|
قراءة نقدية في قصص مختارة لهدى توفيق
هدى توفيق
الحوار المتمدن-العدد: 5168 - 2016 / 5 / 20 - 18:23
المحور:
الادب والفن
- 1 - مجدى أحمد توفيق الأحزان المختلطة لا تقتل البسمة " عصا الشيخ مصطفى " ، و" ترانيم الحزن الابيض " ، و " كل الأحزان مختلطة " ثلاثة نصوص أراها تمثل قسما متميزا من سائر القصص في قصص مختارة لهدى توفيق عام 2007،. نشرت بعد ذلك في مجموعات متفرقة لا أقصد بالتميز أنها أفضل القصص ، فأنا أفضل أن يكون حكم التفضيل متروكا للقارئ يحسم كما يشاء ، له أن يختار النمط الذى تمثله القصص الثلاث ، وله أن يختار النمط الآخر الذى تمثله أية قصة من بقية القصص. ولكنى اقصد فحسب الإشارة إلى وجود نمطين من انماط كتابة القصة فى القصص المختارة ، يختلف كل نمط منهما عن الآخر اختلافا لايؤدى بحال إلى أن تفقد القصص المختارة وحدة الشخصية ، أو تعجز عن أن تصور روحا واحدة لكاتبة واحدة تبسط روحها على القصص الأخرى كلها . أما النمط الأول فهو يقوم على ادخال بعض التقنيات التى تفجر القصصية ، وتولد منها عالما غريبا ؛ تدخلها على موقف انساني درامي بسيط يحتفظ للقصة بالقصصية ، ولا يخرج بها إلى نسق من الكتابة عبر النوعية يتعذر معه التصنيف بين الأنواع الأدبيه ، تعذرا تاما ، وإن بقيت مواضع ، أو عناصر ، من التقنيات السردية ، تربك التصنيف بعض الشئ . وأما النمط الآخر فهو يعول ، فى المحل الأول ، على المشهد الإنسانى ، يطوع له التقنيات ، ويحكيه ببساطة ، ولا يشغل القارئ عنه . اتصورأن الفارق بين النمطين واضح بهذه الصورة ، ولكنى أتصور كذلك ، أن التقنيات التى أشير اليها لن تتضح إلا بوقفة بسيطة مع القصص الثلاث ، ومع قصة من القصص الآخرى فى المجموعة ، لنبدأ مع القصة الاولى . - 2 - إقرأ هذا المطلع : " أيها القارئ المغمور ، واللا قارئ المقهور، هل تقرأ قصتي ؟ هل تعتقد فى حقيقتها ؟ هل لديك ظنون فىّ بأنني معتوهة ، مجنونة ، بانني كائن غير موجود ، أرتدي " ميكرسكوب " الحياة، أدخل منظارا فى امعائك الدقيقة ، ستدرك أنك غائب ومغيب تعيش فقاعة هائلة شفافه تعج بالتفاهة ، تشاهد التليفزيون ، تقتل عقلك ، تسمع أقوالا ليست هي باقوال الحياة ، هيا انتبه...." هناك فوائد كثيرة فى هذه الفقرة ، أولها أنها تشير من خلال " القارئ المغمور، واللا قارئ المقهور" إلى تصورها للقارئ ، وهو تصور يرى أن مجتمع القراء ـ وبخاصة قراء القصة ـ مجتمع صغير محدود ، إن لم نقل أنه نادر ، وتشير عبارة " اللا قارئ المقهور " إلى سبب قوى من أسباب القلة ، وهو انتشار الأمية ـ اللا قراءةـ فى بلادنا ، ولايخلو الفريقان ، القراء ، والعاجزون عن القراءة ، من مصير مؤسف ؛ فالفريق الأول مغمور، بمقدار ما يعجز الأدب فى بلادنا عن أن يكون بابا لسعة الدخل ، أو للمكانة الاجتماعية ، أو للسلطة، أو للشهرة ، والفريق الآخر مقهور، لأنه يضم مجموعا ضخما من الفقراء ، المهمشين ، الذين تقهرهم ظروف الحياة ، وألوان السلطه قهرا غير رحيم ، ونستطيع أن نقول أن التهميش ـ بمعنى وقوف المرء خارج دائرة الضوء ، وخارج مدى الرعاية والكسب ، ناهيك عن السلطة و القوة ـ كلمة مناسبة لوصف الفريقين جميعا ، فكلاهما مهمش ، وكلاهما عاجز . وفى مقابل بيان الفقرة لتصورها للقارئ ، نجنى منها فائدة ثانية ، هى بيان تصورها للذات أمام نفسها ، وأمام الأخرين ، وهذا البيان هو مانستفيده من أحكام العته ، والجنون ، والغياب عن الوجود ، فى الفقرة ، تشعر الذات بأنها غريبة ، أو مغتربة، وتشعر بأنها محاصرة باحكام للقيمة تمثل وسائل للنفي ، والتغريب ، وأشكالا من العزل ، والتغييب .
