علاء هاشم مناف
الحوار المتمدن-العدد: 5164 - 2016 / 5 / 16 - 03:19
المحور:
الادب والفن
فـــــي
التجربة السينميّة
(( ألفلملوجــــيا ))
نجيب محفوظ
أنموذجاً
فــــــي
روايته زقاق المدق
الدكتور
علاء هاشم مناف
المدخــــــــــــــــل
إن دلالة الوعي الإستطيقي في التجربة السينميّة ((الفلمولوجيا)) تعود الى ((الإستطيقيا)) ومحاورة هيباس الكبير لأفلاطون التي حاول السفسطائي هيباس ولكن دون جدوى في أن يقدم لسقراط تعريفاً منطقياً لعلم الجمال .(1)
وبقت هذه الإشكالية تقوم على المنطق الحسي المتذوق في دراسة المظاهر الأساسية للفن والعناصر التي تعد مركزاً له على مستوى التنظير والفعل العملي التطبيقي , وعلى المستوى النظري يقوم هذا المحور في دراسة الوعي لتلك القوانين الموضوعية التي تحدد الجانب الابستمولوجي وقواعد إنتاج منطق الأشياء المتعلّقة بالجمال ولكن المقابل هناك إبهام لهذه المواصفات في صنع العمل الجمالي الفني وفق قواعد ومرتكزات ومواصفات تؤكد عملية الحكم على ذلك المنطق الفعلي , الذي أساسه مرتبط بالفعل السيكولوجي والفعل السسيولوجي المرتبط منطقياً بعملية الإدراك الحسي , وأساس هذا الإدراك الحسي المرتبط بالمنظومة الذهنية وأساس هذه المنظومة الذهنية والتي ارتبطت بالمفردة اليونانية ,Aistheta التي تعني ذلك الإدراك الحسي . من هنا نقول بأن الصناعة السينميّة تعود إلى آلة ((الكاميرا)) وقد ظهر هذا الفن إلى جانب المسرح وفق تعبير الفنون الجملية , لان هذا المرفق الاستطيقي إلى جانب تكامله مع الفنون التطبيقية والعمليات الحرفية الآلية .
نقول إن السينما إطار فني نشأ على منطق الآلة التي أخذت جانبها التطوري من الاختراعات التي تحصّنت بالنظريات العلمية من ضوء , وصوتيات وبصريات وغيرها من تلك العلوم , وكل هذه الإشكاليات كانت قد إرتبطت إرتباطا وثيقاً بتفاصيل الآلية السينميّة , إلى جانب عوامل كثيرة منها : الفكرية , والفنّية والاستطيقية , ثم كان هناك الفعل الميداني في الإنتاج والتوزيع , وكذلك الذوق السينمي من قبل الشرائح السسيولوجية .
ومع حلول منتصف القرن التاسع عشر , كان رأي ستندال : بأن الرواية هي المرآة التي تسير في الطرقات .
________________________________________
(1) – احمد سالم , في التعبير السينمائي , الموسوعة الصغيرة , دار الشؤون الثقافية العامة بغداد , ط1 دار الحرية للطباعة بغداد , 1986 , ص 33.
وقبل نهاية القرن التاسع عشر تمردت الرواية عندما شخصها ستندال بالمرآة عليه وعلى تلك الطرقات التي كانت محصنّة حسب ستندال (1) .
وعلى ضوء ذلك ظهر من جديد يجمع كل هذه الفنون هو الفن السابع أي الحركة السينميّة أو مايطلق عليه الصور المتحركة وهكذا كانت سُنُّة التطور في تمرد الحركة السينمَية , فقد غابت هذه الحركة المتمّردة , فقد هجرت الزمكان العام إلى الزمكان الخاص أي الى مراكز الاستديوهات .
التقنية السينميّة
إن صناعة الشريط السينمي باعتباره التقنية اليقظة لإحاطة الجمهور بالابستمولوجيا لمزايا المنطق السينمي الخاص , ونحن قلنا في البداية من أن الوعي الإستطيقي في التجربة السينميّة من ناحية ((الفلملوجيا)) باعتبار أن تلك التقنية السينميّة سوف تبرهن للمتلقي والمشاهد بأن المنطق السينمي ليس هو المسرح ولا اللّوحة التشكيلّية ولا الإنجاز الأدبي من رواية أو سيناريو , وسوف يتبين من الأدوات السينميّة , ذلك الوصف اللامحدود والمتاح أمام المنطق الإبداعي في دوره التمثيلي ,كما أنه سيتبيّن من ذلك الفعل الحقيقي من خلال فعل الأشرطة السينميّة والسيناريوهات , إضافة إلى دور المخرج ودور الممثل والموسيقى للوصول إلى الجمهور المتلقي , ابتداء من عملية الفرز الإعلاني إلى الحدود النقدية , وصالات العرض من هنا سوف تتحقق من خلال قناة الشريط السينمي , لأنه النسق المحدد في العملية الإدراكية التي يتطلبها الجمهور المتلّقي, وكان للسينما دور كبير على إخراج قصص وروايات من أدبنا العربي وقد أقبلت السينما على الاستفادة من تلك المواهب من أُدباء لهم نتاجهم الأدبي الجاد والمتفرّد سواء على مستوى المسرّح أو القصص أو الروايات .
