|
وجوه بصرية: الذات والموضوع في رباعيات الشاعر حسن البياتي (1-3)
عدنان حسين أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 5164 - 2016 / 5 / 16 - 13:47
المحور:
الادب والفن
قد يجد القارئ أو الناقد المتخصص صعوبة في تجنيس كتاب "وجوهٌ بَصريّة" للشاعر حسن البياتي الصادر عن دار "الفارابي" ببيروت. ومردّ هذه الصعوبة يعود إلى أن الكتاب يجمع بين اليوميات، والمذكّرات، والسيرة الذاتية، والسيرة الغَيرية؛ سيرة أناس لا يخرجون عن إطار مدينة البصرة بمن فيهم الناس الذين وفدوا إليها من مدن عراقية أخرى، وأقاموا بين ظهرانيها أمثال الملحِّن كوكب حمزة، والشاعر ألفريد سمعان، والخطاط والشاعر محمد سعيد الصكَار، والفنان سليم البصري، والكاتب كامل شياع، والدكتور داخل حسن جريو، والدكتور محمد موسى وغيرهم الكثير، إذ تماهوا في المدينة أو أن المدينة قد تماهت فيهم إلى الدرجة التي أصبحوا فيها جزءًا من نسيجها الروحي والاجتماعي والثقافي ولم يعد بالإمكان فصلهم عنها تحت أية حجة أو ذريعة مهما كانت قوية أو صارمة. تقتصر هذه اللمحات السيرية الذاتية والغيرية على الأشخاص فقط ولا تمتدّ إلى الأمكنة والأحداث التي قد يفرد لها المؤلف الشاعر كتابًا خاصًا بها في القريب العاجل طالما أنه منهمك الآن في هذا الضرب من الإبداع الأدبي الذي تتسيّد فيه الرباعيات التي كتبها كلها على بحر عروضي واحد وهو "الرمَل". أما الشكل الشعري الذي اتخذته هذه الرباعيات فهو "شعر التفعيلة"، وقد التزم الشاعر القافية في الرباعيات جميعا باستثناء أربع رباعيات تمردت على هذا الشكل وعادت إلى نظام الشطرين وهي رباعية "عبدالله سالمين"، "فلاح هاشم"، "فيصل السامر" و "محمد بهلوان". ينتظم الكتاب في ستة أبواب، غير أن الباب الأول فقط يتألف من خمسة فصول، وهو أطولها طرًّا إذ يقع في ثمانين صفحة تشتمل على المبدعين في حقول "الموسيقا، والغناء، والرقص الإيقاعي، والشعر، والرواية، والقصة، والمقالة، والترجمة الأدبية، والمسرح، والسينما، والإذاعة، والتلفزيون، والفنون التشكيلية". وقد انضوى هذا الباب تحت عنوان "وجوه إبداعية". أما الأبواب الخمسة الأخرى فهي على التوالي: "وجوه نضالية"، "وجوه جامعية"، "وجوه رياضية"، "وجوه مألوفة" و "جوه شعبية". كما يضم الكتاب ثلاثة "وجوه استهلالية" ستتكرر رباعياتها في متن هذا السِفر الشعري الجميل، و "الرباعية المسك" التي يكرِّسها الشاعر للبصرة أو "الأم الحبيبة"، إضافة إلى "إشارات"التي ينصح المؤلف الشاعر بقراءتها قبل الولوج في فضاء الرباعيات التي تكشف عن شعرية هذا الشاعر وفذاذة رؤيته الفنية والفكرية والجمالية في آنٍ معا. يضم الكتاب بين دفتّيه 285 وجهًا بصْريًا، نسائيًا ورجاليًا من مشاربَ شتّى، وطبقات اجتماعية متعددة تهيمن فيها شرائح الأدباء والفنانين والأكاديميين والمثقفين والسياسيين بشكلٍ عام لكن هذه الهيمنة لا تمنع من وجود العامل، والفلاح، والخيّاط، والبقال، والمُخبِر، والسمسار، وبائعة الهوى وما إلى ذلك من مهنٍ معروفة. لابد من الإقرار أولاً بأنّ "أنا" الشاعر موجودة في العديد من الرباعيات، بل أنه خصّ نفسه برباعية يقول فيها: "أوَ حقاً أنتَ تنوي، جازماً، تكتب عن نفسك في البصرةِ شعرًا يا حسنْ؟ لِمَ لا؟ مَنْ يا ترى يعرفني أكثر من نفسيَ في بصرتنا، قل لي، إذنْ؟ -إي نعم! إنك للبصرة قدّمت - ومازلت - كثيراً، رغم هزّات المحن: موقفاً، جامعةً، فكراً منيراً، أدباً ينسابُ في مجرى الزمن. . . . . "(ص14). إنّ ما نعنيه هنا هو حضوره الفاعل والقوي في كل رباعية على انفراد لأنه يصبُّ فيها شيئًا من روحه ولهذا جاءت الرباعيات، في الأعمّ الأغلب، أصيلة صادقة تلامس شغاف قلب المتلقي، وتعلق بذاكرته لمدة زمنية طويلة. لا شك في أن السيرة الذاتية للشاعر والمؤلف حسن البياتي مهمة بمكان فلاغرابة أن ترتفع نبرة الذات، ويتسع الاهتمام بالمحيط الأسري لكن هذه النبرة الذاتية سرعان ما تذوب أو تتماهى بالنبرة الموضوعية، فهو وأولاده وأحفاده وأقاربه ومعارفه يشكّلون بالنتيجة جزءًا من النسيج الموضوعي لشعبنا العراقي الكريم. يزوِّدنا الشاعر في "إشارات" بمعلومات قيّمة عن زمكان هذه الرباعيات وطريقة تدوينها على آلة تسجيل ثم إفراغها على الورق، وضبطها لغويًا بإشراف مباشر منه حيث نعرف أن الشاعر حسن البياتي كان "مُحاطًا- فضلاً عن الشيخوخة والأدواء والبلايا . . . . . - بأصحاب ثلاثة هم العمى والعزلة والغربة"(ص197) ورغم ذلك فإن الإبداع ينتصر في خاتمة المطاف لأن إرادة الشاعر صُلبة، وشخصيته قوية، ولابد أن يذهب بتجربته الإبداعية الخلاقة إلى أقصاها. لم تستغرق هذه الرباعيات وقتًا طويلاً فقد شرع بكتابة أول رباعية في الأول من أيلول / سبتمبر 2007 وهي رباعية "فنان الشعب" فؤاد سالم وانتهى من آخر رباعية في 24 آب / أغسطس 2008 وهي رباعية الشهيد كامل شياع آخذين بنظر الاعتبار أن الرباعيات كلها قد كتبت في مدينة لندن. اعتمد الشاعر حسن البياتي على مصادر ومراجع متعددة في كتابة هذه النصوص الشعرية المعززة بالمعلومات السيرية عن كل شخصية على انفراد وأولى هذه المصادر وأهمها هي تجربته الشخصية التي عايشها بنفسه من خلال تواجده في مدينة البصرة على مدى عقدين من الزمان تقريبا حيث عمل أستاذًا جامعيًا وناشطًا ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا ونقابيًا. كما أفاد من شخصيات ثقافية وفنية بصرية أمثال فيصل لعيبي، عبّاس الجميلي، فلاح هاشم، طالب غالي، حميد البصري وعباس الفياض وآخرين لا يسع المجال لذكرهم جميعًا. سنتوقف مرة أخرى عند الوجوه الاستهلالية الثلاثة وأولها "البصرة اليسرى- أم الوجوه" لنشير إلى أهمية المُخصِّبات النصيّة Text Fertilizersمن جهة، والتعالقات الفنية Artistic Correlation من جهة أخرى. فقد استعمل الشاعر حسن البياتي هذه المخصِّبات والتعالقات بطريقة فنية ذكية تُحيل القارئ إلى الموروث الثقافي والفني البصري على وجه التحديد وتُذكِّره بأغانٍ مُحبّبة، وأناشيد وطنية، وهوسات شعبية يعرفها المواطن البصري على وجه الخصوص، مثلما يعرفها المواطن العراقي بشكلٍ عام. يقول حسن البياتي في رباعية "البصرة اليسرى- أم الوجوه": "بصرتي، حبّابتي، يا وردة الجوري، ويا "مركبْ هوانا"، رغم ليل الجبروتْ! أنا أحيا وأموتْ ثم أحيا، مرةً ثانية، سبعين مرهْ لأغني باسمك الخالد في وجداننا أجمل زهرهْ. ."