- 3 - وفيما بين الفائدتين نجني فائدة ثالثة ، يمكن أن نرى فيها محصلة للفائدتين السابقتين ، أو نتيجه منطقية للمقدمتين السابقتين ، هذه هى وظيفة الكتابة. تكاد تتلخص هذه الوظيفة فى عبارة : " هيا انتبه " وظيفه الكتابة ، ها هنا ، تنبيه ، واثارة ، واستفزاز ، وتحريض ، وايقاظ . ترى الفقرة أن حياة الناس ضرب من الغياب والتغييب ، وتتخذ على هذا التصور مثالا وبرهانا مشهد الجلوس إلى التلفاز، وتلقي مواده تلقيا سلبيا لايقوم على التفاعل الإيجابي ، ولاينشط فى المشاهد العقل النقدي ، بل يجعله " يقتل عقله " ، ويصير " فقاعة هائلة شفافة ( ممتلئة) بالتفاهة " ، ويمتلئ باقوال مصنوعة صنعا فى ضوء قوانين إعلاميه لا تخلو من تزييف متعمد للحقائق المرة ، وبمقدار ما يصغى المرء لأقوال التلفاز، ينفصل انفصالا كبيرا عن أقوال الحياة نفسها ، وأصواتها ، وحقائقها ، أو نبضها ، ويصير" الناموس " الذى يحكم حياة المتلقي هو ناموس التغييب الدؤوب اليومي ، الذى يألفه المتلقي ، وتجرفه دواماته ، فيقبل عليه ، ويصير التغييب غيابا اراديا محضا ، لا يستمرئه فحسب ، بل يلتذ به ، ولا يشعر معه بنزيف العقل والدم المستمر طوال الوقت . والطريقة التى تنهجها الكتابة ـ بحسب الفقرة الحالية ـ لتنبيه الغافل ، هى أن " ترتدي ميكرسكوب الحياة " ، فتفتش فيها عن حقائقها ، وعن آلام المهمشين فيها ، لكى تكون منها صورة " أدبية " مناقضة للصورة " الإعلامية" ، أو تكون صورة إعلامية يصنعها الأدب تناقض الصورة الإعلامية التى يصنعها الإعلام ، واذا كانت الصورة التى يصنعها الإعلام تخاطب الحواس لتخدرها ، فان الصورة التى يصنعها الأدب تخاطب العقل ، تطالبه بالانتباه ، والتحليل ، وعمليات الإستنباط ، ليدرك حقائق الحياة التى ينشغل عنها طوال الوقت ، وتعد مخاطبة القارئ ، هنا ، وسيلة من وسا ئل اثارة عقله ، وحسه على التفكير النقدي والإ ستنباطي ، وحثه كذلك على التحول عن صور الإعلام المصنوعة ، إلى صور الحياة الحقيقية .