وسوف نناقش في هذه الدراسة فيلم زقاق المدق وهي رواية للأديب المصري المبدع نجيب محفوظ .
________________________________________
(1) – الدكتور علي شلش , تعريف النقد السينمائي , مشروع النشر المشترك , دار الشؤون الثقافية ((افاق عربية )) بغداد , الهيئة المصرية العامة للكتاب , القاهرة ط1 بدون تاريخ , ص 3
بيــــن القـــــاهرة الارستقراطية والقــــاهرة الشعبية
بعد أن تعرّض الروائي المصري نجيب محفوظ للقاهرة الارستقراطية وعلاقتها بالبرجوازية الصغيرة في روايته القاهرة الجديدة , كان حديث الروائي حديثاً مفصلياً عن القاهرة الشعبية وما يربطها بالطبقة البرجوازية الصغيرة في رواية خان الخليلي .
وفي رواية السراب كانت معالجة الروائي إطار فردي يعيش في حالة من الضياع لفرد من القاهرة الارستقراطية , من هنا جاء الوجه الطبيعي أن يأتي دور القاهرة الشعبية , ليقدم لنا نجيب محفوظ روايته زقاق المدق (1) .
زقاق المدق زقاق صغير في أحد الإحياء الشعبية بمدينة القاهرة , ومن المقهى الصغير الوحيد في ذلك الزقاق , وكان بصر الفنان قد أرتبط بالزمكان والعالم والتاريخ ,إذا تجاوزنا ذلك المظهر , فإن المقهى يشبه ثقب كان قد وجد في جدار , بل في ((جحيم)) باربوس الذي كان يراقب منه شخصية العالم كله أي أكثر من الحدود المقرّرة , هو نقطة انطلاق نجيب محفوظ إلى عمق المأساة المصرية , كان قد وجدها مرتبطة بمأساة التراث الإنساني المتشابك .
لقد كان الزقاق هو العين الباربوسية الفنية الحادة التي أبصرت ذلك الضياع الذي أصاب القاهرة الجديدة ومضطهد خان الخليلي في مستوى العمق المأساوي لمحجوب عبد الدايم وهو رمز الضياع الإنساني , لأن احمد عاكف كان رمزاً للاضطهاد البشري , في حين إنهما يشكلان زاويتين أساسيتين في المأساة المصرية من هنا يتبيّن الالتحام الداخلي لهذه الملّحمة , وهنا يجب أن تكون القراءة لأحدهما منفصلة عن الأحداث الأخرى .
إن الترابط الإنساني داخل هذا الزقاق , هو ترابط حي وعميق ويزداد قوة كلما ازددنا في عملية التوغل داخل بقية الشخصيات , وزقاق المدق هي مرحلة جديدة ومتطورة لكنها طبيعية لانها تقودنا إلى حقيقة المأساة داخل الطبيعة السسيولوجية (2) .
________________________________________
(1) – الدكتور عبد المحسن طه بدر ، الرؤية والادارة , نجيب محفوظ , دار المعارف ط3 , 1984 , ص 335.
(2) – الدكتور غالي شكري , المنتمي في أدب نجيب محفوظ , ط4 1987 بيروت , القاهرة , ص 142 ص 134 .
زقـــــــاق المـــــدق سينميّاً
يقوم فيلم زقاق المدق على رواية للكاتب المبدع نجيب محفوظ , وفيلم زقاق المدق من الأفلام المهمة في حقل الإنتاج السيمني , والفيلم من إنتاج القطاع الخاص , وقد كتب السيناريو , أديب المسرح سعد الدين وهبهّ .
بيـــن مسرحية زقــــاق المـــدق وفيلم زقـــاق المــــدق
في الإنتاج المسرحي لرواية زقاق المدق , تموت حميدة , بينما في الرواية يموت عباس الحلو , وهنا يتغيّر العمل في السيناريو المسرحي , بينما زقاق المدق عند نجيب محفوظ هو زقاق يعيش شبح القهر السياسي ويحاولون التملّص من قبضة هذه الإشكالية القهرية في الرواية , كان حسين كرشة قد صب جام غضبه على الزقاق وأهل الزقاق .