(ص13). ما إن تطرق عبارة "مركبْ هوانا" سمع القارئ حتى تنثال في ذهنه أغنيات الفنان الراحل رضا علي كلها لكن هذه الأغنية تخص البصرة تحديدًا، أو تحيل إليها في أقل تقدير. ويمكن أن تكون هذه العبارة المُقتبَسة مُخصبًا للنص الجديد أو تعالقًا معه بهدف إثرائه وتعميق أبعاده الرمزية. وفي الرباعية ذاتها نقرأ جملة "أنا أحيا وأموت" التي تتعالق مباشرة مع أغنية "أحيا وأموت علبصره، أم التمر والخضرهْ" للفنان الراحل حضيري أبو عزيز الذي خصّ هذه المدينة بأغنية فيها الكثير من الأحاسيس العميقة والمشاعر الدفّاقة. يمحض الشاعر حسن البياتي فناننا التشكيلي فيصل لعيبي وعائلته حُبًا من نوع خاص فلاغرابة أن يخصّ هذه العائلة الكريمة بثلاث رباعيات مهمة يتداخل فيها الذات والموضوع ولعل أول هذه الرباعيات هي رباعية الفنان التشكيلي والكاتب الصحفي فيصل لعيبي التي يشكو فيها أن البصرة قد تبدلت كليًا ولم تعد البصرة الحلوة التي كان يعرفها سابقًا. ومردّ ذلك يعود إلى "يد الأشرار" التي عاثت بها، وإلى "أعداء المسرّة" الذين قلبوا حياتها رأسًا على عقب. ولعل ذروة هذه الرباعية تتمثل بالبيتين الأخيرين اللذين يختصران المحنة الكبرى التي عانى منها الفنانون والمثقفون العراقيون بسبب نظام الحكم الظلامي السابق الذي كان يستهدف الإبداع قبل كل شيء، ثم يأتي بعدها على منظومة القيم الأخلاقية والاجتماعية ليدمِّرما تباعا حيث يقول: "شنقوا التشكيل- نحتًا ورسومًا- خنقوا أحلى الأغاني، شرنقوا وجه المجرّه فانحنى البرحيّ واهتزت شناشيل الهوى آهًا وحسرهْ"(ص14) تلعب هذه الرباعيات الاستهلاليات الثلاث دورًا مهمًا في الكشف عن أبرز المحاور في مضامين هذا الكتاب الذي يهدف، من بين ما يهدف، إلى تعرية النظام الدكتاتوري السابق وما سبّبه لهذه المدينة الجميلة من خراب ودمار حيث أجهز على الإنسان البصري قبل أن ينقضّ على معمار المدينة ويشوّه معالمها الثقافية والفنية والجمالية. يشتمل الفصل الأول من الباب الأول على 26 وجهًا من الوجوه الموسيقية والغنائية والمتخصصة في الرقص الإيقاعي ولعل الفنان الراحل فؤاد سالم "طاب مثوىً" يأتي في مقدمة الفنانين البصريين الذين أطربوا المستمع العراقي، وغمروه بأصواتهم المرهفة الشجية التي تثير العواطف. تكشف هذه الرباعية عن محاور متعددة في شخصية الشاعر حسن البياتي الذي يقارن نفسه بأبي العلاء المعَرّي، رهين المحبسين، وما تنطوي عليه هذه المقارنة من ألم كبير لا يشعر به إلاّ من فقدَ نعمة البصر في حادث مُفجع. وبما أن هذه المقارنة سوف تتكرر في مواضع شتّى من الكتاب فإننا سنضعها جانبًا ونركز على التعالقات والمخصبات النصية سواء أكانت فنية أم فكرية، شخصية أم عامة. ففي هذه الرباعية يحيلنا الشاعر في البيت الأول إلى مقطع من أغنية "حنّه يا