المناضل الشهيد " زكي مراد "
لا عجب أن المناضل الشهيد " زكي مراد " قضى فترة طويلة من عمره – 11 سنة – بين جدران السجون منذ الأربعينات حتى أواخر السبعينات ، حيث جسد نضاله وفكره داخل السجن وخارجه قيماً شريفة في مواجهة النظم المستبدة والفاشية الجديدة وفي مواجهة باشاوات الإقطاع وسماسرة السوق السوداء ، ودافع عن تراب مصر ضد الخطر الصهيوني الإمبريالي ، ووهب حياته دفاعاً عن فقراء مصر الذين تعرضوا لأزمات طاحنة وتاقوا شوقاً للخلاص .
لم تكن مصادفة أن الفتى الأسمر ابن " إبريم " ينطلق على أجنحة الشمس نحو الآفاق متمرساً عبر نضالات عديدة علناً وسراً .. في النضال الفكري والعملي – كاتباً سياسياً ومفكراً .. شاعراً وفناناً .. محامياً مناضلاً – يكبر ويكبر ويصبح عملاقاً بينما يتحول خصومه إلى أقزام .. يفرض مهابته على الجميع خصوماً وأصدقاء … وتبقى الابتسامة المشرقة علامة للمناضل وسبيل للتحدي .مسافر .. مسافرودايماً مسافرومهما الطريق كان بعيدأو صعيب
مسافر بعمركوأمرك عجيب
كأنك بطبع العناد … سندباد
وعاشق … وعشقك بعيد البلاد
الجثمان يرحل .. والجسد يتحلل .. ولكن مآثر المناضلين لا ترحل .. ولا
تتحلل ..
تتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل وتظل أبداً .. هنا .. فينا .. بنا كحلقات
السلسلة الواحدة متتابعة .. متلاحقة ومتلاحمة .
نعم أيها المناضل الشهيد " زكي مراد " ستبقى حياً في قلوب البسطاء الذين عشت من أجلهم ، وناضلت في سبيلهم واستشهدت لأنك أبيت أن تتخلى عن قضاياهم ، فكلماتك وأشعارك المقاتلة ورنين ضحكاتك المتحدية المتفائلة لن تخفت أبداً – ولن تموت – بل ستتحدى الموت وستقهره لتظل تطرق أسماعنا وتبقى نوراً على الطريق .ميزت بين الخنادق .. فاخترت خندق النضال واندفعت إليه رائداً وقائداً حتى آخر رحلة العمر .. ناضلت من أجل تحرر الوطن ، فعرفتك ساحات النضال السياسي وميادين الكفاح المسلح مقاتلاً جسوراً ضد المحتل الغاضب ، ومحارباً شجاعاً ضد التبعية السياسية والاقتصادية ، ومعارضاً عنيداً ضد الأحلاف العسكرية الاستعمارية ومعاهدات العار والخذي والعبودية ، وناضلت من أجل حرية المواطن .. فعرفتك ساحات
المحاكم مدافعاً عن الحريات السياسية والنقابية تارة من تحت عباءة المحاماة السوداء .. وتارة من تحت سترة السجن الزرقاء … حقا إن حياتك منذ بدايات
جهادك حتى لحظات استشهادك كتاب ضخم حافل بالنضال والتضحيات .. كتاب لم يأن الأوان لطبعه ونشره كاملاً .
نعم سيظل الشهيد " زكي مراد " جزءاً عزيزاً لا ينفصم من شعبنا ، والشعوب باقية لا تموت .. وهو باق لأن سيرته جزءاً لا يتجزأ من تاريخ مصر .. والتاريخ لا يندثر .