وانطلق في البحث عن الحياة التي أختارها وهو العمل في معسكرات الجيش الانكليزي , وسرعان ما طرد فعاد خائباً إلى الزقاق ومغلوباً على أمره , وهو أكثر قلقاً وسخطاً وشهوة لممارسة الحياة الايجابية الكريمة , كانت حميدة معلّقة آمالها على الزواج لكنها انهارت آمالها الواحدة بعد الأخرى , حيث تعرّضت للإغراء بحياة مترفة لكنها داعرة , فاختارت تلك الإرادات وفق القوة التي متنّت إراداتها بقوة ذلك التمرد الذي يلبسّها حتى تردّت في مستنقع الدعارة أي الدعارة المترفة .
عباس الحلو الذي أحب حميدة , وهو الحلاق البسيط الذي أحب الزقاق والقناعة بحياته , ولكن انصرافه عن الزقاق وهجرته بعد أن عمل مرتزقاً في معسكرات الاحتلال الانكليزي , وقد دفعه هذا التصرف لحبه العميق لحميدة والتسليم بحقها في الحياة الكريمة , وانطلق الى التل الكبير للعمل على توفير لحميدة هذه الحياة , وبعد أن عاد عباس الحلو الى الزقاق فلم يجد حميدة , وبعد التقائه بها فجأة وهو في مستوى منحط من اليأس والتعاسة , فكان علية الاّ أن يرحمها وانطلق يبحث عن العدو الحقيقي , وهو قوادها للانتقام منه .
في الزقاق هناك شخصيتان تثيران التساؤل :-
الاولى :- شخصية زيطة وهو الشبح المشوه والمخيف وهو صانع العاهات للمتسوّلين , ويلقب سلطان الظلام , وهو يتمتع بقذارة جسمية تكاد تكون بلا حدود , يوصف بهيمي الشهوات ينبش القبور ليسرق الجثث الميتة إي يسرق الأسنان الذهبية من الموتى ليركّبها إلى الأحياء .
وزيطة هو المحور المخيف في الرواية , وهو الدرك الأسفل في المجتمع المصري في العام 1944 , هذه الشخصية يقوم بنبش جثث الموتى , حيث الممارسة للّذة نفسها وهي اللّذة الشيطانية التي يشوه بها أجساد الشحاذين .
يأتي بهذا مقابل أجر صناعته وهوايته التي يمارسها بلّذة يشوبها الجنون , بعد أن يقوم بتشويه جثث الإحياء والأموات !
كان هذا الوضع البائس هو الذي يحرّك عملية الشجار داخل الزقاق , حيث السباب طافحة على الألسنة لاستفزاز الناس للوصول إلى عملية التمرد والضياع ,
أما الشخصية الثانية :- هي شخصية السيد رضوان الحسيني ذلك الأب المؤمن الوديع , لقد أراد أن يذهب إلى الحج , فكانت صراحته أكثر جرأة حين صرّح إلى مودعيه , بأن شعوره بالذنب كان غالباً عليه أثر سقوط حميدة ,والقبض على زيطة لقد تركت الشيطان يعبث بأهل جيرتي وأنا ذاهل عنه , قد يكون الإنسان الطيب الضمير عوناً لذلك الشيطان من حيث لا يدري وبدون قصد ؟
كان عباس الحلو , وقد أصطحب حسن كرشة ليضعا خطة للقبض على المجرم ((قواد حميدة)) وقد ذهبا إلى الملهى الذي تعمل فيه حميدة وفي الملهى وقعت عينه على حميدة التي كانت في حالة من الابتذال الرخيص وقد أحاط بها جنود الاحتلال ذلك العدو الجديد , وقد قذفها بزجاجة خمر جرحتها وقد شاهد دمها يسيل ذلك الدم الفاسد المستباح , بعدها وقع تحت إقدام المحتلّين الانكليز ... ثم أخذ يهتف حسين ! حتى سقط على الأرض .
هكذا مات عباس الحلو... ولم تمت حميدة , لقد كان موت حميدة في السينما والمسرح حسب السيناريو المكتوب , كانت لتفتدي عباس الذي لم تفكر فيه يوماً ما ولم تحبه , كان الحب يقع في مداخلات المكان في الزقاق وقد يكون حدث أخلاقي في المكان وقد يكون تعبير عن سقوط أخلاقي , إضافة إلى ذلك المنعرج المثالي القلق في منظومة الرواية المتكاملة , وهنا يأتي التحريف من خلال كتابة السيناريو , وما يترتب من مغزى سسيولوجي وسياسي مرسوم مسبقاً .
