|
الارهاب والفساد في رواية -ذاكرة الماء- واسيني الأعرج
رائد الحواري
الحوار المتمدن-العدد: 5168 - 2016 / 5 / 20 - 23:46
المحور:
الادب والفن
بعد زيارة الروائي العربي "واسيني الأعرج" إلى فلسطين، ومن ضمنها مدينة نابلس وللمرة الثانية، وجدنا تكريمه من خلال الحديث عن الأسبقية المعرفية التي جاءت في روايته "ذاكرة الماء" والتي يتحدث فيها عن فساد النظام السياسي في الجزائر، التي يمكننا أن نسقطها على بقية الانظمة العربية الرسمية، وعلى تخلف وهمجية حملة الفكر الديني. بهاتين القضيتين يطرح الكاتب همومه كمثقف وكمواطن، فهو يتعرض لهجمتين، الأولى من خلال فساد نظام الحكم، والثانية من خلال فساد حملة الفكر الديني وهمجيتهم، فينتج عن ذلك صراع ومواجهة مع هذين المعسكرين. ويترتب على هذا الوضع وجود تباين في المواقف بين الراوي وزوجته، الراوي يفضل البقاء في الوطن ومواجهة القتلة والفساد، والزوجة تجد الخروج من الوطن والابتعاد عن عمليات القتل والموت التي تطارد كل المثقفين كحل وحيد للموقف، فيكون لها ما تريد بأن تخرج مع ابنها إلى فرنسا، ويبقى الراوي وابنته في مواجهة القتلة والملاحقة التي تسبب له الإرباك والتوتر. هذا محور الحدث في الرواية، الراوي يوضح لنا كافة التفاصيل التي تؤرقه كمثقف مبدئي، ملتزم بموقفه، يرفض الهزيمة أو الهروب أمام شراسة وهمجية وتخلف القتلة، فيرى موت العديد من الأصدقاء والمقربين له بطرق بشعة، ومع هذا يصمد إلى آخر رمق، إلى أن يتأكد بأن بقاءه يوميا اضافيا يعني الموت الأكيد. الواقع ما تعرض له المواطن الجزائري يتماثل مع الحالة الفلسطينية، فكلاهما تعرض لاستعمار استيطاني، يسعى لسرقة الأرض وتغريب/تشريد/قتل/محو الشعب، لكن بعد أن قدم الحكم الوطني وجدنا حجم الانتهازية الكبير وتفشي ظاهرة الفساد بشكل هائل، حتى أنه بدأ يأخذ الصفة/العادة الطبيعية، كسلوك اجتماعي مقبول، أو غير محارب من الآخرين، فمن اشكال هذا الفساد، " ...وكان الضباط الوطنيون يتقاسمون البلاد بعيد استقلالها، ويبكون ببعض النفاق" ص38، انتهت الحروب وبدأ تقسيم الغنائم، لكنها ليست غنائم الأعداء، بل خيرات الوطن، الأرض، البيوت، المقرات، المناصب والمراكز والوظائف. ويلخص لنا "عمي إسماعيل" واقع الجزائر بعد "هواري بو مدين" بهذا القول: "نعرف فقط أن هذا الرجل بنى بلاده، وهؤلاء القاصرون يبيعونها بأرخص الأثمان ولا يجدون من يشتريها" ص61، بهذا الكلام يتم توصيف حالة الجزائر بعد (استقلالها)، فأي استقلال هذا!، وأي حرية كان يحلم بها المواطن، وأين الاحتلال الذي انتهى!. كل ما سبق متعلق بالنظام السياسي للحكم، أما فيما يتعلق بالإرهاب ورجالة فيصف لنا اعمالهم ونتائجها بهذا الشكل، "الجنازات يا حبيبتي صارت متنفسا، نرى الأحياء، نتعلم من شجاعتهم ومقاومتهم، الدينا لم تتحول إلى قيامة ولو صارت أنها صارت قاسية جدا" ص187، هذا الكلام يشير إلى بداية تفشي ظاهرة القتل، فهي كانت تدفع بالمثقفين إلى التشبث بالمكان والمقاومة رغم صعوبة المواجهة مع قتله متخفين بلباس رجل أمن أو سائق أو بائع. لكن بعد أن استفحل أكثر وصفه بهذا