بويه رفاكَه" - كلنا نور أعيونكْ! ليتعالق مع ثيمتها الرئيسة ويحيلنا في الوقت ذاته إلى ذكرى طيبة تكشف عن المعدن النقي لهذا الفنان الكبير الذي كان يقول متلطفًا كلما قابل الشاعر حسن البياتي عبارة: "لا تهتم إحنه عيونك" التي كانت تترك في نفسه أثرًا طيبًا يخفِّف من مصابه الجلل الذي ألمّ به منذ عام 1999 وحتى الآن. يشكِّل هذا الفصل برمته مشهدًا "بانوراميًا" شاملاً للفن البصري ولا غرابة في أن تتصدر فرقة الطريق الموسيقية الغنائية هذا المشهد الفني العريض لحنًا وغناءًا ورقصًا إيقاعيًا، بقيادة الملحِّن الموسيقي والشاعر الرومانسي الرقيق طالب غالي الذي قال عنه الشاعر حسن البياتي في البيت الثاني من رباعيته:"نحن كنّا فوقهم، علمًا وفنًا، أدبًا حرًّا وأسفارَ أغانْ". أما في الرباعية المخصصة للفنانة سلمى إبراهيم، زوجة طالب غالي، ففيها تعالق نصي مع أغنية مشهورة على مستوى العراق وهي أغنية "لول- لوه- خلخالي صاح أودوّه" وهي من تأليف الشاعر الشهيد ذياب كَزار "أبو سرحان" وتلحين الفنان حميد البصري. ونظرًا لأهمية هذه الرباعية ثيمة، ولغة، وإيقاعًا خارجيًا نوردها بالكامل: "إيه، يا أمّ لنا، قولي لنا، لا تكتمينا، هل يعودْ زمنٌ ، كان به الخلخالُ قد صاحَ ودوّى، للوجود؟ أنا مازلتُ أمنّي النفس: لو بلّت شفاهي قطرةٌ من مائه الحلو- الحليلو . . . . . آهِ آهِ!!"(ص18). تعود بنا هذه الأغنية إلى سبعينات القرن الماضي حيث تمّ تصوير أوبريت "بيادر خير" و "المطرقة" وأغانٍ وطنية تمجد العراق أرضًا وشعبًا وطبيعة. يركز الشاعر في هذا الفصل على فرقة "الطريق" الموسيقية الغنائية التي عرفناها بنسختها الأولى برئاسة الفنان حميد البصري وعضوية زوجته الفنانة شوقية العطار إضافة إلى أناس آخرين. أما النسخة الثانية من الفرقة فهي تحمل الاسم ذاته لكنها انضوت تحت إطار الحزب الشيوعي العراقي وكانت برئاسة الفنان الموسيقي طالب غالي وعضوية سلمى إبراهيم، لنا طالب، رؤيا غالي، مرتضى غالي، عبدالله سالمين، سهيلة والمغني "أبو نهلة". يقترن اسم الفنان حميد البصري بفرقة الطريق أول الأمر لكنه سيعود لاحقًا ويؤسس فرقة موسيقة غنائية تحمل اسم "البصري" لأنها تضم عدة أفراد من عائلته بدءًا بالفنانة شوقية العطار، مرورًا بنديم وبيدر وسامر وانتهاءً بأور البصري لكن التركيز هنا سينصب على الفنان حميد البصري الذي يصفه حسن البياتي في رباعيته قائلاً: "أين أنتَ الآن يا شيخ الطربْ؟ لم تعد تحلو الليالي والأغاني في حِمى شط العرب."(ص22). جدير ذكره أن الفنان حميد البصري هو الذي قدّم شوقية العطار في أغنية "يا عشكَنه" التي أدّتها مع الفنان الراحل فؤاد سالم وحققت بواسطتها شهرة واسعة ضمن حدود العراق في الأقل. كما ساهم البصري في تقديم سيتا هاكوبيان التي أدت أغنية "الوهم" للشاعرة نازك الملائكة وتألقت فيها ثم بدأت تخط لنفسها طريقًا خاصًا بها ضمن المشهد الغنائي العراقي. يكتظ هذا الفصل بأسماء فنية لا يمكن تجاوزها أو غضّ الطرف لأنها تشكِّل جزءًا مهمًا من الذاكرة العراقية الحديثة