|
ثورة العقل
تركي لحسن
الحوار المتمدن-العدد: 5176 - 2016 / 5 / 28 - 02:45
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
" الثورات الحقيقة هي تلك التي تغير المعتقدات الأساسية لشعب ما " غوستاف لوبون لسنا في حاجة إلى ثورة تطيح بالوالي أو الوزير أو الرئيس أو حتى النظام الحاكم بأكمله، بقدر ما نحن بحاجة إلى ثورة تغير ما بداخل الأفراد، ثورة تنسف الأفكار و المعتقدات الفاسدة، ثورة تطيح بالخرافة و تنّصب العقل ملكا و أميرا .... كثيرا ما نسمع عن الحراك السياسي و الحراك الاجتماعي، كلام كبيرا ذو أثر ضئيل أو أحيانا منعدم. لأنه ليس سوى حراك في القشور، حراك ينتج عنه تغيير الأشخاص و المناصب مع ثبات المعتاد و المعتقد...فالحراك الحقيقي هو الذي ينتج عنه تغيير في المعتقدات و الأفكار و التصورات و المفاهيم و الآراء. يثور الشعب و يٌسقِط الأنظمة الحاكمة و يغير القادة إلا أن الأوضاع لا تتغير بل قد تزداد سوءا، لأن ما تغير سوى القشور. الأنظمة الفاسدة أصبحت بنيات مكتملة يستحيل تغييرها بتغيير الأشخاص، هناك من يعتقد خطأ أن تغيير الأنظمة السياسية مرهون بتغيير أشخاص معينين أو ما يسمى برموز النظام، و أنه بمجرد استبدال هؤلاء بآخرين سواء من أجيال لاحقة أو أشخاص ذوي إيديولوجيات مغايرة، سوف يتغير النظام و تتحسن الأحوال و يعم الرخاء و يسعد الناس.... لا غلو إذا قلنا أن هذه الأنظمة، العربية منها على الخصوص، و التي تعيش عقدها الخامس أو السادس، قد تمكنت من بناء إيديولوجيتها الخاصة، و إرساء بينة سياسية، اجتماعية، ثقافية، اقتصادية، عقائدية، شكلت مع مرور الوقت ضميرا جمعيا قاهرا للأفراد و مقاوما لكل محاولات التغيير، حتى الجماعية منها. حتى أن جينات هذه البنية أصبحت تنتقل من جيل إلى جيل متخطية للعقل و غير آبهة بالعلم، موظفة للدين أحيانا و للعادات و الأعراف الفاسدة أحيانا أخرى..... لقد نجحت هذه الأنظمة، حين تخطت مستوى الأفراد و شكلت عقلا جمعيا، في وضع آليات و تشكيل دهنيات و تكوين شخصيات و أساليب حياتية و نماذج للعلاقات الاجتماعية خاصة بها، فلم تعد خاصة بثلة من أولئك الأشخاص الذين أسسوها و ارسوا مبادئها، بل أصبحت ثقافة تسري في عروق الأجيال المتقدمة و المتأخرة، و يتبناها الجيل بعد الأخر دون تمحيص أو تمييز، و كثيرا ما نجد أشخاصا ينتقدون هذه الأنظمة انتقادات لاذعة غير أن أفكارهم و معتقداتهم، ممارساتهم و أفعالهم ، نابعة من صميم هذه البنيات، فهي من شكلت عقولهم و قولبت سلوكهم و نمذجت علاقاتهم الاجتماعية....بل كثرا ما نجد هؤلاء الأشخاص ( المنتقدِين ) يصبحون أشدّ فسادا حين يتولون مناصب قيادية. لقد تشكل فساد الأنظمة العربية في شكل مؤسسة محكومة بقواعد و ضوابط عفوية و تارة رسمية، هيمنت على عقول الأفراد إلى درجة أنها أصبحت تقهر كل محاولات الإصلاح الثورية و السلمية...فلم يعد من المفيد في الدول العربية تغيير الأشخاص، أو ما يسمى برؤؤس النظام، و كأن ضمير الأنظمة الفاسدة يخاطبنا فيقول : غيروا ما شئتم من الأفراد و القادة و اخلعوا ما شئتم من و الرؤساء، و أطيحوا بما شئتم من الحكومات، فستجدوني دوما بينكم أحكم كيف أشاء، فانا باق بينكم لن أزول ما دامت جراثيمي و فيروساتي تحيا في معتقداتكم و أفكاركم و أرواحكم...... فقبل أن نبدأ الثورة و نطالب بالتغيير، يستوجب علينا أن نحارب الفساد الكامن في ذواتنا و أنفسنا، لأننا إن لم نفعل فسنكون خير خلف يضمن ديمومة هذا الفساد....... قد يقول البعض أنني ذو أيديولوجية محافظة أحاول الدفاع