- 4 - وعلى هذا النحو نفهم لماذا ترى الذات نفسها محاصرة بأحكام العته ، والجنون ، والغياب ، فهذه الأحكام جزء من وسائل التغييب العامة التى تتناول المهمشين جميعا فى جنبات المجتمع قاطبة . وفى ضوء هذه الأفكار تمضي " عصا الشيخ مصطفى " من مخاطبة القارئ ، إلى شخصيتها الرئيسية، شخصية مطر ، ومن الخطاب بضمير المتكلم الذى يعود إلى المؤلفة عودا واضحا ، إلى الخطاب بضمير الراوي الغائب العليم ، الذي يحضر بدايه من قوله : " الواقع أن مطرا كان فى تلك الآونة عكس ذلك ،إنه رجل فى أواخر الثلاثين من عمره ، فياض بالعافية ، شديد العذوبة ، مشغول البال دائما بشئ ما ، ويتطلع الى بلوغ هدف لعله رفيع جدا أو صعب جدا "، ثم تمضي القصة من خطاب الراوي الغائب ، إلى خطاب الراوي المتكلم الذى يعود ضميره بوضوح إلى مطر نفسه ، لا إلى المؤلفة ، ولا إلى الراوي الغائب : " من يوم مولدى وأمى تشعر بأننى كائن غير متكيف تجاه عالم الأسرة المجيد ، إننى بذرة شؤم أو بذرة نجاح ، نعتتنى بإسم من أسماء الطبيعة كأنها تريد أن تخلدني بعنوان الشتاء المرادف الحبيب لنا ...... " وفى اللحظة التى يظهر فيها صوته يواجهنا بمشكلة الإسم التى نفهمها من الفقرة السابقة فى مخاطبة القارئ ؛ فهذا شاب " غير متكيف تجاه عالم الأسرة المجيد " ،، وعدم التكيف معناه التحرر من نواميس التغييب العامة التى عرفنا أن الكتابة تحاول مقاومتها لأجل الإلتفات إلى الحياة الحقيقية ، وأصواتها غير المزيفة ، والإلتفات ، هنا ، إلى الطبيعة يمثل هذه الفكرة ، ، إذن ، يحتاج الراوى الغائب إلى أن ينفق فقرة طويلة فى وصف وجه مطر، إقتطفنا منها مطلعها فحسب ؛ فالراوى يريد أن يؤكد على الطبيعة الإستثائية لمطر بوصفه واحدا من الخارجين على الناموس " قوانين التغييب " ، وهو لهذا يمثل وعيا مختلفا يوصف بأنه "غير متكيف " ، كما توصف الكاتبة ، فى الفقرة الأسبق ، بالعته ، والجنون ، والغياب .
- 5 - وتؤهل هذه الصفات مطرا لأن يدرك مافي الحياة حوله من دواع قوية للإكتئاب ، ولكن الناس حوله لن تفهم منطقه ، وستتصور أنه ليس مريضا نفسيا ، بل هو ممسوس ، قد تلبسه الجن ، من ثم يظهر الشيخ مصطفى بوصفه الرجل الذى يفترض فيه عندهم القدرة على اخراج الجن من الأجساد ، بعصاه الرهيبة التى لا يحتمل الجن ضرباتها . ولن تكون مخطئا إذا ذكرتك عصا مصطفى بعصا موسى ، يساعدك على هذا أن الإسمين متصوران ، ولكن التشابه هنا قائم على التناقض فى الحقيقة ، ذلك أن عصا موسى كان هدفها أن تكشف زيف السحر وخرافته ، فى حين تسعى عصا مصطفى الى أن تصنع له سحرا ، وتقنع الناس به . وفى مقابل شخصية مطر، المثقف ، اليساري ، المهندس المعماري ، الحزبي ، المتابع لحفلات الشيخ امام ، وللسينما الحديثة ، تأتى شخصية الشيخ مصطفى التى اضطرت معها القصه إلى التحول ، من جديد ، عن ضمير المتكلم العائد إلى مطر، إلى ضمير الغائب المحيط بأبعاد مصطفى ، وكما بذلت القصه جهدا غير قليل فى بناء صورة خاصة لمطر ، فهى تبذل جهدا مماثلا فى بناء صورة خاصة لمصطفى، ولن يفوتك الإلتفات إلى " حسناء " الزوجة البوسنية لمصطفى التى تشير إلى ظاهرة عرفتها مصر إبان أزمة البوسنة والهرسك ، وهى ظاهرة إنتقال كثير من فتياتها المسلمات إلى مصر للإقامة فيها والزواح من أبنائها ، وقد سمحت هذه الشخصية مع شخصيات أخرى مثل شيخ النحاتين للقصة باستطرادات وتحولات فى بؤرة السرد وسعت من عالمها ، وأتاحت الفرصة لإنشاء جو تغريبى لا يخلو من الإبتسام مع " الكيمو"، الجني المدعى لمطر ، والوعى يتواثب من أطراف من الثقافة الشعبية ، مثالها أبو زيد الهلالي ، إلى أطراف أخرى من التاريخ ، والسياسة ، فى لمحات سريعة غير مستوفاه ، حتى إنتهت القصة عند مشهد رعب مطر فى مواجهة عصا الشيخ مصطفى رعبا لا يخلو من دواعي الإبتسام كذلك ، والإشارة إلى دواعي