كما أنّ الرباعيات المكرّسة تتعالق مع أبيات وصور شعرية لا يمكن أن ينساها المستمع العراقي لعل أبرزها أبيات الأغنية التي تقول: "عِد وانه أعد ونشوف / ياهو أكثر هموم / مِن عمري سبع سنين / وكَليبي مهضوم"(ص26). جدير ذكره أن هذه الأغنية مأخوذة التراث الفوكلوري العراقي وهي من تلحين الفنان الراحل محمد جواد أموري لكن الشاعر حسن البياتي تعالق مع هذه الأغنية وخلق رباعية فنية شديدة التعبير يقول في مطلعها: "ربّة الصوت الشجيّ، الساحر العذْب الرنين! أنا من عمريَ سبع أحسب الآهات، لكن لم تزل بغدادُ بغدادَ المحبة. . . . . قتلوا أحلامنا الخضراء، بثوا الرعب في كل زقاق، كل رحبهْ. . . . . غير أنّا سوف نبقى ننثر الورد، نغني لجميع الطيبين . . . . . (ص25) لا تغفل غالبية هذه الرباعيات ما فعله النظام الاستبدادي السابق بالشعب العراقي الذي ظل مقموعًا طوال ثلاثة عقود ونصف العقد ولما يزل القمع يأخذ أشكالاً متعددة أبشعها تجويع الشعب وإفقاره، وسرقة المال العام دون وازع أو ضمير. يتواصل التعالق مع أغنيات كثيرات نذكر منها- تمثيلاً لا حصرًا- أغنية "أتوبه من المحبة الكَلب ما يتوب" وأغنية "لو كَتلك حبيبي عيني فدوه" التي غنتهما الفنانة أمل خضيّر، شقيقة الفنانة المسرحية سليمة خضير التي خصّها الشاعر بواحدة من رباعياته الجميلة. ثمة أغنيات لا يمكن نسيانها ألبتّة مثل أغنية "يا بوبلم عشاري" التي أدّاها الفنان الراحل فؤاد سالم، وأغنية "يا نجمة" التي غنّاها الفنان حسين نعمة وعلقت في الذاكرة الجمعية للمستمعين العراقيين، أو أغنية "أفيش بروح الحنية أفيش أفيش" التي أداها الفنان سعدون جابر وسواها من الأغاني الجميلة التي شذّبت الذائقة العراقية وطبعتها بطابع خاص ينأى بنفسه عن الهبوط والسطحية والابتذال. تأتي أهمية الرباعية التي خصّ بها العندليب علاء الحدّاد لأكثر من سبب: الأول أن علاءً كان من الأصوات الجميلة المشذبة. أما السبب الثاني فهو التعالق الذي حصل بين رباعية الشاعر مع أغنية فوكلورية مشهورة كان يغنيها علاء وقد شاعت بين الناس حيث يقول مطلعها: "بنت عبيد حلوة ورفيعه / من تغسل الماعون تضوي الشِريعه". أما السبب الثالث والأخير فإن هذا المطرب الواعد قد غُيِّب بسبب تهمة التبعية الإيرانية ولم يُعرَف مصيرة بعد ذلك. وهذه ظاهرة مؤلمة شاعت في نهاية السبعينات حيث غُيِّب وهُجِّر آلاف العراقيين بحجة أصولهم الإيرانية. إذا كان الفنان المحبوب رياض أحمد "وفيًا لكؤوس الخمر حتى لحظة الموت الزؤام"(ص29) فإن المغنية ربيعة، صاحبة الحركات الإيقاعية الرائعة قد قُتلت ظلمًا بعد أدائها الجميل للأغنية الشعبية "هو وهاي وهيه" فقال عنها الشاعر حسن البياتي: "هو وهاي وهيه" - دوزنوها، ردِّدوها، فالأغاني لا تموتْ! وستبقى حيةً غنوتك الحلوة، يا بنتُ ربيعهْ، رغم أسياف رعاة الهلكوتْ- خانقي أحلى الأغاني، شانقي أزهى أزاهير الطبيعهْ!"