الشكل: "تصوري صار الآن يستكثرون فينا حتى الرصاصة، بكل بساطة نذبح كالخرفان أمام أولادنا، وقتلنا يرضي كل الذين يريدوننا أن نصمت نهائيا" ص194، بهذا الوصف يتم التحالف بين فساد رجال النظام وفساد رجال الدين، فكلاهما يسعى للتخلص من هؤلاء المعارضين لهم، فمصلحتهم واحدة في انهاء وجود أي مخالف أو معارض لهما، وإلا ما معنى أن يتم القتل بأشكال وطرق تعود إلى عصور ما قبل التاريخ، والنظام لا يحرك ساكنا؟. الفساد أكبر عدو للمواطن هو الفساد، والذي يتفوق بتأثيره السلبي على الاحتلال المباشر، فالفساد من النظام، يدمر الأخلاق في المجتمع دون مقاومة تتناسب وحجم خطورته، لكن في الاحتلال المباشر يتم مواجهه بكل قوة واصرار، من هنا الحديث عن فساد نظام الحكم أحد أهم أشكال المقومة للنظام، فأشكال الفساد منتشرة بكثرة، وعناصره يتكاثرون مع الوقت، ويبدلون هيأتهم/وظائفهم/مراكزهم كما يبدلون ثيابهم، يعريهم لنا الراوي من خلال حديث زوجته "مريم" التي تقول: "ـ أتعرف. أنه الرجل الذي استنطقني، وعراني مرات عديدة عند بوابة المعتقل، ها هو ذا يتحول بقدرة قادر إلى عضو في لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان" ص29، ذا الأمر ينطبق على العيد من رجال النظام الرسمي في المنطقة العربية، فهم يقدرون على دخول أي مؤسسة والتأثير فيها وفي عملها، وتسيرها حسب رغبتهم، بحيث يمكننا أن نعرفهم بأي مكان/وظيفة/مؤسسة موجودين، فهم منتشرون مع الجغرافيا، مع لهواء، وهذا يؤكد حجم ومساحة الفساد الموجودة في الوطن. وتضيف قائلة عن الفساد: "... هو الشخص الوحيد الأوحد الذي يصلي الفجر، ويزني الظهر، ويسرق في العصر، وفي العشاء يستغفر ربه ويصير وديعا بين فخذي زوجته، ولا يشعر بأي حرج ولا بأي تناقض أبدا" ص30، الدخول إلى نفسية الشخصية الفاسدة، وتحليلها بهذه التفاصيل، يشر إلى المعاناة التي يسببها الفساد والمفسدين للمواطن، فالمواطن بات يعي أدق التفاصيل عن حياة وسلوك الفاسدين، بحيث أصبح يقل على تحليل شخصية ونفسة الفاسد. حجم الظلم الذي يتعرض له المواطن يجعله يتحدث في امور حرجة، تسبب له الألم وتفضحه، لكنه لا يجد مفر من الحديث عنها، وتعرية الفساد ورجاله، وفضح عناصر النظام، الذين من المفترض أن يكونوا حماة للمواطن، يحدثنا الراوي على لسان مريم فتقول: "قالت أن أحدهم حاول اغتصابها، لكنها هددته بالصراخ بأعلى صوتها، فتراجع، لكن صاحبه الذي كان يتأمل المشهد شجعه، ـ نك لها ربها واش رح يصير؟؟ قحبة وخلاص. بنت لكا الناس" ص32، إذا كانت عناصر الأمن بهذه السفالة والقذارة، فكيف سيكون حال الموظفين الآخرين؟ ما يثير الدهشة أن هذا الفساد مبرر من قبل فاعليه، فهم يقومون به بمنهجية وقناعة مطلقة بصواب فعلتهم، فيصف لنا أحد هؤلاء الفاسدين موقفه من سرقة ثكنة عسكرية كانت للفرنسين بهذا القول: "شابي كلاتو الغابة، هذا ما ربحناه من هذه البلاد، في المدن أخذوا القصور والفلات وهنا استكثرتم علينا ثكنة عسكرية؟ يا الله روحوا العبوا بعيد" ص43، عقلنة ومنطقة السرقة بهذا الشكل يؤكد على عادية الفساد وانتشاره بين الكثير من الموظفين في الدولة، فالدولة/الوطن ليس أكثر من كعكة يتقاسمها المجاهدون فيما بينهم، والمواطن العادي فليذهب إلى الجحيم أو إلى أي مكان يريد، فالوطن مكان خاص، ملكية مخصصة لهؤلاء فقط، ولا يحق لسواهم أن يتمتعوا بخيراته. ينقنا الراوي إلى الحديث عن عموميات النظام الفاسد في الجزائر، فيقول عنه: "بلادنا غنية وهناك مافية مالية بلعت كل شيء وترفض أن يذهب كل شيء من يدها، ولكن حساباتها صغيرة، فهؤلاء القتلة عندما يصلون سيأكلون الأخضر واليابس" ص59، بهذا التوصيف يكون الفساد أحد أهم اسباب الخراب الحاصل في لبلاد، فرجاله منهمكين في تكديس الثروة، على حساب لمواطن، والقتلة يستفيدون من هذا الواقع ليتوغلوا أكثر بأعمالهم وهمجيتهم. الارهاب الفساد والتخلف ينتجان الارهاب والارهابين، فعندما يقوم الفاسد بعمله يكون على يقين وصواب فعلته، كذلك يكون الارهابي، فهو يمتلك الفتوى/الفكرة/القناعة/الإيمان بصواب ما يقوم به، فنجد العديد من مظاهر هذا التخلف والفساد والارهاب خذت مكانه في المجتمع، فالتغيرات السلبية/الرجعية/الورائية تنتشر كانتشار النار في لهشيم، "من غير لمعقول أن تباد معالم المدينة بهذا الشكل الهمجي وبهذه السرعة وسادة الأمر والنهي لا يعلمون؟ المدينة بدأت تزحف نحو الانقراض ليحل محلها ريف بدون عقل ولا تاريخ ولا ذاكرة، سوى الجفاف والرمال، ثم الرمل، ثم الرمل وحده الذي حول ساحات الشهداء والشوارع إلى ممرات لبيع سلع التهريب المقنن الآتية من كل أطراف الدنيا" ص51، فأول اشكال الارهاب تتمثل بقلب نظام المدينة، وتشويه صورتها، ومن ثم تحويلها إلى مدينة فارغة من مقومات المدن، فتمسى مجرد قرية، بلدة فارغ من الحيوية وحياة المدينة. الفكر الديني عندما يقدم على تخريب ودمار البلاد يعتمد على فكرة الحكم لله على الأرض، ومن يرفض فعليه بالسيف، هذا المبدأ الذي يعمل به في الجزائر تكرر في كافة الدول (الربيع العربي) هذا ما يقوله عبد ربه "يوم تستقيم لأمور في هذه البلاد سندعوهم إلى الرجوع إلى طريق الإيمان، ومن يرفض له السيف" ص64، بهذه العقلية يتم العمل من قبل رجال الدين، فهم يعملون لتستقسم لهم الأمور، وبعدها سيكون السيف هو الحد/القصاص لكل منن يخالف أو يعارض حكام الله على الأرض، أليس هذا ما تقوم به جماعات (المجاهدين) في بلداننا؟. كما دخل الراوي إلى نفسية رجال النظام وحللها لنا، يدخل إلى نفسة الارهابي ويحللها فيقول عنها: "الفاشية الرعوية الدينية، ليست قدرا على الإطلاق، قد يتسببون في خراب البلاد، قد يفككونها، بل كل شروط التفكيك متوفرة، ولكنهم إذا حكموا لن يحكموا إلا الرماد، وعندما لا يجدون ما يقتلونه، سيلتفتون نحو بعضهم بعضا ويتآكلون، هكذا القتلة دائما لا قضية لهم إلا التأويل والدم، في لحظة من اللحظات، يصير الكل مؤمنا، أو الكل كافرا" ص90، بهذه التحليل يكون الراوي قد تنبأ بما سيكون عليه الحال إذا وصل (المجاهدون) إلى الحكم، او سيطروا على مكان معين، سينشرون الخراب والموت والتدمير، ومن ثم سيقتلون بعضهم البعض، وهذا التحليل يحصل الآن في كل الدول التي وصلوا إليها، في الصومال، في سورية، في العراق، في ليبيا، في اليمن، وفي غزة، كل مكان يصلوا فيه يقتلون خصومهم وبقسوة وبكل بشاعة، وعندما ينتهون من خصومهم يقتلوا بعضهم البعض. القتل احد وسائل الارهاب، فهم يمارسونه بدون احساس بحرمة دم القتيل، فكما جاء في كلام "عبد ربه" السيف هو الحكم وهو القصاص العادل للمخالفين والمعارضين، "...