوته فى انشغاله بمعارك البلطجة وقتله لاحدهم، ومثل مشهد رفع الاذان لزوج حبيبة رحيم بينما كان رحيم يغتصبها فى منزله، وغيرها من التركيبات الانسانية المعقدة جذريا وفطريا فى الانسان، فالانسان يترك ممارسة الرحمة ليقسو وحين يؤذى من يرحمه يتوب ويتشبث بولادة الرحمة من جديد فى حياته، وهذا الامام الذى اخذ تلك المكانة تعطشا لمجد الصفوف الامامية وجوعا للاهتمام لم يقف صادقا لرفع الاذان سوى فى المرة التى كان يجنى فيها ثمار أفعال تسببت ليس فى تشوية نفسه فحسب، انما فى تشوية حياة اخرين معه ايضا، وحدوث مأساة أخرى تحدث فى حرمة بيته فى لحظتها.
فكما كان هناك قوتان يتلاقيا لملاكمة بعضهما بعضا فى المشَاهد، كذلك كانت الكاميرا بتنقلاتها العنيفة والمتناقضة تلاكم المُشاهد بما كتب فيها نصا وبطريقة اخراجها الموقظة للذهن والضمير كذلك، ولقد كان لتكوينات الكاميرا وتشكيلات الاضاءة دورهما الخاص فى العمل، وساعدا فى اتمام الرسائل المطلوب توضيحها معنويا جنبا الى جنب العناصر الاساسية فيه.
وأخيرا فإن هذا العمل يُعد إحدى أهم الأفلام المصرية فى السنوات الاخيرة، واعتقد ان السينما المصرية ستحتفظ به كصفحة هامة لسرد احدى التجسيدات الخاصة والمميزة جدا لعلاقة الأب بإبنه سينمائيا.
#إيرينى_سمير_حكيم (هاشتاغ)
Ereiny_Samir_Hakim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا تلجأى لمصر يا مريم رسالة من قبطية فى 2016
-
مصر اتعرت
-
تمصير فيلم Matilda فى رؤية داود عبد السيد بقدرات غير عادية
-
فى انتظار اللص اليمين
-
فى عرض المدينة الاتفاق من منطلق الاختلاف
-
لا تنكس رأسك قم وأصهل
-
أصل أسطورة الدبدوب فى عيد الحب عند المصريين
-
حينها لم أكن جميلة
-
يا صفر ماتستقلش قيمتك
-
لم يكن الحلم ليوسف بل للفرعون
-
عرض الفنار يكشف ظُلمة تسكن نور
-
لو كان الرقص رجلا لقبَّلته
-
أيها المجروح قم احمل دماء جروحك وامشي
-
يا شعوب الركعة لعظة سياسية
-
شكوك وحدتى وإيمان بصمات يدى
-
فيلم القمة القرمزية Crimson Peak حين يصبح الإنسان أكثر شبحية
...
-
أحمق من ينتظر من الشيطان توبة
-
نصيحة لمصرى: لا تنزف دماءك على الأرض التى تتبول عليها
-
غجرية فرعونية أنا
-
فى عرض روح لقاء مُحيي مع الموت وصَحوةٍ فى بار
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|