|
ما هي العولمة؟
ميك بروكس
الحوار المتمدن-العدد: 5177 - 2016 / 5 / 29 - 22:24
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
مالعمل - فريق الترجمة
العولمة هي لغة هجوم الطبقات الحاكمة على معيشة الطبقات العاملة في أرجاء العالم.glob.jpg كانت «العولمة» في بدايات القرن الواحد والعشرين أحدث أمل اعتنقه الإعلاميون البورجوازيون لإنقاذ نظامهم الرأسمالي، وزعموا أن عصرا جديدا من الفرص غير المسبوقة سيُفتح أمام الطبقة الرأسمالية العالمية، فكما أشار الملياردير جيمس غولدسميث حينها: «خلال السنوات القليلة الماضية دخل أربعة مليارات شخص الاقتصاد العالمي فجأة».
ولكن ماذا نعني بالعولمة؟ المشكلة في محاولة تحديد تعريف لها هو أنها ليست نظرية بل مجرد عبارة طنانة. الفكرة العامة هي أن العالم بأكمله سينفتح أمام الرأسمالية العالمية، وأن كل العوائق القديمة ستُهدم، وستجلب تدفقات الرساميل إلى البلدان الفقيرة تقنيات العالم الحديث معها، وستصبح هذه الأخيرة غنية عما قريب! تقترح بعض النسخ المتطرفة لهذا المفهوم أن جميع الفروقات الثقافية القومية ستختفي في عالم متجانس من العلامات التجارية العالمية، وأن تدفقات الرساميل الدولية ستتخذ دور جهاز خلاط ضخم في هذا العالم. إن نظرنا لهذه النسخة من النظرية فهي مجرد هراء على مستوى عالمي.
ولكن إن كانت العولمة تحصل فعلا فالنظام لم يتجاوز تاريخ انتهاء صلاحيته ونحن، الاشتراكيون، جميعنا مخطئون، لا بل والعكس هو الصحيح: أيام الرأسمالية العظمى ليست إلا في بداياتها. المشكلة هي أن أيًّا ذلك لم يحدث، إذ لم نشهد أي تقارب ما بين البلدان الغنية والفقيرة، على العكس: الفجوة ما بين الاثنين ازدادت والرأسمالية العالمية هي السبب.
أدرك ملايين المتظاهرين المناهضين للرأسمالية في نهاية الألفية السابقة الرابط ما بين العولمة والرأسمالية وإفقار العالم الثالث من وجهة نظر معاكسة للمدافعين عن العولمة، إذ أشاروا إلى التفكيك الجاري حينها للحمايات الموضوعة ضد نهب الرساميل العالمية بلدانَ العالم الفقيرة. ولهذا السبب يتلقون تنديد وزراء الحكومات على الدوام. سماهم وزير الخارجية البريطانية الأسبق جاك سترو بحركة «إيقاف العالم»، وزعمت المؤسسة الحاكمة أن التجارة الخارجية أفضل من عدمها، وردّهم المستمر على المتظاهرين كان: «هل تريدون أن نصبح مثل كوريا الشمالية؟» يغفل هؤلاء الحقيقة عمدا. فكما أشرنا سابقا، أُعدّت المؤسسات الضابطة للتجارة الدولية من أجل السماح للشركات الكبرى بنهب بلدان العالم الفقيرة بصورة ممنهجة.
العولمة و«زوال الدولة القومية» يوحي مؤيدو العولمة وأعداؤها أيضا بأن «الدولة القومية» لم يعد لها أهمية، فهي أضعف من أن تواجه الرساميل الدولية فاقدة الجذور، ولكن الواقع هو العكس تماما: تُحرِّك البلدان الرأسمالية المتقدمة، وهنّ حماة الشركات متعددة الجنسيات، عملية اتخاذ القرار للأجهزة «الفارضة» للرأسمالية المعولمة (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية)، فهيمنة الرساميل الدولية هي هيمنة البلدان القوية على البلدان الضعيفة. يوضح عالم الاقتصاد الفائز بجائزة نوبل، جوزيف ستيغليتز، ذلك قائلا: «تجد البلدان أنفسها في أوضاع تُفرَض عليها فيها سياسات معينة، فالأمر ليس مختلفا عن حروب الأفيون للقرن التاسع عشر حين أمِرَت البلدان بفتح أبواب أسواقها ودُعِم ذلك التهديد بالقوة العسكرية».