- 6 - الإبتسام فى القصة تؤكد أن تصور الكتابة لوظيفتها ليس تصورا مغرقا فى الكآبه بحال . وتعد شخصيه الأب لطيف فى " ترانيم الحزن الأبيض " صوره ثانية من الشيخ مصطفى ، والشخصيتان كلتاهما بريئتان من الدين ، او لنقل الدين برئ منهما ، فهما يصوران جوانب من الغيبوبة السارية فى الحياة ، قبل أن يصورا أي مكانة دينية متوهمة ، وفى مقابل الإسم الغريب لمطر، نجد إسما أخر غريبا للشخصية الرئيسية فى " ترانيم ....... " ، وهى شخصية السيدة " كفاح " ، والإنتقالات النشطة من ضمير من ضمائر السرد الى آخر ، ومن بؤرة من بؤر الحكي إلى بؤرة أخرى ، وجه ثالث من وجوه الشبه بين القصتين . ولكن مخاطبة القارئ ليس لها حضور ملحوظ فى الثانية، والشخصية العسكرية الممثله فى اللواء عصمت شكرى عبد الرحيم القوصي ، الظاهرة فى القصة الثانية ، ليس لها نظير فى الأولى ، كذلك تمتاز الثانية بظاهرة مناجاة الراوية لنفسها التى لم تظهر فى الأولى . " تقسمين يا كفاح ، والله ما كنت نائمة ، ولم اكن مستيقظة أيضا ولم يكن حلما عابرا ، بل كان روحك الممسوسة ، تحلق فى الأفق ، وتدخل الدائرة السوداء فى عقلك ، ترين نفسك تتدحرجين ككرة جولف صغيرة على ربوة عالية حجرية ليس بها أى استواء أو خضار تسقطين سقطة الموت المفاجئ ويحدث اللبس بينه وبين خيالات بالية عن الحياة التى ستصبح بعد لحظات قديمة ..... " ولاشك أن هذه الرؤية المصورة فى الفقرة تشبه إلى حد كبير رؤية مطر للعالم ، وانبثاق فكرة المس الروحاني من الدائرة السوداء فى العقل ، ومن العجز عن قراءة الحياة " فى وجهها الصحيح ، والوقوع فى إطار " خيالات بالية عن الحياة " ، ولن يكون علامة المس الإكتئاب الظاهر على مطر ، بل حادثا بدت فيه كأنها تحاول الإنتحار من آلام عشق تعجز عن التحرر منه أوتحقيقه ، ولما كانت الشرطه لا تستطيع علاج هذه الآلام ، فان اللجوء إلى عالم السحر أمرا طبيعى فى مجتمع فيه - 7 - " تمارين الحياة أقاويل و أحاديث عن إقتحام العالم الآخر، تفرغ عقلك بالتدريج كلما زادت ساعات مشاهدتك T.V " ، ولاشك أن العبارة المقتبسة الأخيرة ستذكر بقوة بما سبق فى القصة الأولى من إشارة إلى أثر التلفاز على تغييب وعى الناس ، والدفع بهم إلى وحدة السحر والخرافة . ومثلما إنطوت القصة الأولى على دواعي السخرية والإبتسام أبت القصة الثانية إلأ أن تنتهى بنكتة صريحة من النكات الشهيرة فى الشارع المصرى : " مر واحد خان الخليلي قتله " ، وهى النكتة اللغوية التى تلعب على إسم المنطقة المشهورة خان الخليلي ، والجملة الفعلية خان الخليلى ، ومن الطريف أن ترد كفاح على نكتة حبيبها قائلة : " ها ها ....... يستاهل ياعلى " . بقيت قصة " كل الأحزان مختلطة " ، وهى تشهد إنتقالا من العالم الشعبي ، الحافل بالخرافة ، الذى تواجهه شخصية غير متكيفة ، إلى عالم غير المتكيفين أنفسهم ، وإذا كنت قد لاحظت أن هذا العالم قاد القصة إلى أن تتشابه مع نصوص أدب العبث ـ مع " ثرثرة فوق النيل " على الأقل ـ تشابها يقف