وعليه فإن مقتل عباس الحلو هو الموقف الأخلاقي الذي أضاء سيكولوجياً شخصية السيد رضوان الحسيني بعد أن تلبسه الذنب , حيث الشعور الوطني بعد أن أفلت من قبضة جنود الاحتلال الانكليزي .
لقد كان موت حميدة يعني موت رمز داعر لكنها في الوقت نفسه موقف رثائي حققه سعد الدين وحسن الإمام في الفيلم .
كان موت عباس الحلو , أثار السخط السسيولوجي على المحتلين الأشرار وسقوط حميدة في هذا المستنقع الداعر , كان قد عبر عنه رجاء النقاش بان حميدة كانت تمثل مصر عبر مرحلة الاحتلال في الأربعينيات ,إيحاء ورمز لتمزق تلك القيم السيكولوجية والسسيولوجية عبر الضغط السسيولوجي وكان موتها يشكل طفرة سيكولوجية وسسيولوجية تعّبر عن فعل سيكولوجي وسسيولوجي مبطّن , هناك منعطفات ومنعرجات هرمينوطيقية , قد شكل خارطة جديدة في هرمنيوطيق الرواية , على سبيل المثال , أن مصرع عباس الحلو قد يشكل منعرجاً هرمينوطيقياً في شخصية القواد الذي أشرف على بيع حياه عباس الحلو وحبه لحميدة , أي بان الحياة والحب وهذا فعلاً هرمينوطيقياً , وقد أشرف الانكليز المحتليَن على بيع جسد حميدة لأنها كانت تمثّل رمز مصر حسب رجاء النقاش .
وهنا تتأكد رموز الرواية من خلال هذه المنعرجات إن المغزى الهرمينوطيقي الذي تمّيز به موت حميدة هو مغزى أيحائي كون حميدة كانت تمثل مصر بعد الاحتلال الانكليزي , وهي الضحية السسيولوجية سيكولوجياً , أما موت عباس الحلو فهو ينطوي على مغزى سسيولوجي مكاني .
الخلاصة : نقول أن موت الاثنين هو نتيجة من نتائج الاحتلال الانكليزي وما نتج عن هذا الاحتلال من إشكاليات سياسية واقتصادية وسيكولوجية وسسيولوجية .
كان عباس الحلو هو شهيد الحب الفردي في المكان , وحميدة هي شهيدة نتائج الاحتلال لأن الاحتلال منعها من التعبير عن حريتها الفكرية , وقد سلبها الجانب الاقتصادي والخلقي , وعباس الحلو أراد إن يحقق لحميدة التي تمثل مصر حياة كريمة عندما عمل في معسكرات الاحتلال , حتى طرده من العمل , وهذه محصلة لنتائج الاحتلال , وعباس الحلو كان شهيد الحب المكاني وموت حميدة الانتحاري ليس هو الاختيار لحميدة , لقد كانت حميدة هي الضحية وعباس الحلو هو الضحية , وكل الشعب المصري هو ضحية الاحتلال الانكليزي , فانحراف حميدة كان سببه الاحتلال وحب عباس الحلو لحميدة هو حب فطري فردي من طرف واحد والمكان أو الزقاق هو الذي مهد لذلك , والتكوين السسيولوجي هو الذي دفع بعباس لكي يدافع عن إرث الحب لحميدة دون معرفتها بهذا الحب لكن الدافع كان دافعاً كدافع الشطّار والعيّارون في دفاعهم عن الأمكنة بعفوية وحبهم لهذه الأمكنة ورموزها , وعندما تفيض الأرواح من الأمكنة بعفوية لأن هذه الأرواح إنبنت على حب المكان وكانت حميدة هي رمز مصر عند نجيب محفوظ وعند رجاء النقاش هي الداعرة والرمز بعد الاحتلال , لكن الاحتلال كان قاسيا على الشعب المصري , كما كان قاسياً على العراقيين الاحتلال الانكليزي بعد أن مزق وحدة الشعب العراقي إلى طوائف وإثنيات ولكن بقي الشعب المصري موحداً وسيبقى الشعب العراقي موحداً .
لقد صنع الاحتلال الانكليزي ما صنعه في مصر من فوضى وكم الافواه , وقد رمز له نجيب محفوظ ((بالأورنس)) وهو العالم المخيف والمرعب كان قد صنعه الانكليزي ليقولوا للشباب المصري , أنه لا مفر ألاّ العمل مع الاحتلال وخدمة الانكليز.
و ((الأورنس)) إصطلاح وهمي لمكان يكون المرء مسلوب الإرادة والكرامة حتى يفقد أخلاقه حتى يتطبّع في حب الانكليز .