فن أعرف أنه يتم ترتيبها بشكل متقن ومن طرف جماعة يعرفونها...اغتيل رمضان وقيل استشهد، ذبح جان سيناك، صديقي العزيز بعد أن اختار وطنا لم يجد شيئا يجازيه به إلا الذبح، الفنان محمد راسم بدوره ذبح هو وزوجته" ص133و134، من خلال قتل هؤلاء يتم قتل الابداع في الوطن، فنجد كل من قتل هو أما كاتب أو شاعر أو فنان، أو مفكر، بحيث لا يبقى في الساحة سوى صوت واحد صوت القتلة وفكرهم، وهذا ما حدث في سورية والعراق وليبيا. أما فيما يتعلق بتدمير وتخريب وقتل المدن والثقافة فيها، فنجد هذا القول الصادر عن احد افراد المجاهدين: "شوفي يا حرمة. مانطولش معك الكلام، أحدثك بشكل سلمي، أخرجي ودعينا نغلق بيت الأصنام هذا يرحم والديك" ص153، هذا الكلام متعلق بإغلاق المتحف الوطني، فهو في نظر المجاهدين ليس سوى مكان للأصنام من هنا يجب إغلاقه نهائيا والخلاص من هذا الوكر الخاص بالشياطين. أما فيما يتعلق بالمسرح فهو أيضا مكان للفسق والعياذ بالله! "عندما اقتربوا من المسرح الوطني أخرجوا العمال بسهولة وشمعوه بعد أن شمعوا قاعة العرض التي كانت تتهيأ لاستقبال المغنية البرتغالية ليندا دي سوزا" ص152، إذن كل م هو بعيد عن الدين، ولا يخدم الدين يجب محاربته والخلاص منه، فالمطلوب من رجال الله القيام بتطبيق حكم الله على الأرض، وبهذا يتم تطرد شياطين الانس والجن وكل ما يقرب منهما!.
الاغتراب هكذا حال لا بد أن يشعر الإنسان باغتراب عن هذا الواقع، عن المكان، عن الناس، فليس سهلا أن يتغير كل المحيط بنا ونبقى نحن على ما نحن فيه، كما أن القتل، وأين قتل؟، المقربين منا، والعزيزين علينا، والذين نحبهم ونجلهم يقتلوا دون أن يكون هناك رادع أو قصاص للقاتل، كل هذا يجعل الحياة صعبة وقاسية على من يعيش هكذا أوضاع، يصور لنا الراوي الاغتراب الذي يعيشه بهذا المشهد، "نهاية الأسبوع صارت قيامة، ...انسحب كل شيء من المدينة، الشوارع الزاهية، الأغاني، الألوان، الألبسة، الصبيات، صارت المدينة فجأة ذكورية وبدون معنى داخلي" ص32، بهذا الشكل يتم القضاء على الحياة في المدينة، فالمجاهد يريدها ذات لون واحد، صبغة واحدة، ونهج واحد، وفكر واحد، وسلوك واحد، هكذا يأمره الأمام، وعليه أن ينفذ أوامره الصادرة من الله نفسه. لم يكتفي الراوي بالحديث عن اغترابه عن المدينة، بل تغغل إلى مفهوم الوطن، الذي قال فيه: "أنا في وطن لم أشعر في أي يوم من الأيام ما يحسه في أي مواطن، من أمانة وراحة بال." ص72، فكثرة الفسادـ وتفشي الارهاب والقتل، جعله يحمل هذا الشعور بالاغتراب عن وطنه وليس عن مدينته وحسب. يتفاق الشعور بالاغتراب اكثر بحيث نجد تعبيرا اكثر قتامة من سابقه يقول فيه: " البلاد لم نعد نعرفها جيدا، ويبدو أنها هي أيضا بدورها نسيتنا" ص275، بهذا القول يكون الاغتراب قد