يفهم الماركسيون أن التجارة الدولية هي طريقة تأسيس تقسيم العمل على مستوى عالمي في ظل الرأسمالية. يحمل تقسيم العمل هذا، في جوهره، احتمالية مساعدة كل بلد من بلدان العالم على النمو بصورة أسرع، فحن لا نؤمن بإمكانية بناء مجتمع اشتراكي يحوي وفرة من الموارد في بلد واحد، وإنما علينا توظيف التقسيم العالمي للعمل من أجل مساعدة البلدان الفقيرة. ولكن في ظل الرأسمالية، الواقع هو أن تقسيم العمل الذي فرضته القوى الإمبريالية على البلدان الأقل نموا يكبّل البلدان الفقيرة في مكانة المهن الوضيعة.
والواقع هو أن الرأسمالية نظامٌ عالمي، ودائما ما كانت كذلك. يشير ماركس وإنجلز في «البيان الشيوعي» المكتوب قبل أكثر من قرن ونصف مضى:
أعطت البرجوازية، باستثمارها السوق العالمية، الإنتاج والاستهلاك، في جميع البلدان، طابعا كوزموبولوتيا…فالصناعات القومية الهرمة دُمِّرت وتدمر يوميا لتحل محلها صناعات جديدة، أصبح اعتمادها مسألة حيوية بالنسبة إلى جميع الأمم المتحضرة، صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية، بل المواد الأولية من أبعد المناطق، صناعات لا تُستهلك منتجاتها في البلد نفسه فحسب، بل أيضا في جميع أنحاء العالم…وتجلب البرجوازية، بالتحسين السريع لكل أدوات الإنتاج وبالتسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات، الكل، حتى الأمم الأكثر تخلفا، إلى دار الحضارة.
ويستنتجان:
يُتّهم الشيوعيون بأنهم يريدون إلغاء الوطن والقومية، ولكن الطبقة العاملة لا وطن لها، فلا يمكن أن يسلب منها ما لا تملكه…ومع نمو البرجوازية، مع حرية التجارة، مع السوق العالمية، مع التماثل في الإنتاج الصناعي والأوضاع الحياتية الملائمة لذلك، تزول الفواصل القومية والتناقضات بين الشعوب، أكثر فأكثر.
تخلق الرأسمالية العالمية عدوا عالميا لها، ألا وهو الطبقة العاملة.
هل تعني العولمة أن المستويات المعيشية سترتفع في كل البلدان الأقل نموا مع نشر الرأسمالية بركاتها في أرجاء العالم؟ يشير التاريخ لنا بعكس ذلك: الصورة الغالبة هي صورة إقفار شاسع للبلدان الفقيرة، ووفق عالم الإحصاء الاقتصادي أنغوس ماديسون، منذ عام 1820 وحتى عام 1998، ارتفع الناتج القومي للفرد تسع عشرة ضعفا في البلدان المتقدمة وأما في البلدان الأقل نموا فقد ازداد 5،4 ضعفا فقط. عن أي «تقارب» يتحدثون؟! على مدى وجود العصر الرأسمالي ازدادت الفجوة ما بين البلدان الفقيرة والبلدان الغنية أكثر فأكثر، والأمر يزداد سوءً. وفق تقرير التنمية الدولية الصادر عن البنك الدولي، متوسط الدخل في أغنى عشرين بلدا أعلى بسبعة وثلاثين مرة من أفقر عشرين بلدا، وهذه الفجوة نتجت عن تضاعف حصل خلال العشرين عاما الماضية.
في الوقت الحالي، يقتات أكثر من مليار إنسان بدولار واحد أو أقل يوميا، وقرابة المليارين يقتاتون يوميا بمبلغ ما بين الدولار والدولارين. يعيش هؤلاء الناس في فقر مطلق، وقد ازدادوا بمقدار 100 مليون في العقد الأخير من الألفية السابقة. نتحدث هنا عن نصف سكان العالم. مع تنمية الرأسمالية فشل نمو القوى الإنتاجية بالتالي في إلغاء الفقر. الواقع هو أنها، أي الرأسمالية، تصنع الغنى والفقر، كما تصنع ماكدونالدز وكوكا كولا.
ماذا يقول لينين عن الإمبريالية؟ فسّر الماركسيون سبب حدوث ذلك، إذ يعتبرون قانون التطور المركب واللا متكافئ محركا للسيرورة التاريخية، والإمبريالية هي طريقة تمظهر هذا القانون في عصرنا الحاضر، وقد بين لينين كيفية جذب البلدان الرأسمالية المتقدمة بقية بلدان العالم إلى الفلك الرأسمالي من خلال آلية الإمبريالية، وكيف أن الرأسمالية تصنع أثناء ذلك بلدانا غنية وبلدانا فقيرة كما تصنع أغنياءً وفقراءً في داخل كل بلد.