هذا الهرمينوطيق جاء في تشكيلة نجيب محفوظ , أما عند المخرج حسن الإمام ((فالاورنس)) هو عبارة عن مصنع مكاني شيّده الاحتلال الانكليزي كما حصل في عملية الاحتلال للعراق , حيث كّنا نلاحظ ((الأورنس)) العراقي وهي القواعد الجوية الأمريكية ومعسكرات الاحتلال وكانت هذه الأماكن قد خصصت للأدلاّء من الخونة , وذهب من ذهب للعمل في هذه القواعد الجوية والمعسكرات سواء بقصد أو بدون قصد من أمثال عباس الحلو , وقبل ذلك الاحتلال الانكليزي للعراق ولا ننسى ما فعله المحتلّون بالعراق , نقول أن عملية النسج للشخصية السينميّة مثل عباس الحلو ذلك الشاب الفطري الذي جاء ليعمل في ((الأورنس)) ليحصل على المادة حتى يتزوج حميدة , نراه في الفيلم من إخراج حسن الإمام , غامض الشخصية في حين على مستوى الرواية تختلف هذه الشخصية , فهو يحتل مكانته عند أهل الزقاق , من هنا تختلف الرؤية السينميّة عن الرؤية والأداة في الرواية .
سينـــــاريـــو زقـــــاق المـــــدق
الأستاذ سعد الدين وهبة هو من من كتب السيناريو , هناك عدة ملاحظات على كتابة السيناريو منها :-
1. هناك دقة في الكتابة , إضافة إلى التماسك في الجمل الحوارية .
2. هناك مباشرة في مخرجات الألفاظ , وهي ألفاظ تنحو المنحى الواقعي إضافة إلى سوقيتها التي تصدم الذوق , لكنها من جانب آخر فهي جزء من المنظومة السسيولوجية والسيكولوجية للزقاق .
3. عدم التزام سعد الدين وهبة بأصول الرواية وحرفيتها .
4. لقد أصاب حميدة التي مثلت رمز مصر ما أصاب درويش .
5. وقد كان للسيد رضوان ما حققه من انجاز هو ما فاز به الدكتور البوشي , فقد ركز سعد الدين وهبة على الجانب الدرامي , حيث تحدد كنهْ الصراع بين حميدة وشخصية فرج ,أي أن سعد الدين وهبة كان قد ركز على شخصيات دون شخصيات أخرى , وقد أدى هذا بدوره إلى تراجع شخصية زيطة وشخصية البوشي , إضافة إلى الدرويش والسيد رضوان .
6. هناك اختلاف واضح بين البناء الروائي في عملية ألـــ Dialog.
والـــ Dialog عند أمنة الصاوي في إعدادها للرواية مسرحياً ورغم ان سعد الدين وهبة نجح في الـــDialog رغم ان هناك إشكالية في الـــDialog عند سعد الدين وهبة في الحوار الذي دار بين فرج وحميدة والذي تنتج عنه الفرقة بعد أن عادت اليه في اليوم التالي بعد أن أسرّها بأنه قواد وهذا الإشكال كان قد غاب في ثنايا الرواية , ونحن نعرف أن البناء الروائي هو غير البناء في السيناريو وهذا الموضوع يذكرّنا بالروائي الكبير ارنست همنغواي ,عندما حظر إعداد روايته فيلماً وهي لمن تقرع الأجراس وبعد نهاية الفيلم قال :
((هذه ليست روايتي )) إذاً السينارست يغير في الرواية ولا يلتزم بنصّها .
شخصّـــيات الفــــيلم
كان للتجربة الإستطيقية وفي أحسن حالاتها في موضوع تجربة التمثيل , اي حين يتم الإعجاب بالنص المبني على السيناريو وبالموضوع الروائي ذاته , هنا يتم الفصل عن علاقته المتبادلة بالأشياء , وقد نشعر بأن الحياة قد توقفت بشكل تام , لأننا قد استغرقنا تماماً بالموضوع الماثل أمامنا ونترك الأشياء الأخرى المتعلّقة بفكرة النشاط الفني الإستطيقي الذي يتطلّع إلى ذلك المستقبل الفني , نقول هذه قد تكون الطريقة التي نشعر من خلالها بالتجربة الفنية .
إننا في ذلك نفسر تلك الطبيعة المميزة لهذه التجربة , ولكن علينا ينبغي ألاّ نتجاهل تلك الحقيقة الواضحة , ولكنها هامة جداً لأن المدرك الاستطيقي , يهتم بالأمور الماضية , وكذلك المستقبلية , وعليه أن يخوض التجربة بعينها وبطبيعتها , وقد حمل معه تاريخه الماضي بأسره , إضافة إلى امتلاكه قدر معين من المنحى الأبستمولوجي , ومعتقدات وقيم معينة , واستعدادات تتعلّق بعملية الانفعال خاصه به والطريقة بالاستجابة للموضوع المعني , الذي تقرّر إلى حدٍ بعيد بالتجربة الماضية وهذا ينطبق على شخصية الممثل .
