أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غازي سلمان - واقعية الخيال















المزيد.....


واقعية الخيال


غازي سلمان

الحوار المتمدن-العدد: 5154 - 2016 / 5 / 6 - 23:33
المحور: الادب والفن
    


واقعية الخيال
قراءة في رواية العطر للكاتب الالماني باتريك زوسكند *
تتحرك الشخصيات في الادب والفنون الابداعية الاخرى من واقعها الافتراضي الى الواقع الحياتي ،في اي زمن ومكان، وتتكاثر فيه ، كلما تجددت الحاجة الانسانية الى فعل القراءة الذي يحيي علاقات معقدة مع القرّاء الذين يدركون انه من خلال الادب والفن وحدهما يمكنهم ان يعيشوا اكثر من حياة واحدة في اكثر من واقع ، بتأثير تفاعلهم مع تجارب تلك الشخصيات التي اصبحت رؤاها جزءا من المعايير السلوكية والفكرية للواقع الحياتي وان اختلفوا او اتفقوا مع رؤية المبدع التي هي بالتأكيد رؤية شخوصه.
و"غرينوي "بطل رواية – العطر- الصادرة في العام 1985 أحد اولئك الشخوص ، ابتدعه الكاتب الالماني باتريك زوسكند بحدة ذكاء ، يندر ان نجد شخصية تماثله من بين شخوص الفنون الابداعية الاخرى، لما تتسم شخصيته بالغرابة والاعتلال النفسي ايضا ،عنيف، مخادع ، ليس ودودا ، ليس جميلا، لكنه ليس قبيحا ،ولم يتحمل اية مسؤولية اجتماعية او اخلاقية ، ولا يعير اية اهمية لقيم واخلاق اوديانة ولا يعرف الله !، لم يندم على اي تصرف خاطئ او جريمة ارتكبها ، لم يضحك الا مبتسما مرة واحدة حين جعل حشود الناس تخضع لشخصه ، ولم يبكي ابدا الا مرة واحدة ابان خلوته في كهفه فرحا منتشيا، لم يتمكن من التكيف مع ضوابط وأنظمة المجتمع، لم يعرف الحد الفاصل بين الحياة والموت الا بما يتصل بوجود رائحة او بفقدانها، اعتاد الصبر والجلَد من اجل تنفيذ ما يقرره ، مهما كلفه هو الامر ، او كلف الاخرين يمتلك قدرة هائلة على التمسك بالحياة ،تلك القدرة التي يريد البعض سلبها منه ، بما فيها والدته التي حاولت وأده إذ القته حين ولادته مع احشاء السمك النتنة علّه يلاقي حتفه شأنه شأن مواليدها الاربعة السابقين. لكنه اطلق صرخته الاستهلالية بغريزة الاستنكار حتى انتبه لوجوده اخرون ، لم تكن صرخته تلك استدرارا للرحمة او الحب ، بل للمطالبة بالبقاء حيا فقط ، فالتقِطَ وتم انقاذه ، لينتقل من مرضعة الى اخرى ، لم ترضَ أي منهن ان يبقى لديها الاّ ايام معدودات، :لأنه بلا رائحة مثلما يمتلكها سائر الاطفال الاخرين و :
( بدعوى انه جشع يمتص حليبا يكفي لاثنين ، ويمنع الحليب عن الاطفال الاخرين) الرواية ص 10-
ساعدته قدرته تلك ايضا على النجاة من شتى الامراض والاوبئة التي اصابته -;-كالحصبة والجدري والزحار وكذلك سقوط الماء مغلي على جسده.
ولآنه ولد مع حاسة شم خارقة جدا وغير انسانية اطلاقا ، فانه قد حفظ روائح محيطه بشوق العاشق عميقا في ذاكرته في محاولة يائسة لاستعادة رائحته "هويته " الخاصة به عبر استخلاص العطور .