كانت البنود الرئيسية لنظرية لينين هي التالي: ◾زيادة تمركز الإنتاج وخلق احتكارات مكان التنافس الحر. ◾تنامي قوة الرساميل المالية معناه أن تصدير الرساميل سيصبح أكثر أهمية مقابل تصدير السلع. ◾تقسيم العالم ما بين رابطات للشركات الرأسمالية. ◾تقسيم العالم ما بين القوى الرأسمالية العظمى.
تشرح نظرية لينين حول الإمبريالية بالتفصيل ما يجري اليوم حقا في عالمنا «المعولم» الحديث.
تمركز رأس المال دعنا نتجه أولا لتمركز رأس المال في شركات ضخمة متعددة الجنسيات. هنالك اليوم ما يتجاوز الستين ألف شركة متعددة الجنسيات، وتوظف هذه الشركات عشرات ملايين الموظفين. وفي عام 1990، كان لدى شركة جينيرال موترز سبع مئة وخمسون ألف موظف، وكانت مبيعات الشركة تعادل ضعفي قيمة الناتج القومي الإجمالي لفنزويلا.
تعني عولمة الرساميل المالية أمرين، أولا: هنالك عولمة الرساميل النقدية المتجاوز حجمها عشرات تريليونات الدولارات من «المشتقات المالية» التي تجوب الاقتصاد العالمي. فالأدوات المالية الغامضة، عقود المقايضة والعقود المقدمة وعقود الاختيار المالية، تشابه الرهان على كلب ما في قتال كلاب. من الواضح أن الرأسماليين سيحققون أرباحا لو فاز كلبهم، ولكن ليس من الواضح كيف يصبح النظام أكثر غنًا حين يسير مثل الكازينو.
اعتاد الناس على تحليل حركة الأموال بمصطلحات التجارة، فمثلما تشتري كيلو من الطماطم، تتوجه البضاعة باتجاه معين والأموال بالاتجاه الآخر. ولكن تحركات صرف العملات لم تعد خادمة التجارة، فلكل دولار يمر بصرف العملات يتجه ستون دولارا للمضاربات البحتة. تتغلب تحركات رأسمال المضاربات اليوم على التجارة في أهميتها بالنسبة لميزان المدفوعات، والعولمة المالية أصبحت منفصلة ببساطة عن العالم الحقيقي الذي يُصنع فيه فائض القيمة، فرأس المال يسعى نحو مثاليته، مثالية دائرة أموال نقية دون عناء الانخراط في إشكالات الإنتاج.
رأس المال، كما أشار ماركس دون كلل أو ملل، ليس «شيئًا»، بل هو علاقة اجتماعية. يتحول رأس المال لأشكال مختلفة، من المال في أيدي الرأسماليين إلى السلع التي يشترونها به، مثل المواد الخام، وإلى عملية الإنتاج ذاتها وحتى بيع السلع المنتج، وإلى المال مرة أخرى. ولا تشكل أيٌّ من هذه الأمور، لا المال ولا السلع ولا الإنتاج، بالضرورة رأس مالٍ حتى يرتبطن باستخراج فائض من الطبقة العاملة. ما هي إذا أهمية دائرة رأس المال؟ يصبح المال في هذه الدائرة مرنًا بصورة لا متناهية وبالإمكان نقله إلى أي مكان: بإمكان المال أن يصبح مصنع صلب في بنسلفانيا أو مزرعة أنناس في جنوب أفريقيا، ولكن متى ما اتخذ رأس المال شكلا معينا، فسيظل عالقا في ذلك الشكل. ليس من الصحيح فعلا أن رأس المال حر طليق.