وفي أطار هذا السيناريو وحسب رؤية حسن الإمام المخرج للفيلم وهذا ما حصل في أكثر أفلامه , كان تركيز حسن الإمام على حميدة وفرج وهو في هذه الحالة لم يستطيع أن يزاوج بين تلك الشخصيات على سبيل المثال :
1) عبد الوارث عسر.
2) البارودي .
3) حسين رياض.
4) توفيق الدقن .
وقد حول هؤلاء إلى كومبارس , مع الاختلاف الدقيق في شخصية شادية التي لعبت دور حميدة في الرواية وقد نجحت شادية في هذا الدور بسبب مخارجها الصوتية في نطق الألفاظ ,إضافة الى الرقص والغناء لإمتاع جيش الاحتلال الانكليزي , وقد مثل شخصية فرج هو الممثل يوسف شعبان باعتباره قواداً , وهذه متعلّقة بخواص الدور الموكل إليه , وقد مثل شخصية المعلم كرشة ,محمد رضا.
ومثل شخصية العنتيل توفيق الدقن , ومثل حسن يوسف دور حسين كرشة وكان لصلاح قابيل الذي لعب دور عباس الحلو , وكذلك عبد المنعم إبراهيم أدى دوره بشكل ممتاز .
المــــكان في فلسفة المخـــرج حسن الإمـــام
لقد كان الاهتمام بزقاق المدق لأنها الأساس في فلسفة الزمكان وأجواء الحرب العالمية الثانية , ووجود الاحتلال الانكليزي لمصر وزقاق المدق لمحفوظ هي أُم الروايات التي كتبها نجيب محفوظ . ومعظم ما جاء بعدها من الثلاثية وغيرها فهي نتاج لزقاق المدق , فالرواية من جهة تعبر عن شرائح سسيولوجية متعددة , والرواية متركبّة من عدة روايات وقصص , متداخلة بعضها مع البعض الآخر في إطار الزمكان , فهي من جانب أعدت مسرحياً ونجحت عندما قدمتها ((فرقة المسرح الحر)) والملاحظ أن ((الكاميرا)) كانت هي الناطق الحقيقي لفلسفة الإخراج السينمي , فكان الانتقال ((للكاميرا)) بين أركان الزقاق وبيوته العتيقة المتداعيه ودكاكينه وحسن الإمام استفاد من فيلم ((هيتشكوك)) النافذة الخلفية , الذي بطلة ((جيمس ستيوات)) والنافذة الخلفية هي امتداد لكافكا المسخ من ناحية الرؤية لثقب ((باربوس)) والإنسان الصرصار.
وكانت الكاميرا لم تخرج خارج غرفة ((جيمس ستيورات)) لذلك لم يغادر كافكا مكانه فالمحور الرئيس في المكان ((الزقاق)) هي حميدة وعندما خرج عباس الحلو لم تخرج الكاميرا , ولكن عندما خرجت حميدة خرجت معها الكاميرا وخرج الفيلم بأكمله , وكانت فلسفة المكان عند حسن الأمام هي حميدة , إلى فرج والكباريه عندما بدأت الشغل كراقصة في الكباريه ,وكانت الكاميرا معها حتى موتها في الزقاق رغم أن حسن الإمام في هذا الفيلم حشد الكثير من الممثلين ولكن بقيت حميدة هي محور المكان وبقيت الكاميرا هي المتابعة للمكان ولحميدة , لقد كانت صورة حميدة هي البروز المتوثب على ذلك السطح السيكولوجي للزقاق , وكانت حميدة تعكس الترابط الأساس بين فلسفة المكان عبر الكاميرا بعد أن أرادت أن يتم التداخل بين الحدث السيكولوجي الجوهري عبر فلسفة الإخراج للمكان .
إننا أمام طراز من التأمل للمخرج حسن الإمام , وهذا المخرج المتأمل فلسفياً للمكان ولحميدة , فكان حسن الإمام المتأمل فلسفياً للمكان يحاول إدماج كل منعطف جديد داخل مجموعة من تلك الأفكار المكانية الذي أثبت صحتها سيكولوجياً من خلال المنطق الفكري وهذا ما حدث طيلة العرض للفيلم عندما حدد فلسفة المكان إبتداءٍ من خروج حميدة من الزقاق حتى عودتها إلى الزقاق , فكان المكان بالنسبة إلى المخرج حسن الإمام هو عبارة عن ثورة كانت قد حدثت من خلال الزقاق وحميدة والكاميرا , فالعلاقة التي ربطت المخرج حسن الإمام والسببية في العمق الواعي لهذا الانتماء الكبير للروائي نجيب محفوظ , لأن المكان هو ليس صدى لذلك الماضي ,إنما هو صدى لذلك المستقبل من خلال توهج تلك الصورة السينميّة التي عملت على ذلك التردد البعيد في إستطيقا الوعي الجمعي للحشود من الممثلين الذين مثلوا الانطولوجيا المباشرة للمكان , فكان تمرد حميدة على الحياة يعد محصلة لتمرّد المكان من خلال الكاميرا , لأنه المخرج حسن الإمام قد طاف في المكان فلسفياً , من خلال حميدة , وزيطة .