أخذ اتجاهين، الأول متعلق بالراوي، والثاني متعلق بالوطن ذاته، فكلاهما يبتعد باتجاه عكس الآخر. الصراع الاغتراب يولد حالة من الصراع، صراع مع الآخرين، وصراع مع الذات، فالصراع الداخلي يكون أشد وطأة على الإنسان من الصراع الخارجي، لأنه متعلق بما نؤمن به، بما يجب أن يكون وما نفعل، بأن لا نخون ذاتنا قبل أن نخون المجتمع، الوطن، لكن لا بد للظرف أن يترك شيئا في النفس، وهذا ما يحدثنا به الراوي فيقول: "ينتابني شيء من التردد ضد الكثير من الأشياء الغامضة. ... هناك شيء غامض يربطني بهذه الأرض وهذا المكان المعزول، ربما حفنة تراب ما زلت أحتفظ بها وأرحل كلما كان ذلك ممكنا، أشم رائحتها وأشعر أن لي وطنا، حتى عندما يسرق مني هذا الوطن" ص13، فهنا نجد عملية شد وجذب للأفكار، المبدأ يجعل الراوي يتشبث بما يحمله من أفكار، والواقع يدفع به لخروج منها. يوضح لنا هذا الصراع بشكل أفضل من خلال هذا الحوار: "ـ هذا تبريرك، كم بقى من أصدقائك في الجزائر. الأغلبية قتلت وما تبقى حمل حقائبه. ـ قد تكون أنانيتي الصغيرة هي التي تبقيني وسط هذا الجحيم/ قد تكون بطولة دونكشوتية لا معنى لها إلا عندي، وعندي شخصيا. ماذا تبقى من الاشتراكية؟ من العروبة؟ من الثورة؟ من المستقبل؟ من السعادة؟ الوطنية؟" ص84، احتدام الصراع الداخلي بين المبادئ والواقع يتصاعد ويأخذ شكل الحرب، ولا بد من أن يصمد المبدئي فيها، لكي يكون راضا عن نفسه، وإلا سيغدو مثل الانتهازين الذي لا يفكرون إلا بأنفسهم ومصالحهم. اروع ما في الراوية هذا الصراع، الذي لا يجمل أو يبرر فعل الهزيمة، بخروج الراوي من الوطن، لكنه يجعل هذا الخروج، فعل بطولي، فعل ثوري، خارج سياق الأفكار التي يحملها الراوي، وكأن الفكرة التي جاءت بعد هذا الصراع الداخلي، بقراره الخروج من الوطن، تمثل فكر جديد ثوري تقدمي، يقضي بالحفاظ على ذاته ككاتب/كمفكر/كمعلم في الجامعة، وكأب وزوج، وعليه أن يعطي من يحبونه شيئا من وقته، من ذاته، من شخصيته، بحيث لا يكون انانيا، كما جاء في كلامه. من يعتقد بأن الخروج بفكرة جديدة مسألة عادية، وتكون بسرعة يكون واهم، فالأفكار/القرارات الحاسمة لا بد أن تخضع لعملية حمل طويلة نسبيا، ثم تأتي ألام المخاض، لكي يخرج هذا الفكر الجديد، فالأفكار الجديد كحال المرأة الحامل. الراوي يؤكد لنا هذا الأمر من خلال استمرار حديثه عن المخاض الذي يتعرض له، قبل ان يجد/يخرج فكرته الجديدة، : " أعود مهلوكة إلى البيت، صرنا مثل الآلة، أتحدث في شيء، وعقلي في مكان آخر، ومع ذلك نحاول أن نقوم بالواجب الأدنى، أيدينا صارت مقيدة، الأصدقاء يذبحون يوميا، ونحن نتنظر دورنا، بهدوء وخوف، هل نقبل الموت بصمت؟، نتسلح؟ ما هو الحل؟ يوميا أدرس تمر بذهني ككل هذه الحلات" ص145، الوضع الخارجي ينعكس على نفسية الراوي، فالأصدقاء يقتلون، وهنا يخسر/يفتقد المناصرين، قوة الارهاب تشتد وحجمه يزداد، وهذا ينعكس على الافكار، هل البقاء والثبات على فكرة عدم الخروج من الوطن صحيحة، أم أن الراوي بهذا الكلام أرد لنفسه، وأرادنا نحن المتلقين أن نستوعد الحالة التي يمر لها، من ثم نقف معه ونؤيد خروجه؟. أعتقد بأنه كان يركز على ما يمر به، لكي يجعلنا نحن نقف معهن ونؤيد موقفه، فلا نريده بطلا ميتا/مقتولا/شهيدا، بل حي بيننا، يقدم لنا كل ما هو جديد، وهذا حقه وحقنا عليه، أن لا يحرمنا من فكره وأدبه، فنحن في حاجة ملحة لمثل هذا الأدب ومثل هذا الأديب. يستمر الصراع داخل الراوي، حتى أننا نجده بدأ يعاني من ضيق الوقت وحصار المكان وبطش الجلاد، فيحدثنا عن خصوصية بسيطة متعلقة به : " أتساءل، يا ترى، هل سيسعفني اليوم القيام بكل ذلك، هل سيعطيني القتلة مهلة؟ هل يمكنني أن أسرق منهم كل هذا الشوق وهذا الحنين إلى مدينة أحبها وتقاتلني وتخاتلني؟" ص204، فهنا نجد الصراع أخذ يعطي اشارة على نهايته، ولا بد من حسمه وبسرعة، فالوقت، المكان، قدرة التحمل، كلها تجل عملية الخروج بقرار الانتهاء من هذا الوضح والمكان والزمان أمر لا بد منه، وإلا ستكون النهاية الموت، أو ما يشبه الانتحار. يرسل الراوي رسالة إلى زوجته "مريم" تمثل ذروة الصراع ووصوله إلى غايته النهائية، فلا شيء سيكون بعد هذا الوضع، إلا الانتصار على الواقع، أو الموت مع من ماتوا: " لا استطيع أن أستحضرك وأنا أغير دروب الخوف ورعشة الموت، ماذا سيحدث بعد قليل؟ هل سيسعفني الحظ لأضع الرسالة في صندوق البريد؟ أم ستمتصني رصاصة طائشة؟" ص221، بهذا الحال لا يمكن الاستمرار في الحياة، فحتى الوصل إلى مكتب البريد أصبح عملية حربية، بحاجة إلى تخطيط دقيق، وقرار سليم، ووقت مناسب. هل يحسم الراوي أمره ويبدأ يحدثنا عن الحياة، وليس الموت، عن المستقبل والعطاء، واليس السكون والجمود، يقول: "هل سأملك كل هذه القدرة الاستثنائية للدفاع عن الحياة وأنا أواجه الموت؟ هل سأنظر في وجه قاتلي بعينين مفتوحتين عن آخرهما. ...أن الناس ينتصرون على الموت في هذه البلاد بالإصرار والإستماتة في الحياة" ص253، فهنا نجد كلمة الحياة بدأ تأخذ مكانها في حديث الراوي، وكلمة الموت جاءت لتأكد حالة الصراع مع الحياة، وكأنه بهذا أرادنا أن نعرف أهمية الحياة، أهمية القرار الثوري الذي أتخذه، بضرورة التمسك بالحياة لا بالبقاء للموت، وهنا تكمن ذروة الابداع والتألق، الراوي جعلنا نعيش حالته، نفكر بطريقته، ثم قدم لنا الواقع وما فيه من لم وموت وقتل وتخريب، وبعدها جاءت المواجهة والصدام، ثم عدم التخلي عن المبادئ والأفكار، من خلال الوقوف والبقاء إلى جانب الأصدقاء، إلى أن لم يعد هناك أحد، إلى أن أصبح ارسال رسالة بالبريد يعد عملا حربيا، بعدها ستكون فكرة البقاء في هكذا وضع عملية انتحارية وليس بطولة، وهذا ما كان. التنوع الراوي يحدثنا عن أهمية تنوع الأفكار والمعتقدات في المجتمع، وهو يرفض الشكل/اللون الواحد، فمكا تتشكل الطبيعة من عناصر مختلفة، كذلك حال المجتمعات الإنسانية، التنوع يعطي اثراء وحيوية يعمق ثقافة المجتمع، لكن الفكر الرجعي يعدو إلى وجود فكر واحد، ولون واحد، وعقيدة واحدة، "سألني عن عدد مسيحي الجزائر، عن المكان، عن تاريخه، لماذا لا نرى مسيحيين في الطريق، كالمسلمين مثلا، سكان الحي اليهود الذي تجولنا فيه ولم يبق منه إلا اسمه، هل خرجوا كلهم" 168، الراوي في