عن هذه الأنظمة، غير أنني في الحقيقة أشد مقتا و كرها لها، إلا أنني مجبر على أن أتعامل معها بموضوعية، لأنها شبيهة بالشجرة المعمرة التي لو حاولنا اقتلاعها بالقوة و العنف، لتكبدنا خسائر جمة، فجذورها ضاربة في أعماق الأرض، متفرعة في أنحاء عديدة.... فلو تأملنا أحوالنا و رصدنا كل هذه الأجيال التي تداولت على السلطة لوجدنا أن الأخطاء تتكرر، و أن الأساليب المتبعة في التسيير و إدارة الشؤون العامة لم يطرأ عليها تغيير يذكر، و كأن هذا النظام كوّن روحا شريرا يسكن كل من يعتلى كرسيا سياسيا ، أو يتولى أمرا من أمور الناس أيا كانت مكانته و مرتبته الاجتماعية، أو أن هذه الأنظمة الفاسدة كونت فيروسا خطيرا ينتقل عن طريق الكراسي و المناصب القيادية، فكل من اعتلى كرسيا للسلطة، صغيرا كان أم كبيرا يصاب بهذا الفيروس الخبيث..... نسمع كثيرا عن مسؤولين صغار و كبار يلجئون إلى السحرة و المشعوذين من اجل البقاء في كراسيهم أو الطموح في مناصب أعلى، لكنهم يجهلون أن القوة السحرية لهذه الأنظمة أقوى مفعولا مما يقومون به، و انه لولا هذه القوى السحرية العجيبة لما تمكنوا من الحصول على ما تحصلوا عليه..... لقد شهدت العديد من الدول النامية و المتخلفة، الكثير من الانقلابات التي كانت تهدف إلى التغيير الجذري للأنظمة التي انقلبت عليها، وقد عاشت الدول العربية مؤخرا شبه ثورات، أو ما سموه بالربيع العربي، غير أن الزمن كان كفيلا أن يثبت لنا أن شيأ لم يتغير، في أساليب التسيير و الإدارة، بل كثيرا ما شهدنا فسادا أعم مما كان عليه الحال قبل الانقلاب أو الثورة، وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على ثبات هذه البنيات الفاسدة و على القوة القاهرة للأنظمة المتعفنة ، فكأن هذه الأخيرة قد طورت بنيات يستحيل مقاومتها بهذا النوع من الثورات،لأن فيروسات هذه البنيات قد ألِفت و تعودت على الأدوية و المضادات حتى أصبح من المستحيل علاجها بما هو متوفر..فلو تأملت قليلا لأدركت عدم نجاعة كل الوسائل المستخدمة من أجل الإصلاح، فلا المواعظ الدينية و لا الدروس الأخلاقية و لا الخطب السياسية و لا الإجراءات الاجتماعية و الحلول الاقتصادية أثبتت قدرتها و نجاحها في وجه بنية هذه الأنظمة الفاسدة. إن ما نحن في حاجة إليه ليس ثورة للانفعالات و العواطف أو ثورة على الفساد فقط و إنما ثورة على المعتقدات التي أفرزت هذا الفساد، إنها ثورة العقل.
#تركي_لحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإرهاب - الديني - كما أراه
-
السعادة الزوجية أو الحلم المفقود
المزيد.....
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
المزيد.....
-
ثورة تشرين
/ مظاهر ريسان
-
كراسات شيوعية (إيطاليا،سبتمبر 1920: وإحتلال المصانع) دائرة ل
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي
/ الحزب الشيوعي السوداني
-
كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها
/ تاج السر عثمان
-
غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا
...
/ علي أسعد وطفة
-
يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي
/ محمد دوير
-
احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها
/ فارس كمال نظمي و مازن حاتم
-
أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة-
/ دلير زنكنة
-
ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت
...
/ سعيد العليمى
-
عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة
/ حزب الكادحين
المزيد.....
|