فلم يدرك "غرينوي" الانسان والموجودات الاخرى ، في بيئته ـ كحيوات لها سمات واشكال ذات عناصر جمالية ، لها احاسيس واخلاق ، او سلوك وحتى ان لها لغة تفاهم ، بل روائح فقط ، روائح مختلفة يدّخرها في ذاكرته مثل كلب بوليسي ، بإمكانه تنسم اية رائحة من على بعد اميال والتمييز ما بين ملايين الروائح التي اختزنها وبإمكانه تفكيكها الى جزيئيات اصولها .تكتشف ذلك لأول مرة احدى مرضعاته ،ويكتشفه هو بنفسه فيما بعد في عزلته عن البشر في كهف جبلي إذ اخذ يتشمم مفاصل في جسده حتى ابطه :
...( لم يشم شيئا ، لا من قدميه ولا من عضوه الذي انحنى عليه قدر المستطاع . غريب ، هو غرينوي، الذي يتنسم كل انسان على مسافة اميال ، لا يستطيع شم عضوه .... ) الرواية ص 147
ومنذ لحظة ولادة الطفل في سوق السمك يدرك القارئ بأن القاتل قد ولد ، فالعنوان الفرعي للرواية – قصة قاتل – يوحي سردا لتاريخ حياة قاتل ، فبعد قراءة سطور قليلة يكتشفُ انه تسبب في اعدام امه بتهمة قتل مواليدها الاربعة ، لأنه نبّه الاخرين على جريمتها بصرخته المستنكرة الاولى !!. .
يتبنى الكاتب "الخيال" في عملية خلق تلك الشخصية ،باعتباره احد اهم العناصر في الادب الروائي فهو -عنصر – بنائي ، مجازي - هيأ له امكانية تخليق عوالم حٌلمية مغايرة وموزاية لواقع – باريس في القرن الثامن عشر- ، مفعمة بتصوراته واخيلته ليعيد خلقه وفهمه، واذ تقاربت رؤاه مشتتةُ حيناً هنا او هناك مع الفضاء الواقعي ، فأنها نسجت خيوط ارتباطها معه بغموض وببطء ، بفعل تماهيها مع لغة جديدة تفاعلت مع اللغة السائدة ،اي انها قامت بعملية توليدية لهذه اللغة باستثمار نسيج وايقاع الكلمة من اجل تجاوز المعنى المجرد لها، فكانت لغة روائية ثرية بثقافة ودراية المؤلف في عملية استخلاص العطور ومرجعياتها ،وتاريخ فرنسا ابان القرون الوسطى ، مفعمة بالسخرية ولديها القدرة على الاقناع وتحفيز المجادلة لدى المتلقي في العوالم المتخلقة التي غدت جزءا من الواقع الباريسي الذي انتخبه الكاتب..
و لقد اثبت الكاتب باتريك زوسكند ، فعلا، في هذه الرواية ان مثل هذه اللغة كافية لأن تجعل الخيال الابداعي المشتبك بنسيج واقعي مثل عطر تتقبله الانفس . لكنه لم يكيّف هذا " العطر" الرواية، بشكل مبسط مع وجهة نظر متلقٍ ما ، لأنها تتعامل مع مسارات وهمية وصور سوريالية اكثر مما هي عليه كرواية درامية او بوليسية ، بل رغب الكاتب في ان يستدعى متلقي يعرف كيف يتأمل (الحقائق ) ويكوّن منها احساسا ذاتيا وفهما قرائيا خاصا به فـ :
(القراءة اتفاق على الكرم بين الكاتب والقارئ، يثق بمقتضاه كل منهما بالآخر، ويستند عليه، ويطالبه بما يطالب نفسه، هذه الثقة ذاتها كرم وسخاء: ما من احد يقدر أن يجبر الكاتب على الاعتقاد بان القارئ
سيستخدم حريته، وما من احد يقدر على أن يجبر القارئ على الاعتقاد بان المؤلف استخدم حريته) "جان بول سارتر - ماهو الادب ؟" ،
ان المتلقي يواجه كلا من الراوي - والمؤلف الذي لم يكتف بدور – الراوي العليم – فقط بل تعداه الى ان يطرح نفسه منافسا له في اكثر من موضع ، مثلما في تقاطع صوت المؤلف في الإخبارعن نهاية حياة آخرمرضعة لغرينوي (مدام غايار) مع استرسال الراوي وهو يتحدث عن نيتها في التخلص منه :
(ولأن مدام غايار تترك القصة في هذا المكان ولن نصادفها في المستقبل ايضا فلا ضير ان نصف موتها ببضع جمل ...) الرواية ص 34-35
او انه يصف ساخرا "غرينوي " بـ ( القراد) :
(..مثل هذا القراد كان الطفل غرينوي ينغلق على ذاته وترقب زمنا افضل ، لم يمنح العالم اكثر من برازه ، لا ابتسامة ، لا صرخة ...)الرواية ص 27
غيران المتلقي لم يشعر باي ضَعف في هيمنة الراوي ، فهو – الراوي – يبقيه على مسافة قريبة منه دائما مصغيا الى حيوية خطابه المكتفي بالتسلسل الزمني التصاعدي للأحداث التي تتمحور حول حياة ومن ثم موت بطل الراوية الدراماتيكي ،فهو الموضوع كله ولا احد غيره ، فلا توجد احداث جانبية في الرواية خارج دائرته ،والدته والاب "تيرير " ومرضعاته ، والدباغ غريمال والعطار بالديني والماركيز والارستقراطي ريشي والد اخر فتاة ضحية من ضحايا "غرينوي " كل اولئك لم يوجدوا الاّ بسبب من وجوده هو ، وظروف حياته ومراحل سيرته وبقاءه حيا هو الذي يقرر مصيرهم موتا بحادثة وبأخرى ، أو بانتهاء لدور مرسوم لهم ، لكأن" غرينوي " يمتلك القدرة على احلال لعنة الموت على الاخرين .