(ص31). ثمة رباعيات كتبها الشاعر حسن البياتي لأسماء بازرة في عالمي التلحين والغناء مثل كوكب حمزة، والفنانة سيتا هوكبيان، ورياض أحمد وغيرهم من الأسماء اللامعة في سماء الفن العراقي. يضمّ الفصل الثاني من هذا الكتاب 30 شاعرًا وشاعرة بينهما اثنان من جيل الروّاد اللذين ابتكرا "شعر التفعيلة" وهما بدر شاكر السياب ونازك الملائكة. كما يزدان هذا الفصل بأسماء شعراء كبار أمثال محمود البريكان، وسعدي يوسف، وكاظم الحجاج، وعبد الكريم كاصد، ومحمد سعيد الصكار، إضافة إلى نخبة من الشعراء الشعبيين الذين أثروا المشهد الشعري العراقي بقصائدهم الشعبية والغنائية أمثال علي العضب، وفوزي السعد، وليلى لعيبي ووفاء عبد الرزاق وغيرهم من شعراء البصرة الذين يكتبون بالفصحى والمحكيّة. لا يمكن تغطية هذا العدد الكبير من الشعراء ولربما يحتاج بعضهم إلى أكثر من بحث أو دراسة نقدية منفصلة. وحسبنا في هذا المقام أن نتوقف عند الظواهر الرئيسة التي لفتت انتباه الشاعر حسن البياتي فخصّ كل واحد منهم برباعية استوحاها من موقف معين قد يكون ثقافيًا أو سياسيًا أو اجتماعيًا أو فكريًا أو أخلاقيًا. وإذا ما استثنينا الموقف السياسي الذي يُعتبر صارمًا ولا رجعة فيه، خصوصًا فيما يتعلق بالبعثيين المستبدين، والقوميين المتطرفين، وحرّاس الظلام من المتأسلمين اللاهثين وراء السلطة والمال، إذا ما استثنينا هؤلاء فإن المواقف الأخرى التي اتخذها الشاعر للكتابة عن هذا الوجه أو ذاك تبقى مسألة فيها نظر. فليس بالضرورة أن يكون هذا الشاعر أو الفنان أو الروائي أو الأكاديمي أو الرياضي سيئًا تمامًا أو سلبيًا بشكل مطلق. لقد استوحى الشاعر حسن البياتي ثيمات هذه القصائد من شطحات محددة خطرت في باله ومواقف حياتية معينة اضطرته لأن يكتب هذه الرباعيات آخذين بنظر الاعتبار أن غالبيتها مدْحية تقريضيّة تشيد بمواقف هذه الوجوه، وتثني على إبداعاتها الثقافية والفنية. ولعل الألحوظة الأبرز أن هذه الرباعيات تدوِّن سيرة مدينة البصرة من خلال اليساريين العراقيين الذي طبعوا حياة هذه المدينة بطابع خاص يتمثل بإنسانيته، ورغبة أبنائه في تحقيق الحلم الاشتراكي الجميل حتى وإن كان وهمًا أو ضربًا من التخيلات السوريالية التي لا يمكن لها أن تتحقق على أرض الواقع. لقد حاول الشاعر حسن البياتي تدوين سيرة مدينة البصرة من خلال سير هذه الوجوه، أو على الأصح من خلال لمحات محددة أو مواقف معينة لهذه الوجوه، متنوِّعة المشارب والمرجعيات. كما يمكن أن تُجنّس هذه الرباعيات كسِيرة موسوعية للوجوه البصرية التي تركت بصماتها في حياة المدينة وتاريخها القريب الذي يمتد في أقل تقدير منذ العهد الملكي وحتى يوم الناس هذا وإن كان التركيز منصبًّا على حقبة النظام الاستبدادي السابق الذي سحق إنسانية الإنسان، واستهدف مُثُله الأخلاقية، وحرمَهُ من الحياة الحرّة الكريمة التي تحياها البلدان والشعوب المتحضرة. أشرنا في مقدمة هذه الدراسة النقدية أن إضمامةً من هذه الرباعيات مستوحاة من اليوميات والمذكّرات الشخصية التي تصبُّ في خاتمة المطاف في سيرة الشاعر الذاتية والإبداعية والتي نعتبرها جزءًا مهمًا من السيرة الموسوعية لمدينة البصرة. فما الذي يمكن أن تقوله رباعية واحدة عن شاعر كبير ومجدد مثل السياب الذي غيّر ذائقة القرّاء العرب ووضعهم في مواجهة شكل ونمط جديد من الكتابة الشعرية؟ لذلك التجأ حسن البياتي إلى ذكرياته الشخصية مع السياب وأفاد منها في كتابة رباعية جميلة مستوحاة من لقاءاته المتواصلة معه منذ بدايات سنة 1950 حيث دأب على اللقاء بالسياب في مقهى حسن عجمي وعرض قصائده الجديدة عليه مستأنسًا برأيه وإذا لم تعجب السياب فإنه كان يمزقها في الحال. وفي عام 1953 نشرت له صحيفة "صوت الأهالي" فجاء السياب فرحًا مستبشرًا وطلب منه أن يسلمه نسخة خطيّة من القصيدة بعثها بنفسه إلى مجلة "الآداب" البيروتية التي نشرتها في عام 1954 لتفتح له كوّة جديدة في عالم الشعر الذي يهيمن عليه آنذاك عمالقة قصيدة التفعلية كالسياب ونازك الملائكة والبياتي وسواهم من الشعراء العرب. ونظرًا لأهمية هذه الرباعية في تويثق هذه الواقعة التي تكشف لنا مؤازرة السياب للشعراء الجدد الذين كانوا يظهرون تباعًا في المشهد الشعري العراقي نورد الرباعية الآتية التي يقول فيها حسن البياتي: "يا أبا غيلان، كم من مرةٍ مزقتُ أشعاري لديك! قبل أن تُبهرَ - يعلو وجهك الشاعر فيضٌ من حبور . . . . .- بـ "جنود الاحتلال" - الرحلة المثلى إليكْ، فتشدَّ الكفَّ: مرحى، هو ذا الشعر الذي يوقظ أعوادَ البخورْ!"(ص32) يفيد الشاعر حسن البياتي في كتابة رباعياته من السيرة الإبداعية لهذا الوجه أو ذاك. ففي رباعية نازك الملائكة يوظِّف الشاعر عناوين دواوينها في كتابة النص الشعري مثل "يغيّر البحرُ ألوانه" و "عاشقة الليل" وسوف نجد هذا التوظيف في أماكن أخرى من هذه الرباعيات. فإذا تعذّر على الشاعر اصطياد موقف ما فإنه قادر على صياغة ثيمة رباعيته من عناوين الكتب والدواوين الشعرية التي أنجزها الشاعر أو الكاتب الذي تتمحور حولة القصيدة. يعتبر البريكان من أهم الشعراء المحدثين في العراق وقدقُتل غدرًا في ظروف غامضة في شهر شباط عام 2002 وكان ديوانه "حرّاس الفنار" هو الشرارة التي أوقدت في روح الشاعر حسن البياتي جذوة رباعية جميلة ومؤثرة يقول فيها: "آه، لو عدت إلينا اليوم، يا أشرف حرّاس الفنارْ! لرأت عيناك ما يجري بأرض البصرة السمحاء من قتل ونهب ودمارْ . . . . . مزّقوا أغنى الثقافات، استهانوا، أحرقوا أحلى الثمارْ . . . . . آه، كلا! . . . لا تعد- تُذبح، مرارًا، بسكاكين رعاة الشر، أعداء المنارْ! . . . . . (ص34). وفي سياق القتل والتصفيات الجسدية أقدمَ النظام الدكتاتوري السابق على اغتيال الشاعر الغنائي ذياب كَزار "أبو سرحان" ببيروت وهو أحد مؤسسي "رابطة الأدباء والكُتّاب العراقيين" المناهضة لنظام البعث. ومن أشهر أغاني "أبو سرحان" أغنية "لول لوه" التي لحّنها حميد البصري وغنتها سلمى إبراهيم في أوبريت "بيادر خير" الذي ذاع صيته في مختلف أرجاء العراق فخصّه الشاعر حسن البياتي برباعية جميلة مؤثرة. ثمة شعراء وفدوا إلى البصرة وأصبحوا جزءًا من نسيجها الثقافي والاجتماعي والفكري أمثال الشاعر والخطاط محمد سعيد الصكار والشاعر ألفريد