هذا المقطع يهاجم كل من عمل على إحداث خلل في تركيبة وبنية المجتمع، في كل من ساهم في هجرة الجزائري اليهودي والمسيحي من وطنهم، ويدعوا إلى أن يكون هناك تعدد وتنوع، فوحدة المعتقد تعني السجن والموت. الوطن الكاتب الجيد لا يفقد البوصلة، حتى لو جار عليه النظام، يبقى الوطن هو الملجأ، هو التاريخ، هو المستقبل، هو الحياة وما فيها من فرح وأمل، من هنا راوينا لا يستغني عن الوطن، فكان حضوره راسخ كرسوخ المبادئ فيه، فيحدثنا عن جده الأندلسي الذي غادر الأندلس مجبرا وقهرا يقول عنه: "جدي القديم، عندما غادر أندلسه التي نبت فيها، يقول الرواة، أنه لم يحمل في جيبه إلا حفنة تراب، عندما فاجأه الموت، طلى بها كل جسده ثم قال بأعلى صوته أمام الذين كانوا يحيطون باحتضاره. ـ طز في الموت، ها أنذا ألبس وطني" ص104، بهذه الرمزية يجعلنا الراوي ننجذب للوطن، نعيد مفهومنا عنه، يجمعنا/يصالحنا معه ومع ذاتنا، يدعونا نرضى به ونرضى عنه، فهو شيء لا يثمن، لا يختزل بكلمة أو بشيء، هو حياتنا وجودنا إنسانيتنا. ولهذا نجد الراوي يريد أن يقلد، يتماثل مع جده فيقول: "ولأني لا أستطيع أن أحمل وطنا بكامله، أو في حقيبة سفر يوم أنوي مغادرته نهائيا، من يدري؟ سأحمل على الأقل بعضا من أتربة البلاد ومائها ولن أرحل بدون وطن" ص105، من خلال هذه الكلمات يتأكد لنا المساحة التي يحتلها الوطن في نفس الإنسان، فهو عنصر الحياة والبقاء له، ولهذا أختار الراوي أن يحمل شيئا من الوطن، فهو لا يريد نسيانه، رغم ما فيه من فساد وقهر وتخلف، الوطن يبقى عنصر جذب للحياة، يثيرنا نحو العمل وعدم السكون، يجبرنا ـ بحب ـ على التشبث بالحياة والنماء والخصب. الحكم هناك كم كبير من الحكم يذكرها الراوي في "ذاكرة الماء" وكأنه من خلالها يضع خلاصة تجربته في الحياة أماما، تجربة المقاومة والصلاع، تجربته في الحب والانتماء للوطن، تجربة العذاب والخوف والموت التي لاحقته من قبل (المجاهدين) فيلخص لنا هذه التجربة بقوله عن الفساد: ةل لأن الأنظمة سقطت، يجب أن نسقط نحن أيضا؟ أن كل ما بني على خراب، يحمل في تكوينه شيئا من الخراب" ص25، دعوة التمسك بالمبدأ والثوابت الأخلاقية والفكرية، وعدم الانزلاق وراء التقليد، حتى لو كان من يقوم بالفعل أعلى رأس في الدولة، يجب الثبات على الأخلاق ومقامة الفساد. "هناك وجوه لا ننساها أبدا، وجوه الناس الذين نحبهم لأول مرة بصدق ويؤذوننا بعمق" ص30، هذا القول يتماثل مع المثل القائل: "ضربة الأخ أكثر وجعا من ضربة العدو" "أن اللعب بالدين لن يزيده إلا ابتعادا" ص69، بهذا الكلام يدعوا الراوي إلى عدم تداخل الدين بالسياسة، ووضع حد لرجال الدين الذين يتلاعبون به كيفما شاءوا. "ماذا يمكنني أن أفعل يا لله، كل شيء بدأ يصغر إلا هوة المأساة" ص85، كناية عن حجم الضغط الواقع علينا. "أمام الحريق لا نملك شيئا آخر سوى المواجهة، حتى ولو حولتنا إلى رماد" ص166، ضرورة الصمود وعدم التسليم بما هو كائن. "أن الحب عندما يصير واجبا، من الأحسن التخلي عنه نهائيا" ص178، كتأكيد على سمو الحب عن أي مفاهيم أخرى، فالحب لوحده قادر على جعلنا نفعل