مع بداية الجزء الثاني يمنح الكاتب الرواية دفقا متسارعا من الفانتازيا، صورا ورؤى تجسّم عالم "غرينوي" الداخلي في خلوته بالجبل ،حيث الطبيعة المترامية القصية ،النائية عن رائحة الاخرين ،اناسا وموجودات، ازقة ومياها ،" متعففا " بأنفه عن باريس التي تستغرقها النتانة ، هنا في الجبل وفي كهفه ،في احلام يقظته ،في عزلته التامة الخرساء ، الا من روائح الضباب والكهف والرطوبة ،الطحالب والحيات التي يأكلها ، استطاع الكاتب ان يعيد بناء موجودات الامكنة بأدق تفاصيلها، بكل توحشها وغرائبيتها بما يتلائم مع هواجس بطله وشخصيته الانعزالية العدائية ، فالبركان بالرغم من هموده مازال متسيّدا على ما يحيط به من جبال واحراش وبضعٍ من سحالي وطحلبيات وخفافيش ،ينيط بهم مهام حماية إمبراطورتيه الخربة ، طاردا لكل انواع الحياة بما فيها روائحها ، الا ما ندر ! لتبقى اكثر انعزلا واكثر انغلاقا عن كل ما يحيط بها ، انها تتماثل كثيرا مع عالم : غرينوي " الداخلي الانعزالي بعدائيته ، والطارد لكل ما هو انساني من داخله ايضا :
( كان على جبال اوفيرني ، على سفر خمسة ايام جنوب كليرمون ، على فوهة بركان يقع على ارتفاع الفي متر اسمه بلومب دي كانتال ، يتالف الجبل من صخور عملاقة وتحيط به مرتفعات لا نهائية تحرسها ادغال كئيبة وطحلبيات كئيبة ، تنبثق عن نتوءات صخرية كالأسنان المنخورة وبعض الشجيرات المتفحمة ) الرواية ص 129
واذا كان الراوي قد ، جعل "غرينوي" يستدل المكان بغريزته الشمية الخارقة ، بأنفه البوصلة ، فان ذلك البركان قد سمح لـه بالعيش سبع سنين في بيئته ،هذا لأن "غرينوي " ذاتٌ انغلاقية أصرت على الاستمرار حية وفق ظروف الحياة تلك التي انتجتها ثورته المدمرة .لكن "غرينوي " يضع نفسه الان نداً للبركان المضيف ، كإمبراطور ثان او اله !، بينما هو في مواجهة ذاته ،يدنو منها " يسبح في كينونته " مستلقيا في كهف، كما القبر ،كما الرحم ! لا يعكر صفوة روحه اي شيء خارج عنها.