كان نمو تصدير الرساميل منذ الثمانينات ونمو الاستثمار الأجنبي المباشر، أي الاستثمار الخارجي للشركات متعددة الجنسيات، أكثر لفتًا للنظر من نمو التجارة، وقد يكون ذلك هو المحرك الحقيقي للنمو. نمى الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 30 بالمئة سنويا بينما التجارة نمت بنسبة أقل من 10 بالمئة. بحلول عام 1990، حُسِب مجموع مخزون العالم من الاستثمار الأجنبي المباشر بما يقدر بترليون وسبع مئة ألف دولار. وتحكمت الشركات متعددة الجنسيات مع حلول الألفية الجديدة بما يتجاوز 80 بالمئة من التجارة العالمية. يصعب واقعا وصف هذا الإقبال والإدبار بالتجارة، وذلك لأن خمسي تجارة هذه الشركات متعددة الجنسيات يحصلان ما بين فروعٍ من الشركة ذاتها. تواجدت الشركات متعددة الجنسيات منذ فترة طويلة، ولكن التسارع الضخم لنمو الاستثمارات الأجنبية المباشرة منذ الحرب العالمية الثانية، وبالخصوص خلال العقد الأخير من القرن العشرين، لم يكن ممكنا لولا الثورات التقنية في الاتصالات (تقنية المعلومات) والنقل (بالحاويات). من السهل في هذه الأيام التسوق في أرجاء العالم للحصول على أفضل الأماكن ملائمةً، أو بالأصح ربحيةً، والانتقال إليها. تشكل العولمة إذا تهديدًا على نضالات الطبقة العاملة اليومية من أجل مستويات معيشية أفضل في كل بلد.
العولمة كأيديولوجيا هم واقعا يحاولون إخافتنا بمفهوم العولمة. بإمكان الرساميل التسوق في أرجاء العالم، ولكن بحثا عن ماذا؟ الجواب هو العمالة الرخيصة بالطبع، في أماكن مثل الصين حيث العمال «راضون» بالعمل أربعة عشر ساعة يوميا مقابل بضعة قروش. بل وهنالك أربعة ملايين «حمقى» جدد بإمكان الرساميل استغلالهم.
لا يعني الاقتصاد توظيف العمالة الرخيصة فحسب. ووفق استطلاع قامت به جريدة «ذا إيكونومست» عام 1994، كثيرًا ما لا تتجاوز تكلفة العمالة 5 حتى 10 بالمئة من التكاليف في منتجات اليوم عالية التقنية. يدفع الرأسماليون الألمانيون مثلا 25 دولار للساعة لكل عامل/ـة (ولا يعني ذلك أن العمال يتلقون 25 دولارا، فذلك يتضمن التأمين الوطني وكل التكاليف غير المباشرة للتوظيف)، فهل يعني ذلك أن ألمانيا ستفتقر للصناعات؟ لا أبدًا! بل إن العمّال الألمانيين سيحصلون على 25 دولار للساعة من أموال أي رأسمالي بسبب مقدار إنتاجيتهم، فالاستثمار دائما يُفضّل على العمالة الرخيصة. أو بصورة أعم، ما يهتم به الرأسماليون هو الفارق بين ما يدفعونه لك وما يحصلون عليه منك والاقتصادات عالية الأجر عادةً ما تكون اقتصادات عالية الإنتاجية.
بإمكان الشباب الحضريين المحترفين بعملهم على شاشة ما نقل ملايين الدولارات خلال أجزاء من الثانية، وذلك يشكل تهديدا حتى بالنسبة للحكومات الإصلاحية جزئيا. فلو أرادت الحكومات فرض ضوابط لإيقاف النشاطات الاقتصادية الضارة بالبيئة، أو رفع الضرائب على الأرباح، أو رفع الحد الأدنى للأجور، سيهدد الرأسماليون بنقل أموالهم خارج البلاد. ولذلك تخضع لهم الحكومات، فالرسالة واضحة: لن تخضع الأسواق المالية لأيّ محاولة للإصلاح. فتوازن القوى مال بصورة حاسمة ضد الدولة القومية ولصالح الرساميل العالمية، ودخلنا الآن سباقًا إلى القاع.
منطق أطروحة العولمة هو أن الدولة القومية أصبحت وتصبح ضعيفة ولا أهمية لها مقابل تدفقات الرساميل العالمية، ولكن الواقع هو أن البلدان الصغيرة ليست ضعيفة إلّا لأن القوى العظمى تفرض عليها مصالح الشركات الكبرى. وذلك يبين أن مفهوم العولمة ليس سوى سلاح إيديولوجي ضد الشعوب العاملة الطامحة لأجل عالم أفضل. صرح رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير في اجتماع لمنظمة التجارة العالمية عام 1998 بأن «العولمة لا يمكن عكسها أو مقاومتها»، ولكن ذلك ليس سوى عذر قبيح يستخدمه لتبرير عدم مواجهته رأس المال. ولكن عدم المواجهة هو ما أراد فعله على أي حال.