كل شيء بحب ورضى ومتعة. "عندما تقف أمام قاتلك الأحسن أن لا تصمت، علينا أن نواجه بعينين صافيتين" ص184، ضرورة الاحتفاظ بالكرامة والحق أثناء مواجهة القتلة وعلى ضورة عدم أبداء أي ندم أو خوف أمامهم. " لسنا في حاجة إلى شهادات جديدة، من أجل الوطن، يريدك واقفا تدافع عنه وليس في قبر" ص187، أهمية الحفاظ على النفس والعطاء معا، فالحياة والوطن متلازمين معا، وعلينا ان نحافظ على حياتنا وعطائنا للوطن. "المنفى هو أكبر عقوبة تسلط على الإنسان، ومن يتحمله فقد حقق درجة عليا من النضال" ص191و192، قسوة الابتعاد والحرمان من الوطن، وتأكيد لمفهوم الوطن الذي لا يثمن أو يقدر. "لولا الحلم لانقرضنا جميعا" ص250، أهمية الحلم/الأمل عند الإنسان، فهو المحفز على العمل والاستمرار في الحياة. "اليوم تغيرت الأدوات، لا رقابة على النص، نراقب أنفسنا ذاتيا، لقد قتلنا من الداخل بعدما احتل الرقيب مخبأ له في أدمغتنا" ص251، الجريمة التي نقترفها عندما نضع لأنفسنا قيود/سقف، نقف عنده تلبية لرغبة ما، لضغط ما، لطلب ما، لظرف ما. "عندما يغيب العقل، يصبح الجهل سيد الموقف" ص299، أنتشار الجهل في لمجتمع والنظام يقودنا إلى العماء والظلام. "عندما ينكسر عمق الناس، لا يمكن تصليحه بسهولة" ص270، تأكيد على حجم الضرر الذي يتركه المجتمع على الأفراد والجماعات، عندما يكون الجهل/الفساد/التخلف مسألة عادية/طبيعية لا تثير فينا أي شيء. "في لكتابة أجد أنسا وتوافقا خاص" ص274، أهمية الكتابة كمخرج من الأزمة/العزلة/الاغتراب الذي يعاني منه الإنسان.
هناك صورة الشيوعي من قبل النظام والمجاهدين وكلها كانت سلبية بالمطلق، ونجد ذكر للفلسطيني بصورته الايجابية، والحكم التركي بصورته السلبية، وهناك حديث عن الواقع العربي البائس.
#رائد_الحواري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انتصار المرأة في رواية -الحضارة أمي- إدريس الشرايبي
-
التجربة في رواية -المرآة مسيرة شمس- هديل الحساوي
-
تعدد القراءات في ديوان -عشق- حمودة الشايجي
-
السيرة المحفزة للمعرفة -رام الله التي هناك- محمود شقير
-
الكويت تنقذ جمهور القراء
-
-في اللغة والأدب وعلاقتهما بالقومية- ساطع الحصري
-
المعرفة بالشعر في ديوان -وسائد حجرية- مازن دويكات
-
البداية المتسرعة في مجموعة -خارج الصورة- محمد المقادمة
-
العنوان مفتاح المضمون في ديوان -ضجر الذئب- يوسف أبو لوز
-
تأثير النت
-
التراث الديني والشعبي في رواية -ملاك القرصة الأخيرة- سعيد نو
...
-
توضيح حول كتاب -الحرب الأهلية في صدر الإسلام- عمر أبو النصر
-
فرح
-
تجاوز المألوف في ديوان -أحلام السنونوة- علاء الدين كاتبة
-
عبث الفعل في ديوان -مقفى بالرماة- محمد لافي
-
لعادية في ديوان -أوراق من ذاكرة المسفر- أمجد محمد سعيد
-
نقد النقد في كتاب -ملامح السرد المعاصر- فراس حج محمد
-
نبل الشاعر في ديوان -صاحب الشأن- منصور الريكان
-
-حوار مع فراس حج محمد- حاوره رائد الحواري
-
الصراع والتوازن في ديوان -قنص متواصل- عمر أبو الهيجاء
المزيد.....
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|