ربما بدا عالم "غرينوي" الداخلي قبل احدث الجزء الثاني من الرواية، ضيقا جدا لأنه لم يشتبك مع ما يحيطه الا بخيوط روائح واهنة ، ففي عالم المدينة ،ورشها وازقتها ، لم يشأ ان يرتبط بعلائق اجتماعية او عاطفية اخرى، سوى علاقات عمل لدى الدباغ "غريمال "وبعدها لدى العطار" بالديني " باع خلالها جهده ليبقى حيا، وقايض عبقريته ايضا، في استخلاص العطور بأزهد الاجور في ظرف معيشي اقل ما يقال عنه انه متواضع جدا لكي يكتسب خبرة انتاج العطور. حتى ان الكاتب لم يستطع الولوجَ الى ذلك العالم المنغلق الاّ من منفذِ كوةِ الانف الخرافي ! ، ويبدأ بتوسعته ، يضع في ذهن غرينوي تصورات غرائبية ، بخيال جامح ، تتفاعل مع مخزونه الروائحي فتتكثف الفنتازيا في استمراءه لـ "احداث مجونه الاحتفالية في امبراطوريته المضطربة" :
(.. امر غرينوي العظيم المطر ليقف ، وكان ان وقف المطر ، وارسل غرينوي العظيم شمس ابتسامته الرؤوف على الارض وكان ان تفتح بهاء ملايين الازهار ،من نهاية الملكوت الى نهايته الاخرى، في بساط اوحد ملون منسوج من الوف مؤلفة من حقق الطيب النفيسة .. ) الرواية ص137
لقد فاجأ الكاتبٌ متلقيه باتساع عالم البطل اللامحدود بما استزاده من حكايات حلمية سوريالية، وقد اتخم ذهن بطله بما لا يستطيع هضمه وادراكه . فراح يستغرق عميقا في عالم بطله الداخلي مسترسلا بمزيد من التفصيل دون ان يخشى عيوب الاستطراد ملقماً نار السرد الهادئة بخيالات ذهنية معبقة بالروائح التي يستذكرها "غرينوي في ذهنه ليمنح النص مزيدا من التوهج ، ذلك ان المتلقي ادرك محدودية خيال غرينوي في التحليق ،وضيق افقه وعدم قدرته على الاستعارة التخيلية ، نعم يستطيع "غرينوي" ان ينصّب نفسه الها او امبراطورا على عالمه الداخلي ،كأي متوحد اغتنم حرية كاملة :
( .. واذ وصل جان بابتيست غرينوي الى البيت استلقى على الاريكة الارجوانية ... استلقى صفّق وامر خدمه بالحضور بين يديه الكريمتين ، ... الخدم غير المشمومين وهذا هو الاهم .. وامرهم بالذهاب الى الحجرات واحضار هذا الكتاب او ذاك من مكتبة الروائح ...) الرواية ص139.
( في هذه الاثناء كان يشرب من الطيوب النبيلة ، وبعد زجاجة رائحة الامل فتح زجاجة من العام 1744 ، مملوءة برائحة الخشب الدافيء .. .. وزجاجة تحيطها العطور والزهور انتخبت على طرف ساحة سان جرمان باريس عام 1753 ..) الرواية ص 141.
بعد كل ذاك التطواف والاندفاع عميقا في عالم بطله الداخلي يكون المؤلف قد اكمل صياغة عالم الرواية بإنضاجه شخصية " غرينوي " .الاّ ان هذا لم يكتشف ذاته بعد ،لم يستطع ان يعيّن هويته كفرد مادام بلا رائحة ، فوقع فريسة لأنياب الخوف والقلق وعبق الفتاة ذات الشعر الاحمر اول قتيلة له واول عطرمنها امتصه امتصاصا، و ما فتئ يعب منه "غرينوي" كؤوسا بعد كؤوس , دون ان تتحق له نشوة خالصة في ذاته المهدمة ،عبق هذه الصبية و - لا رائحته - حفزا "غرينوي" على ان ينهي خلوته ويستجمع جسده للعودة الى المدينة ، ليبقى تحت عناية ورعاية الماركيز "تاياد اسبيناس" للإفادة من "غرينوي" في أثبات صحة نظريته الغريبة "محفز الموت الترابي " ويسمح غرينوي له باستغلاله من اجل ان يتمكن من بحثه عن هويته ـ رائحته- وبمساعدة الماركيز حصل على عمل في مشغل للعطور في مدينة مونبيليه فاخذ يجدُّ في البحث لاستخلاص رائحة الانسان ،وفعلا اكتشف تلك الرائحة خليطة من براز قطة، بضع قطرات من الخل وملح وجبن متعفن ،نشارة القرن شحم خنزير صمغ وكحول ... وهكذا من كل شيء فيه نتانة فائحة ، ليؤكد سخريته من الانسان واحتقاره له ،وحين ضمخ جسده به اكتشف فاعليلة هذا العطر وتأثيره على الاخرين :