بإمكان الشركات متعددة الجنسيات طبعًا التسوق في أرجاء العالم، ولو تساوت العوامل الأخرى، ستتجه هذه الشركات لمناطق الأجور الرخيصة، ولكن العوامل الأخرى يندر تساويها. تحتاج الشركات متعددة الجنسيات لبنية تحتية تكنولوجية وتحتاج ليد عاملة متعلمة، ولكنها لا ترغب بدفع تكاليف البنى التحتية أو التعليم، وذلك كل ما في الأمر. وهنا يأتي دور الدولة القومية كمؤسسة تعمل على تمكين الرأسمالية العالمية. والحقيقة هي أن الشركات متعددة الجنسيات ليست واقعا من غير جذور، فشركة فورد تواجدت في المملكة المتحدة منذ عام 1912 ولكن حتى مع حلول الألفية الجديدة، تقع 80 بالمئة من أصولها في الولايات المتحدة الأمريكية. وينطبق هذا الأمر على نصف أصول شركتي بيبسي وماكدونالدز، وهما تعتبران رمزين للرساميل العالمية. تحتفظ الشركات متعددة الجنسيات بعادة قديمة: طلب المعونة من دولتهم الأصل حين تُهدد أرباحهم.
تقسيم العالم ما بين رابطات شركات رأسمالية إذًا، ما هو موقع الشركات متعددة الجنسيات في وسط هذا التعقيد؟ كل هذه الشركات، من جهة، تملك مراكز رئيسية إقليمية، بل ووطنية. ومن جهة أخرى، يشكل توجه البلدان نحو سيادتها الذاتية على مستوى عالمي تهديدا على تحصيل هذه الشركات أرباحًا على المستوى الدولي. ويضاف على ذلك كون تكلفة الابتكار في تصاعد، مهدّدة إمكانية حتى كبار الشركات في مواكبتها. فتكلفة صنع تقنيات للسيارات الجديدة أو للكمبيوترات الجديدة في تصاعد، ولذلك تضطر الشركات للعمل مع بعضها البعض، فحتى كبار الشركات تحتاج للعمل مع شركات أخرى. على سبيل المثال، مع بداية الألفية الجديدة، كانت شركة آي بي إم تعمل مع زيروكس وسيمينز وبي إيه إي سيستمز، إذ كان اسمها جي إي سي بليسي حينها، وشركة اليابان للبرق والهاتف وشركة كورنينغ وشركة اليابان للكهرباء المحدودة (إن إي سي) وميتسوبيشي وشركة نورتيل نيتوركس الكندية، وكان اسم هذه الأخيرة نورثيرن تيليكوم. أصبح جوهر اللعبة اليوم هو التحالف الاستراتيجي: أهم ما في تحالفات آي بي إم هي أنها تعطي الشركة موضع قدم في كل من هذه المعسكرات، فهذه التحالفات جزء من رد فعل الشركات متعددة الجنسيات تجاه النزعات الإقليمية.
تقسيم العالم ما بين القوى الرأسمالية تُخضِع البلدان الغنية البلدانَ الفقيرة اليوم ليس عن طريق الاحتلال بل عن طريق إحكام السيطرة على آليات التجارة العالمية ذاتها، وتنبثق لنا «مناطق نفوذ» واضحة في أرجاء العالم، وليس هذا إلا مصطلحًا مهذبًا يصف ما هو واقعا اتكّالٌ استعماري مهين وإمبريالية اقتصادية.
يتحدث منظّرون عن أمر مختلف عن العولمة: «الإقليموية». بحلول الألفية الجديدة وقع 75 بالمئة من التجارة و80 بالمئة من الإنتاج في ثلاث كتل تجارية إقليمية كبرى: تسيطر أوروبا الغربية على أوروبا الشرقية والمنطقة المغاربية، وتقع الاقتصادات الشرق آسيوية تحت سيطرة يابانية، وأما الولايات المتحدة فدائما ما اعتبرت أمريكا اللاتينية حديقتها الخلفية. وأما البلدان الأفريقية جنوب الصحراء الكبرى فهي ليست مرغوبة إذ لا أرباح في الاستثمار هناك. هذه الكتل الإقليمية الثلاث تحوي 80 بالمئة من التجارة العالمية، والتحالفات التجارية رسخت هذه العلاقات، فبجانب الاتحاد الأوروبي نجد اتفاقية التجارة الحرة لشمال أمريكا (نافتا). تمثل الكتل التجارية الإقليمية المتجمعة حول قوى إقليمية مهيمنة نموذجًا يتوافق مع التقسيم العالمي الذي أشار له لينين كسمة مركزية لنظريته حول الإمبريالية.