عند تجمع شخصيات مثقفة ، رافضة للإنسياق للوعى السائد ، مصرة على بقائها فى حمى عالمها الخاص ، منخرطة ، من ثم ، فى ثرثرات ، وألعاب لغوية ، لا تفضى إلى فعل حقيقي قادر على تغيير العالم ، فان هذه الملحوظة ستكون صائبه منك ، وإن تكن لاتعنى ، بأى حال من الأحوال ، أن القصة تعيد إنتاج نصا محددا من نصوص هذا النوع ، بقدر ما تعيد إنتاج هذا العالم نفسه ، لأن رؤية العالم المعلنة منذ السطور الأولى التي تخاطب القارئ ، على صدر المجموعه كلها ، تقتضي بان يرى المثقفون أنفسهم كائنات مهمشة ، مهددة بالإتهام بالجنون ،أو المس ، أو ضروب من العجز عن التكيف ، أو فقدان المنطق ، وهذا ما أدى بالمجموعة إلى هذا الشكل الأدبي . ولقد تميز هذا الشكل بأمرين مهمين : الأول هو الألعاب اللغوية التى أدعو لك ملاحظتها داخل النص ، والتى تنخرط شخصيات القصة فى لعبها معا ، كأنها تستشف فراغ اللغة ، وعجزها عن إبلاغ رسائل حقيقية فعالة ، تستشف فراغ اللغه ، - 8 - تتحسسها ، تجس طراوتها وفقدانها للصلابة ، وهى تمارس صورا شتى من ألعاب الكلمات ، أو لنقل ألعاب التواصل بوجه عام . الأمر الآخر هو تصور الحياة ضربا من السيرك ، فيه بهلونات تؤدي ألعابا رائعة مهمة : " بهلونات سيرك الحياة ، سيرك يتجاوز الواقع والخيال ، هو حد فاصل بين هذا وذاك ، إنهم بهلونات الحقيقة المرعبة ، العقل ، القلب ، الروح ، ..... ، الحب، لا نملك غير أن نبتسم بسخرية ، إنهم بهلونات الصراحة التى لا يصرح بها أبدا ، لأن الأشياء دائما ترفض أن تقال " . وبطبيعة الحال لاتعد الحياة هى السلوك اليومي التكراري ، ولا هى الحضور الإعلامي ، ولاهى أشكال السلطة ، ولاهى قوالب اللغة الساكنة ، ولكن الحياة الحقة خارج إطار نواميس التغييب كلها ، فى اللحظات التى يصير فيها السلوك الحي حركة بهلوانية بارعة مبدعة للتعبير عن حقائق الروح ، وللوعي بكوامن العقل والقلب ، لا للإتساق، والتكيف ، والخضوع للأنماط المقبولة إجتماعيا خضوعا محضا يخلو من الروح . من ثم نفهم أن مشاهد الحياة التى تلتقط فى قصص النمط الثاني هى دروب من الحركات البهلوانيه تبتكرها ، او ترتجلها ، شخصيات مهمشة ، لتطلق كوامن الروح من خلالها ، وتقاوم إحساسها المريع بالقوالب ، والأنماط ، وصور التكيف . ولا تخلو قصص النمط الأول الثلاث من هذه المشاهد فحالة مطر، وحالة كفاح ، وحالة جوهر ورفاقه ، هى صور من التعبير السلوكى العميق والمرتجل إنسانيا ، عن الحقائق المريعة ، ولكن قصص هذا النمط تضيف أمربن الأول إدارة القصة حول وعى متميز مثقف على نحو ما ، والآخر إضافة تقنيات ملحوظة ، من مخاطبة القارئ ، ومن تغيير الضمائر، وتغيير بؤر السرد ، وإستبقاء السخرية ـ المشار اليها مجددا فى الفقرة الحالية ـ ، فى مواضع بارزة من النص . ولك أن تستقرئ فى بقية القصص هذه المشاهد الكثيرة . - 9 - هناك مدرس الرسم بسوطه الرهيب فى" مدرب النمور" الذى رأته الراوية بعد سنوات طويلة ، جالسا على المقهى ــ بعد التقاعد ــ ببدلته نفسها ، جلسته الزائفة ، يدعى فيها بطولات يرويها على زملائه ، فقلدت ضحكته المبحوحة ، كانها تنتقم بالسخرية من نموذج السلطة الرهيب الذى كان يجسده . وفى " المستقر الاخير " تحزن الراوية لوفاة الجده حزنا ينتهى إلى ادراكها أن المستقر الأخير لجدتها سيكون فى قلبها ، لا فى لحدها ، وستضحك " فى ثلاثي اضواء المسرح " مع هؤلاء الذين يبحثون عن وظيفة فى مسرح ، دون أن يكونوا فنانين موهوبين ، وسط عشرات من المتقدمين ، ضحكا يتوقف على ادراكك للسخرية التى تستبطن الموقف كله ، والتى لاتخلو ، فى الحقيقه ، من ألم . وإذا كنت أبا أوأما ، ستبتسم في " اسكتش من الجحيم " مع الأم التى تعجزعن شراء الشيكولاته لطفلتها ، وتخفى إبتسامها من غضب الطفلة ، فاذا بعينيها تقع على المرأه ، تقرأ فى صورتها علامات الكهولة ، وستجد علاقة الإبنة بالأم تلوح ثانية فى " الرقص على البحر " ، ولكن من وجهه نظر الإبنة المحبة لأمها التى تصحب أمها فى رحلة بالقطار إلى الاسكندرية ، وحين تصلان إلى الإسكندرية ،وتجد الأم تسال : ماذا جرى ؟ القطار أتى بنا إلى هنا، فستدرك أن الأم ، طوال الوقت ، كانت ترتحل مع وعيها الداخلي ، وأنها أقرب ماتكون إلى الأم السابقة الواقفة أمام المرآه ترقب كهولتها ، وهى تراجع ساعات العمر الضائعة فى رحلة بالقطار توازى رحلة الوعي فى العمر المعيش نفسه . لا أريد أن ألخص النصوص . يكفى أن أدلك على ما أريد . هى مشاهد من لحظات تثوب فيها الشخصية إلى الوعى بمعان عميقة فى روحها، مثل شوارع كادت تنسانا ...... لا ننساها ـ ، أو مثل طفل عاجز شفاؤه فى محاورة صديق له محاورة مستمرة ، أو مثل بطل من أبطال العبور صار ساعيا للبريد طلبا للرزق ، ويدفن زميله : قائده . - 10 - هذه المشاهد كلها مصوره بلغة حريصة على لغة المناجاه ، أكثر من حرصها على الرصد المشهدي المتأني ، المستقصي للتفصيلات ، وحده ، إلى درجه تصورها قصة " أنا تصير رجلا " تصويرا واضحا ، فقد تجردت القصة من تفصيلات الواقع ، إلى حد ملحوظ ، وإكتفت بصورة ذهنية للحبيب الذى تناجيه فى صورة الطاووس المزهو أولا ، ثم فى صورة الضعيف المنهار المحتاج إلى الراوية ثانيا ، كما إنقلب مدرس الرسم الرهيب من الصورة الطاووسية أول الامر ، إلى صورة من يبدد وقته ، مقاوما الإغتراب ، آخر الأمر . وأنا كالمؤلفة ، أكتفى بتقرير هذه الأفكار التى أريدها عن وجود نمطين : الأول يصدرعن وعى بأزمة المثقف ، أو بأزمة الوعى المدرك الحاد ، والآخر يصدر عن وعى بلحظات الحياة المفعمة بالشعور، المفعمة بالحقائق المريرة الباسمة ، ويبدو لى أن هذا الوعى هو مايعطى هذه القصص جدارتها بالقراءة والتعاطف . مجدي أحمد توفيق 2007
#هدى_توفيق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النساء في المناطق المهمشة تطبيقا على واقع بني سويف
-
قصة للأطفال للكاتبة هدى توفيق بعنوان هناء وشيرين
-
قراءة في مجموعة قصصية للكاتبة هدى توفيق بعنوان (كهف البطء)
-
قراءة في مجموعة قصصية للكاتبة هدى توفيق بعنوان (مذاق الدهشة
...
-
زغرودة تبطل مفعول قنبلة قصة قصيرة
-
قصة قصيرة بعنوان السلام يعم الغابة
-
فأر الذاكرة الذي ابهجني وأبكاني في كأنه يعيش
-
مفتاح الفردوس في رواية صانع المفاتيح
-
شخص كان هنا أم محكيتان عن الجدة هو المسمى الأفضل
-
تغريدة الشجن والحب والموت
-
الجانب المعرفي في رواية دموع الإبل
-
متعة القراءة بالعامية في النص الروائي
-
دراما السياسة وفيولا في رواية فيوليت والبكباش
-
التباين في الخط السردي في رواية خمس نجوم
-
نصف ضوء وعالم النساء المهمش
-
مفردة التخييل بين الفن والمصادرة
-
أصوات الواحة التي ألهمتني
-
نحو عالم محمد ناجي
-
كيف قرأ عبد المنعم تليمه كتاب {في الشعر الجاهلي }
-
حكاية اليهود
المزيد.....
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|