لقد كان محفوظ يعالج رواية خان الخليلي ورواية زقاق المدق من خلال فلسفة المكان , إضافة إلى الزمن المتقارب , فكان الوضوح عند محفوظ هو المكان وعزلته في رواية زقاق المدق , وتلابس بعض تلك المظاهر خاصة في القاهرة الجديدة لعالم ذلك المكان في الزقاق وأهله. فالزقاق عند محفوظ يعيش العزلة المكانية حتى أصبح يحدّق من داخل هذه المسارب المكانية بإشكاليات خاصة بحياة الزقاق .
نقول أن محفوظ كان قد غرس إصبعه في جدران هذا الزقاق فعرف الأرض والجدران التي ينتمي إليها من الرائحة التي يشمها , وقد أغرس زيطة إصبعه في ذلك الوجود البوهيمي الذي تلبّسه , فينمّ عيره عن حقيقة ذلك اللاشيء , فكان زيطة هو السؤال : هو من أنا؟ وكيف جئت إلى بين هذه الجدران , ما هذا الشيء الذي يسمى العالم الذي يقع بين الجدران في ذلك الزقاق ؟
كذلك كيف وصلت حميدة إلى حافة الزقاق وهربت منه , وكيف عادت إليه حتى قتلت فيه ؟ لماذا لم يُسأل المخرج حسن الإمام ولماذا لم يؤهّل لذلك التطبّع وفق تلك الطرق والعادات ؟ بل كانت الرؤية التي قُذفت إلى جوع ذلك الزقاق , كان محفوظ يشتري من ذلك الخاطف لتلك الأرواح أو من تاجر كان له باع في تلك الأرواح , وكيف أصبح محفوظ مهتماً بذلك الانتماء , إلا إننا نرى عكس ذلك , نرى أن انتماء نجيب محفوظ إلى تلك الجدران ما هو إلا عملية سيكولوجية ميكانيكية , لكن سلوك أبطال الرواية كل منهم مرغماً على تمثيل دوره في ذلك الزقاق , وهذا ما أدى بالمخرج حسن الإمام إلى أن يفلّسف المكان ومخرجاته حسب المنطق السسيولوجي لكل شخصية , فالوقائع مكانية والعودة إلى الزقاق هو انتماء , ولكن كل ما حدث لحميدة ولزيطة وحتى للآخرين هو سلوك يفضي إلى مراجعة سيكولوجية , بالإمكان اعتبارها سلوكيات لبداية فلسفة وجودية عند نجيب محفوظ ولذلك تصّرف المخرج حسن الإمام على ضوء المنطق السسيولوجي الذي فسره سارتر حين قال أن الإله مات , وقد حاول محفوظ استبدال ذلك بنظام يقع في إطار الانتماء , فأندحر ذلك النظام عند محفوظ , ثم استبدله المخرج حسن الإمام بذلك الدين البشري , حتى تقهقرت تلك الفرضيات , فكان المخرج الحقيقي بأن الإله مات , لكن الإنسان لم يمت , ولذلك أصبح حسن الإمام مشوشاً وملحداً من الناحية الفلسفية , بالنسبة إلى موت حميدة وهذا خارج أزمنة الرواية ,والرواية تقتضي موت عباس الحلو كما جاء في النص الروائي , ولذلك أصبح المخرج ملحداً من الناحية الإخراجية لأنه كفر بالنص الأدبي عندما غير قصتي كما قال إرنست همنغواي عندما شاهد كما قلنا روايته ((لمن تقرع الأجراس)) قال إن هذه القصة ليست قصتي .