(نعم عليهم ان يحبوه إذا دخلوا دائرة عطره ، عليهم الا يتقبلوه كمثيل لهم فحسب بل ان يعشقوه عشقا جنونيا، ان يضحوا بأنفسهم في سبيله ، ان يرتجفوا ويذهلوا عليهم ان يصرخوا ويبكوا من النعيم دون ان يعلموا لماذا عليهم ان يخروا على ركبهم ...)الرواية ص161
لكن هذا ليس نهاية لمهمته و جشع انفه في الاستنشاق فرائحة الانسان وقد حصل عليها بسهولة ، لكنه يبحث عن عطور افراد نادر وجودهم ، "يلهمون الحب، وهؤلاء هم ضحاياه " وهكذا بدأت سلسلة جرائمه في اختيار صبيات نادرات الجمال ،ويُتمَّ جريمته الخامسة والعشرين وعندها يلقى القبض عليه، ويساق بعد المحاكمة الى ساحة الاعدام ، ان الكاتب يتجنب وصف تفاصيل وقع القتل على القتيلة الا من خلال وصف مشاعر الناس ازائها ، ثم يذكرها كرقم ، وحتى الضحية الاخيرة ، "لور " اذ كان فعل قتلها خاطفا ويصفه عبر حالة استعداد القاتل نفسه وهو يهوي بالهراوة على الصبية وهي نائمة ،وكذا حين يباشر باستخلاص رائحتها وكأنه يصف اجراء عملية تجميل جراحية دقيقة جدا.
يبقى غرينوي شخصية مثيرة للاهتمام والاعجاب حقا، وسيرته سفر يمضي فيه المتلقي دون ان تفارقه الدهشة ، اكسبه المؤلف ثقافته دون مواربة بل بصراحة بليغة. انه يفتقر الى الايمان بأي سلطة الهية او شخصية ،او مجتمعية ،غير المنتمي الى مجتمع، بل يرفض الانتماء الى كل ما هو انساني بفعل كراهيته واحتقاره له، فهو شخصية مركبة من عنصرين أساسيين، هما " وهم حب السيطرة والعدوانية". وهذين العنصرين لا تتصف بهما الشخصية السوية ولكنهما يتشكلان في الشخص "السيكوباتي مثل "غرينوي"، بل انه عبقرية سيكوباتية استطاعت ان تفتن الجماهير ، وتتحكم في مزاج ارادتها و اخضاعها وجَلدَها وتحييد تعاطفها والنظر اليه كملاك او اله ، بتأثير من " العطر " الذي قلب موقف تلك الجماهير المحتشدة في ساحة اعدامه، الناقمة بشدة والتي تتوق الى تمزيقه اربا ، الى موقف متعاطف معه مفعم بالحب والهيام بشخصه حتى توهموا انه من المستحيل ان يكون قاتلا، بل ان هذا الجمع :
(حلت فيهم المودة ، الرقة ، الحب الطفولي ، بل ليعلم الله انهم عشقوا الرجل الصغير القاتل ولم يستطيعوا ،لم يرغبوا في مقاومة مشاعرهم كانت حالهم بكاء لا يستطيعون الوقوف بوجهه..) الرواية ص245
يقف"غرينوي " مضمخا بـ - العطر - في مواجهة الجموع التي تبادل معها الكراهية والقرف و النزوع الى الانتقام، وكانه لم يقف على منصة اعدام بل على عرش الهي ، كمحارب منتصر يراقب جموع اعداءه خاسئين مستسلمين لعظمته ، خانعين الى ما توحي اليهم نظراته وابتسامته الشامتة الهازئة بممارسة طقوس حفل خلاعة ماجن، :
"تجامع القوم وتزاوج في اوضاع وازواج لا تعقل ، الشيخ بالعذراء ، الاجير بزوجة المحامي ، الصانع بالراهبة ، اليسوعي بالماسونية ....صار الفضاء مثقلا برائحة عرق الشهوة اللذيذ والصراخ العالي ، بانين ولهاث عشرة الاف من الحيوانات البشرية ، كان مادبة الشيطان " الرواية ص 247
وتقرر المحكمة:
( اعتبار قضية "غ " منتهية ، وتجميد الملف وتدوينه في السجلات دون قيد واعادة فتح قضية جديدة بحق مجرم مجهول ....) الرواية ص254
لم تهدا نفس غرينوي ابدا في مقابل هدوء نفوس الجماهير المهتاجة و بعد طقوس الخنوع والمجون ، بفعل زوبعة عطره ،مازال لم يحقق الرضا الكامل عن نفسه فقد أيقن انه ذات دون هوية دون تفرد بالرغم من امتلاكه اكسير قدرته بيده الذي منحه هوية زائفة وهي :
( اقوى من سطوة الذهب والارهاب والموت ، القدرة التي لا تقارع القدرة على الايحاء بالحب لكن قدرته ليست قادرة على شيء واحد ، ليست قادرة على ان تجعله يشم نفسه انه يبصق على كل شيء ، على العالم ، على ذاته ، وعلى عطره ) الرواية ص 260
في 25 يونيو 1767، وصل غرينوي إلى باريس في يوم قائض من ايام تلك السنة يتماثل في سخونته وروائحه مع يوم ولادته ،مخلفا وراءه اعداءه الذين تلذذوا بخنوعهم خلال طقس اطاح بنظام الحياة التقليدي.