سمعان فلاغرابة أن يكتب عنهما أرهف النصوص الشعرية. وبالمقابل لم ينسَ حسن البياتي أولئك الشعراء الذين هادنوا البعث أو انتموا إليه وتحولوا إلى أدوات بشعة يسوط بها النظام مناوئيه مثل راضي السيفي والشاعر كاظم نعمة التميمي الذي كان يتغنى بالسلم والصداقة لكنه في أثناء حكم الطاغية كان يتمنى أن يُذكر اسم سيده الدكتاتور في الصلوات الخمس ! يعتمد الشاعر حسن البياتي في رباعيات الفصل الثالث المكرّس لكتّاب الرواية والقصة والمقالة والترجمة الأدبية على السير الإبداعية للأدباء والقصاصين والمترجمين ويبني عليها ثيمات رباعياته كما حصل مع رباعية الشهيد جليل المياح مؤلف رواية "جواد السحب الداكنة" التي صدرت عام 1969 وكانت نموذجًا للرواية الفنية وقد أعدم المياح لأنه مناهضًا لفكر البعث. أما الرباعية الثانية فقد كرّسها الشاعر حسن البياتي للروائي العراقي الرائد سليمان فيضي صاحب "الرواية الإيقاظية" التي كتبها عام 1919 في أثناء احتجازة بمدينة البصرة. وفيضي (الموصلي) كما هو معروف قد أُبعِد إلى البصرة واستقر فيها نهائيًا وانصرف إلى المحاماة والأنشطة الثقافية. وقد زاوجَ المؤلف في بناء هذه الرباعية بين المنحيين النحتي والأدبي مستحضرًا شخصية الفنان التشكيلي والنحات فيصل لعيبي الذي أعرب عن رغبته في إقامة تمثال للروائي سليمان فيضي في ساحة "أم البروم" أو على الكورنيش اعترافًا بالجميل الذي أسداه هذا الإيقاظي للبصرة خاصة والعراق بشكل عام. يقول الشاعر في مطلع الرباعية: "فيصل لعيبي، سيأتي زمنٌ توقظ فيه خير تمثالٍ لهذا العبقريَّ، الذي قد أيقظَ الآمال، من قرنٍ مضى، في كل قلب بصروي."(ص51-52)
#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رسائل ثقافية متبادلة بين الشاعر حسن البياني وبين أدباء آخرين
-
العيون السود ومتلازمة الخوف والانكسار
-
قراءة في رواية التيه والزيتون
-
التيه الفلسطيني ومأزق البحث عن الهوية
-
قراءات نقدية في شعر حسن البياتي ومؤلفاته وتراجمه على مدى ستة
...
-
50 كاتبًا عراقيًا وعربيًا يشيدون بأشعار حسن البياتي وتراجمه
-
تحطيم الحدود الفاصلة بين الروائي والوثائقي في فيلم (صدمة)
-
نظرة أدبية ونهج جديد في فهم النص القرآني
-
دور المنظورية في تفسير سورتي (عمّ والتكوير) لصلاح نيازي
-
من تقنيات التأليف والترجمة لصلاح نيازي
-
شتاءٌ مُلتهب: معركة أوكرانيا من أجل الحرية
-
عُطارد وحكاية الخلود في الجحيم الأبدي
-
تقنية الشخصية المُنشطرة في رواية -عِشق- لمريم مشتاوي
-
البطولة المضادة والأداء التعبيري في فيلم سافروجيت
-
ستيف جوبز. . صانع الأجهزة الحميمة والباحث عن الاستنارة الروح
...
-
الشاعر صقر بن سلطان القاسمي . . . ربّان الموجة المتمردة
-
جولة في الأعمال الشعرية الكاملة لأديب كمال الدين
-
سندريلا . . . الأميرة الغامضة
-
حارس الموتى. . رواية تختبر حدْس القرّاء (القائمة القصيرة لبو
...
-
لماذا سقطت أقنعة التنكّر والتمويه في فيلم -تاكسي طهران-؟
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|