تجري أغلب تدفقات الرساميل بين البلدان الرأسمالية المتقدمة، وتُحرم البلدان الفقيرة حتى من الرائحة. وما يتدفق من الرساميل إلى البلدان الأقل نموا يتجه إلى الدول العميلة في المناطق المعنية، مثلا: من اليابان إلى كوريا وغيرها من البلدان الشرق آسيوية. وفي تسعينات القرن الماضي، اتجهت أربعة أخماس الاستثمارات الأمريكية في الخارج من الشركات متعددة الجنسيات إلى كندا أو اليابان أو أوروبا الغربية. حصلت البلدان الفقيرة على 1 بالمئة من مجمل الاستثمارات. ليس من الغريب إذًا أن الفجوة ما بين البلدان الغنية والفقيرة استمرت في التوسع.
ما هي العولمة إذًا؟ هل هي توجه أم سلاحٌ أيديولوجي في ترسانة الطبقات الحاكمة؟ العولمة تيّارٌ وليست أمرًا واقعا، وهنالك تيارات تسير بالاتجاه المعاكس، وليست الإقليموية التوجه الرئيسي في وقتنا الحاضر. الطريقة الوحيدة لفهم التحركات المتناقضة لوقتنا هذا هو من خلال مفهوم الإمبريالية، والإمبريالية هي الطريقة التي يتمظهر بها قانون التطور المركب واللا متكافئ في أوضاع الرأسمالية المتقدمة.
معنى التطور اللا متكافئ في هذا السياق هو أننا نجد عالمًا من شركات تقاتل بعضها بعضا ودولًا قومية تصارع بعضها بعضًا، وفي الوقت ذاته نجد تحالفات متغيرة ما بين كبار الشركات لمحاولة إخضاع إرادة الحكومات الوطنية بينما تحاول الدول الاحتشاد مع بعضها البعض لمواجهة ضغط الرساميل الدولية، وهذه هي الصورة الحقيقية للاقتصاد العالمي، إنها معقدة ومتناقضة، ولكن هذه هي طبيعة الرأسمالية.
مفهوم العولمة هو محاولةٌ لفهم الواقع، وهو أيضًا طريقة للتأثير بتطوراته، إنه لغة هجوم الطبقات الحاكمة على المستويات المعيشية للطبقات العاملة في أرجاء العالم.
والاشتراكيون ليسوا النقاد الوحيدين لخرافة العولمة: «سيخلق المد المتصاعد للاقتصاد العالمي العديد من الفائزين اقتصاديًا، ولكن ذلك المد لن يرفع كل القوارب، بل سيخلق صراعاتٍ في الوطن وفي خارجه…وتطوره سيكون شائكًا، إذ سيتسم بالتقلبات الاقتصادية المزمنة وتوسع الفوارق الاقتصادية. ومن سيُهمَلون سيواجهون ركودا اقتصاديا متزايدًا وفوضى سياسية واغترابًا ثقافيًا، وسيصبحون حاضنة لنزعات متطرفة إثنية وإيديولوجية ودينية ومعها العنف المرافق لهذه النزعات». هذا اقتباسٌ من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. إذًا، فهي الرأسمالية كما اعتدنا عليها.
المصدر: إن ديفنس أوف ماركسزم
#ميك_بروكس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المنعطف النيوليبرالي: نبذة تاريخية
-
لما كل هذا الضجيج حول طالبي اللجوء؟
المزيد.....
-
رئيس كوريا الجنوبية يقبل استقالة وزير الدفاع ويعين السفير لد
...
-
الأسد يوجه بزيادة 50% على رواتب العسكريين وسط تصعيد عسكري شم
...
-
توغل إسرائيلي شمال خان يونس، ومقتل العشرات في غارات جوية
-
تعليق الدراسة بسبب انقطاع الكهرباء في كوبا
-
القاهرة.. منتدى لخريجي الجامعات الروسية
-
وفد أوكراني يلتقي مستشار ترامب المستقبلي
-
وسائل إعلام فرنسية: ميشيل بارنييه سيقدم استقالة حكومته الخمي
...
-
الولايات المتحدة تهدد بفرض عقوبات على جورجيا بسبب قمع الاحتج
...
-
فيتنام.. مقتل 12 جنديا في انفجار خلال تدريب عسكري
-
بعد زلزال دمياط.. رئيس البحوث الفلكية في مصر يوجه رسالة حاسم
...
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|