لم يهرب الى باريس بسبب من الشعور بالاحباط والخسران فحسب ، بل ان تلك القوة الجاذبة التي كانت قد اودعته ذلك الجبل هي نفسها التي جذبته الى مجموعة من اللصوص والقتلة والعاهرات في باريس مسقط راسه وحين تضمخ بعطره انجذوا اليه ودوامة عطره الغاضبة تستدعيهم اليه :
(كل منهم يريد ان يلمسه ، كل يريد جزءا منه، ريشة ، قبسا من ناره السنية مزقوا ثيابه ، نزعوا شعره سلخوه ، فتتوه ، نشبوا اظفارهم و مخالبهم في لحمه ، انقضوا عليه كالضباع .. بعد نصف ساعة اختفت كل الياف غرينوي عن وجه الارض) الرواية ص 262.
لابد وان "غرينوي" قد ضحى بنفسه طواعية لأنه يدرك انه سيبقى منبوذا ابدا وان ان آكليه هم وحدهم الذين تصرفوا بغريزية الحب معه التي لم يكن ليشعر بها اخرين غيرهم ازاءه :
(شعروا بالعز والفخار ، فهم لأول مرة في حياتهم قد فعلوا شيئا بحب ) الرواية ص263.
هل من المكن ان يفسر مثل هذا السلوك الجمعي للجماهير، امكانية التصالح مع الجريمة والمجرم ؟
هل اراد باتريك زوسكند ان يجعل الذاكرة تعود بنا لنتشمّم عطر فترة تأثير الدعاية النازية في المانيا وتأثيرها على الشعوب وتسيّد هتلر وكل الديكتاتوريات اللاحقة ، و ان نتشمم ايضا عطور الزعامات السياسية في بلداننا لتزكم انوفنا قبح روائح جمهور لايني الاّ ان يخضع بيسر وطواعية فيتطبع بطباع زعيم سيكوباتي !! ؟

* رواية العطر للكاتب الالماني باتريك زوسكند ترجمة كاميران حوج -الطبعة الثانية – 2009 منشورات الجمل

27/4/2016



#غازي_سلمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 14 تموز 1958 في العراق والاختلاف فيها
- فرانكشتاين - الشسمه -ومتاهة إنتاج القتل
- ما يتبقى من الحرب ، الحكاية والموقف منها
- الفنان فهد الصكر يعيد بناء ذاكرة الامكنة
- صورٌ لوجهٍ واحد
- الذي رحل قبل الموت
- (................)
- ما تبقى لأمرأة
- معرض فني مشترك .. ومشتركات
- طرق الصمت / قصيدة
- الديكتاتورية ..التطابق والتغيير : قراءة في رواية
- قراءة في رواية الحب في زمن الكوليرا
- واقعية النموذج .. قراءة في رواية السمان والخريف لنجيب محفوظ
- في حضرة الفن البدائي
- الشعوب العربية وتحقيق الذات المستقلة
- قصيدة
- لبيا ضنا رؤى


المزيد.....




- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غازي سلمان - واقعية الخيال