|
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الآىْ سِىْ سِىْ مِنْ حُقوقِ الدُّوَلِ إلى حُقوقِ الأَفْرَادِ وَالشُّعوبْ 2
كمال الجزولي
الحوار المتمدن-العدد: 1391 - 2005 / 12 / 6 - 10:46
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
(1) كنا أشرنا إلى الأزمة الناشبة بين السودان وبين المؤسسات الدوليَّة المعنيَّة بقرار مجلس الأمن الذى أحال ملف دارفور إلى المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة بلاهاى (ICC) تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وقلنا إن ما يدعو للقلق حقاً ليس هو مجرَّد تحفظ حكومة السودان على ذلك القرار ، طالما وقع هذا التحفظ باتساق مع التزام السودان بوضعيَّته القانونيَّة والسياسيَّة كعضو فى الجماعة الدوليَّة ، بل هو توحُّل خطاب الدولة فى الخلط بين المفاهيم ، مِمَّا أفضى به إلى تناقض لن ينفض بغير إصلاح المنهج كله حتى يكفَّ عن المراوحة بين الاعتراض المشروع على قرار الاحالة وبين الرفض (للآى سى سى) نفسها ، الأمر الذى لا يجوز ، لا قانونياً ولا سياسياً ولا أخلاقياً. (2) وقد يلزمنا الآن ، لمقاربة هذا الخلط ، استجلاء أهم معالم تطور القانون الدولى من الاعتناء بصون حقوق الدول إلى الاعتناء بصون حقوق الأفراد والشعوب ، كخلفية لنشأة (الآى سى سى). فمن المعلوم أن جملة القواعد المنظمة للعلاقات بين الدول ذات السيادة sovereignty ، قد أقتضت باكراً ، على يد جروتياس وغيره من آباء القانون الدولى الكلاسيكى ، ضرورة اعتبار هذه الدول بمثابة الاشخاص الأساسيين فى هذا القانون ، واعتبار اتفاقاتهم بمثابة المصدر الرئيس للقاعدة الدوليَّة. ومع أن نفوذه ، كنظام وضعى ، غالباً ما يستند إلى رغبة كلِّ دولة فى عدم التخلف عن المشاركة فى الأشكال الجماعيَّة لصون قواعده (ف. ليسوفسكى ، 1970م) ، إلا أن القانون الدولى يعرف أيضاً تدابير الجزاء .. كعنصر جوهرى من عناصر القواعد الوضعيَّة المكونة له (س. عبد الحميد ، 198م) ، فالنظام الوضعى لا يكون ، أصلاً ، إلا إذا كانت هناك جزاءات ماديَّة تضمن احترام نصوصه (ع. سرحان ، ضمن المصدر). ولعل الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يشكل اليوم أحد أهمِّ آليات سَنِّ وإنفاذ هذه التدابير الجزائيَّة. (3) وفى بواكير تكوُّن هذا القانون لم تكن المجموعة الصغيرة من دول أوربا وأمريكا التى قامت أسسه على علاقاتها لتهتم بالشؤون الداخليَّة لبعضها البعض ، بحكم طبيعة أنظمتها وأيديولوجياتها ما قبل القرنين السابع عشر والثامن عشر (ملوك ودوقات وحكام جمهوريات مدن .. الخ) ، لذلك كان منطقياً أن تقتصر قواعد القانون الدولى القديم على مسائل السيادة على الأقاليم ، وتنظيم الحروب ، والاعتراف بالحكومات ، والحصانات الدبلوماسيَّة ، والأوضاع القانونيَّة لعرض البحار ، وما إلى ذلك ، أما حقوق الأفراد فقلما كانت ترد ضمن تلك الاهتمامات ، باستثناء بعض المسائل ، كحماية رعايا الدول فى أراضى الدول الاخرى مثلاً (فريدمان ، 1964م). وحتى الحرب العالميَّة الأولى لم يكن المجتمع الدولى قد أقرَّ سوى عدد محدود من الاتفاقيات التى تلامس ما صار يُعرف (بحقوق الانسان) ، كتحريم الرقِّ والقرصنة ، بالاضافة إلى بعض قواعد الحرب بموجب اتفاقيات لاهاى لسنة 1899م و1907م. ولم يقر الفقه الدولى التقليدى مشروعيَّة التدخل الدولى لأجل (الانسانيَّة) إلا مؤخراً، وإن كان ذلك قد اعتبر من زاوية النظر السياسيَّة فى مصلحة الدول الكبرى وعلى حساب الدول الصغرى (علوان ، 1989م) ، على أن هذا أمر خاضع لتعديل موازين القوى العالميَّة ، ولا يصحُّ أن يُجابه بإنكار المبدأ ذاته. (4) لكن ، وعلى الرغم من أن علم القانون الدولى ظل يشتغل ، بصورة رئيسة ، على نظام العلاقات بين (الدول) ، إلا أن التغيُّرات الهائلة فى بنية هذه العلاقات نفسها تطلبت إعادة فحص أسسها السياسيَّة والاجتماعيَّة ، ضمن التطوُّر الهائل الذى جرى على صعيد بنية العلاقات الوطنية أولاً ، وبشكل ملحوظ منذ القرن الثامن عشر ، قبل أن يمتد لاحقاً ، وبالتبعيَّة، إلى بنية العلاقات الدوليَّة والقانون الدولى. ومن أهمِّ نتائج تلك المراجعات ما خلص إليه فقهاء القانون الدولى حول أثر تصاعد الصراع الوطنى والاجتماعى تاريخياً ، مِمَّا تمثل فى الانقسام الايديولوجى والأحداث الثورية العظمى خلال القرنين الماضيين ، منذ الثورة الامريكيَّة ، وبخاصة إعلان الاستقلال عن انجلترا لسنة 1776م ، والتعديلات العشرة الأوائل على الدستور الفيدرالى لسنة 1791م ، والثورة البرجوازيَّة الفرنسيَّة وما نتج عنها من إعلان حقوق الانسان والمواطن لسنة 1789م ، وتطويره لاحقاً فى الدستور الفرنسى لسنة 1848م ، بالاضافة الى مرسومى الأرض والسلام لسنة 1917م ، واللذين تمخضت عنهما ثورة أكتوبر الاشتراكية فى روسيا. لقد أثر ذلك كله على تطور الانظمة السياسيَّة باتجاه التحوُّلات الديمقراطيَّة العميقة ، حيث انتهت الحرب الثانية بهزيمة النازيَّة والفاشيَّة ، وظهرت دول اشتراكيَّة سرعان ما ارتقت الى مصاف الدول الصناعيَّة المتقدِّمة ، وصعدت حركات التحرر الوطنى مفضية لانهيار النظام الاستعمارى القديم ، وحصول الشعوب المستعمرة على استقلالها السياسى ، وتنامى مطالبتها بحقها فى المشاركة بثروات العالم وموارده الطبيعيَّة ، وظهور المزيد من الدول ذات السيادة فى مجرى العلاقات الدوليَّة الذى لم يعد حكراً على الملوك والشرائح الارستوقراطيَّة العليا ، بل أخذ يرتبط بالعمليات الدستوريَّة الداخليَّة ، فأصبح توجيه السياسة الخارجيَّة خاضعاً لمناقشات الرأى العام الواسعة فى الصحف ووسائل الاعلام المختلفة (فريدمان ، 1964م مثلاً). (5) هكذا لم يعد الامتياز الحكومى مطلقاً حتى فى مسائل الشؤون الخارجيَّة والدفاع ، بل مقيداً بدساتير يصدرها ممثلو الشعب المنتخبون فى البرلمان ، وأصبحت العلاقات الدوليَّة مسألة سياسيَّة عامة ، كما أصبحت علاقة القانون الدولى بالقوانين الداخليَّة موضوعاً مشاعاً للفلسفات المتصارعة حول محددات السلطة الحكوميَّة ، وحقوق الشعوب والأفراد فى التعبير والتنظيم والتعليم والثقافة والصحة والمشاركة فى ادارة المصالح العامَّة ، بما فى ذلك قضايا الاقتصاد والملكيَّة وحريَّة النشاط النقابى المستقل واحترام سائر الحقوق المدنيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة. وشكل ذلك كله معبراً أفضى للمزيد من انفتاح العلاقات الدوليَّة على هذه القضايا ، مثلما تعمق الاهتمام بالتعاون الدولى من أجل درء الحرب والتعايش السلمى وبرامج التنمية وصون البيئة وحقوق الانسان وما إلى ذلك. وكان لابد أن تتلازم مع تلك التطوُّرات الحاجة لتعميق مفاهيم التنظيم الدولى المعبِّر عنها ، مِمَّا انعكس فى المشوار الذى قطعه المجتمع الدولى من عصبة الأمم سنة 1920م فى عقابيل الحرب الاولى ، إلى الأمم المتحدة سنة 1945م مع نهاية الحرب الثانية ، علاوة على المنظمات الاقليميَّة ، كالجامعة العربيَّة ومنظمة الوحدة الافريقيَّة أوان ذاك ـ الاتحاد الافريقى لاحقاً ـ وغيرها (المصدر). (نواصل)
#كمال_الجزولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السُّودَانْ والآىْ سِىْ سِىْ: بَيْنَ المَبْدَئِى وَالعَارِضْ
...
-
القَابِليَّةُ للقَمْعْْ!
-
الكِتَابَةُ: شِفَاءٌ أَمْ .. تَشَفِّى؟!
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 66
-
كَوَابيسُ السَّلام!
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 4ـ6
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 5ـ6
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ 3
-
وَسائِلُ خَسِيسَةْ - 2
-
التَّجَمُّعْ: هَلْ يَنسَدلُ السِّتارُ؟
-
وَسِيلَةٌ خَسِيسَةْ 1
-
مَحْجُوبٌ .. الذَّهَبِىْ!
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ3ـ3
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ 2ـ3
-
شَيْطَانُ الخَديعَةْ 1ـ2
-
جَنَازَةُ البَحْرْ!
-
وعَلَى الأقْبَاطِ .. السَّلامْ 2ـ2
-
وعَلَى الأقْبَاطِ .. السَّلامْ 1ـ2
-
الحَرَكَةْ: مِن الثَّوْرَةِ إلى .. الدَّوْلَةْ!
-
لَيْسُوا -رِجَالاً-؟!
المزيد.....
-
بوريل: لا أحد يعرف قدرة الاتحاد الأوروبي على دعم كييف في عهد
...
-
RT ترصد انتشار الجيش اللبناني في الجنوب
-
من شن الهجوم على غرب حلب ولماذا الآن؟
-
قطع الطريق الدولي بين دمشق وحلب: أكثر من 200 قتيل بمعارك شما
...
-
بعد سجن 13 عاما.. ألماني يبرأ من تهمة قتل ويطالب بتعويض
-
رغم الهدنة.. لماذا تخشى إسرائيل حزب الله؟
-
ماسك يرد على مطالبة واشنطن لكييف بخفض سن التجنيد في أوكرانيا
...
-
حزب الله- ينشر إحصائيات عن خسائر إسرائيل البشرية والمادية خل
...
-
موقع أمريكي يزعم تخلي حماس عن استراتيجية السنوار لوقف إطلاق
...
-
اتصالات مصرية بقادة القوى السياسية اللبنانية لبناء -مرحلة جد
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|