كأن تفكير المخرج حسن الإمام من ناحية فلسفة الإخراج أن يحدد ذلك الصمت في عملية التفوّق العقلي , ومن ثم الحاجة الشديدة لخلق فلسفة للإنسان تتعلّق بحلقات التطور التاريخي , وكان حسن الإمام يؤكد على الحالة الإخراجية وفق الرؤية الجديدة في إطار المراحل التاريخية لإنتاج هذه الرواية وفق منطق إخراجي حديث لا وفق مفهوم الرواية التي لا تتوافق من الناحية الإخراجية بعد كتابة السيناريو , فكان المخرج حسن الإمام وكاتب السيناريو سعد الدين وهبة , قد قررا أن الكلمة الأخيرة للشر وليس للخير , فكان الاحتلال الانكليزي , والأمريكي والفرنسي هو الشر ولحد هذه اللحظة , مثال على ذلك :
عندما يموت ((كورتز)) في رواية ((قلب الظلام)) لكونراد وهو يصرخ ((الرعب!)) نقول أن كونراد عرفها قبل ((كورتز)) بأن الشر هو الباقي دائماً قد تأتي فترة تاريخية يعيش فيها الإنسان العربي بخير ولكن هذه الفترة قصيرة جداً , يعقبها الشر من المستعمرين وعبر كل المراحل التاريخية وعبر تاريخ كل الحروب التي شنّت على هذه المنطقة وعبر كل العقود الماضية نحن العرب كنا الضحية .
وإذا أردنا إن نصنّف انطباعاتنا عن رواية زقاق المدق من الناحية الأدبية والإخراجية سينميّاً , نقول , أنها كانت تجري حوادثها في ظروف قهرية وفي كآبه شديدة , ولا شيء حولها غير البؤس , إنها حلقة مفرغة من الأشياء , هي قاعة بلا متفرجين , وحتى بلا صراخ ولا عويل , وقد أنجزت في جو باهت ومرحلة تاريخية بائسة من الاحتلال لمصر , إنها النظرة اللاشيئية للأشياء فكان محفوظ لا يستطيع أن يتهّرب من أوهامه داخل نسيج الرواية , لأنه يعيش ويموت بأبطاله الفارغين , فالرواية كانت تعبيراً عن معنى النقيض لنهاية هذا العالم , كان على محفوظ لا يحدد الرجعة الأخيرة سواء لحميدة , أو لزيطة , أو لعباس الحلو إنما كان المشهد المفترض في الرواية هو القيام بالنواح المستمر لأنه النواح الأبدي , وهذا ما أراد محفوظ أن يقوله سواء في زقاق المدق أو في الثلاثية أو في ثرثرة فوق النيل وغيرهما , في كل رواياته .
كان محفوظ يعبّر عن ذلك الفراغ عند الناس الجوف , وكان محفوظ يذكّر المثقف العربي بذلك الضياع , وتلك الأرواح التي تشهق إلى السماء لتطلب الحل , إنه العجز , والإنسان في كل الأموال هو عاجز عن تحقيق أي شيء , لأن الشر مرتبط بتلك العاطفة وليس هناك سيطرة على الذات البشرية , وحتى الرحمة هي اللّعنة المستمرة لهذا الإنسان المجوّف , وأن المعركة الحقيقية أي معركة الحياة هي وهم , وأبطال محفوظ كأبطال بكيت يؤمنون بالذات الغائبة في الجسد المادي ولا يؤمنون بالإطار الموضوعي , وكل ما كتبه محفوظ لم يغيّر شيء من حقيقة ما يحدث , أما أبطال رواياته ومنها ((زقاق المدق)) فهم لا يعثرون عن أي شيء وحتى معنى داخل تلك الذات الهاربة دائماً .
نود أن نعود إلى النافذة الخلفية ((لهيتشكوك الذي مثل بطولته جيمس ستيوارت )) فكان هيتشكوك باعتباره مخرج الفيلم فهو لا يهمه التمييز بين الروح والجسد , أو الإنسان والطبيعة , لان هذه المنظومة الفكرية تنتج تفكيراً دينياً أصولياً , في حين أن البطل يرفضهما بشكل مطلق , فالتمييز عنده الوحيد للفكر البشري وعبر كل العصور , أن كان منطقياً , فالاهمّيه الوحيدة في ذلك التمييّز .
هو التمييّز بين الوجود والعدم وفي هذا يقول بطل باربوس من ذلك الثقب أن الموت هو أهم الأفكار إطلاقاً .
ولذلك كان بطل محفوظ هو البطل التجريبي لان بطله دائماً هو ليس مفكراً , لأنه يقبل العيش ولكن يرفض قيم هذا العيش , وكان رفض زيطة وحميدة لهذه الحياة بكل أسبابها ومسبباتها , لان الإله كان قد تخلى عن عبده الذي خلقه وفق صورته ؟ كيف يحدث هذا وفق العناية الإلهية والروح الشبيهة بروح الإلهة , وأن معظم الناس يموتون كالحيوانات , لا يموتون كرجال قال إرنست همنغواي ,وهذا التعبير الكحولي في أيامه الأخيرة هو عبارة عن حقيقة من حقائق ((بكيت)) وهمنغواي هو بطل من إبطال بكيت .
#علاء_هاشم_مناف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