يا بلح ابريم يا سماره سواك الهوا في العالي هويس
على طمي النيل يا سماره وشربت عطر لما استكفيت
بس احلويت قوي يا سماره
لما اسمريت قوي يا سماره
لفيت الشارع والحارة زي نقاوتك ما لقيت
يا سماره
البداية في سبتمبر 1927 ، حيث ولد " ذكي مراد محمد " في قرية " ابريم " إحدى قرى النوبة ، وكان والده عمدة القرية .. والعمدة هو محور حياة أهلها –
فالرجال يسعون نحو الرزق في القاهرة والإسكندرية ليعملوا بوابين أو سفرجية – ولا شيء آخر متاح غير هذا أو ذاك .. ويبقى العمدة مديراً لشئون الجميع وأباً للجميع وبديلاً للغائبين … ويغرق الوطن الصغير " ابريم " وتنهض " ابريم " أخرى لتغرق أيضاً .. ويبقى حلم الوطن القديم والحزن على الوطن الجديد المغادر هو أيضاً ، وتصبح مشكلة بلاد النوبة مشكلة قومية منذ الثلاثينات ، حيث فقد النوبيين في عام 1933 مع التعلية الأولى لخزان أسوان 31770 فدان و 11981000 نخلة مثمرة و 29614 مسكناً و 18827 شجرة فاكهة وفقدوا وطناً يمتد من الشمال لمسافة 350 كيلو متر يسكنه 20 ألف نسمة … عوضتهم حكومة الطاغية " صدقي " بمليون جنيه بواقع 8 جنيهات لكل نوبي وكانت قيمة التعويض عن كل نخلة مثمرة 15 مليماً فقط !! .ويأتي عام 1942 وفي مدرسة حلوان الثانوية الداخلية كان الفتى الأسمر القادم من " ابريم " يحلم بأبريم جديدة وينسج الحزن النوبي بالارتباك الوطني ويمضي
بأحلامه في متاهات نقاش عنيف مع فتيان قادمين من بلاد شتى – سودانيون .. أثيوبيون .. يمنيون .. وتونسيون ، يعتصرون من كلماتهم الحيرى أملاً
لأوطانهم … والفتى الأسمر ابن ابريم معهم في معركة البحث عن مستقبل ، حيث أدرك بوعيه قضية تعويضات أهالي النوبة وما صاحبها من أضرار جسيمة حلت بهم ، فأحزان النوبة ليست قدراً نوبياً فحسب فهي قدر مصري صميم .وتناقش الجميع – عبده دهب ، محمد خليل قاسم ، محمد أمين ، عبد الخالق جودة ، عبد الماجد حسبو ، مبارك عبده فضل ، وذكي مراد مسألة وحدة وادي النيل في مواجهة شعار " نيل واحد ، ملك واحد ، هو الفاروق " وارتفع لأول مرة شعار " الكفاح المشترك لتحرير وادي النيل " .وانطلق الفتيان السمر إلى مقاهي النوبيين وأنديتهم وبيوتهم يتعاطون الشعر
في نوبية مصرية سودانية ، يقرءون التاريخ والفلسفة والأدب .. ينسجون ثوباً من ألوان زاهية يكفي كل الشعب .ويكبر الفتيان السمر ويشتد ساعدهم ومعهم تكبر الأحلام وتتبلور ، فالبذرة تزهر زهوراً ليست جميلة فقط ولكنها أيضاً ناضجة ، وفي صفوف " الحركة المصرية للتحرر
الوطني " تتسع قاعدة القسم النوبي والقسم السوداني الذي ينمو فيثبت جذوره في أرض السودان .وتنتهي الحرب العالمية الثانية ليواجه النوبيين واقعاً ظالماً وظروفاً أشد قسوة ، وخراباً من جراء تفشي وباء الملاريا في صعيد مصر وبلاد النوبة ليموت الآلاف منهم في ظل الإهمال الحكومي وانعدام الرعاية الطبية – كذلك نفوق المواشي – مما دعا أهالي قرى توماس وعافية وعنيبة وابريم النوبية الوقوف - إزاء لجان صرف التعويضات التي أرسلتها الحكومة – موقف المعارضة والمقاطعة ، واجتمعوا في جمعياتهم الخيرية وكونوا وفداً منهم ليطوف على الجهات الرسمية لتقديم الشكاوي والاحتجاجات الصارخة .
في ذلك الوقت كان طالب الحقوق " ذكي مراد " لم يتجاوز العشرين من عمره ، وقد أدرك بوعيه طبيعة القضية وحدد موقفه من السلطة وأدرك العلاقة بين البطون الخاوية الجائعة وجيوب باشوات الأرض المنتفخة ، بين عرق شعبه المتصبب على الأرض وبين موائد القمار … ومن هنا جسد بفكره وموقفه رفضه للحلول التي تقدمها الحكومة وتفرضها على النوبيين … وأخذ " ذكي مراد " يتحرك بنشاط وسط النوبيين يحاول تنظيمهم من أجل التصدي والضغط على النظام حتى يستجيب لمطالبهم .. ويكتب العرائض والشكاوي للمسئولين ويكتب للمجلات والجرائد عن حالاتهم الاجتماعية .