أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كوثر خليل - سلوليت















المزيد.....


سلوليت


كوثر خليل

الحوار المتمدن-العدد: 5150 - 2016 / 5 / 2 - 12:30
المحور: الادب والفن
    


سلوليت


مازلتُ على قيد الحياة

هنا يعطونك رقما و مئزرا ليتركوا المطرقة قريبا من رأسك، قريبة جدا... تشعر ببرودة الحديد في كل شعرة من رأسك... القفص كبير جدا، أعرفه كراحة يدي لكني لا أهتدي إلى الباب... في الأيام الأولى حاولت أن أجده لكن دون جدوى... عرفتُ في ما بعد أنهم يغيرون مكانه من حين لآخر... هؤلاء الأطفال كالحملان، إنهم يذكرونك بأضعف ما فيك، أسوأ ما فيك... أين الباب اللعين؟
قبل دخولكَ القفص، كنت تدخن السيجار الطويل... لماذا تنازلت و رضيت باقتناء سجائر كالتي يدخنونها. سكان القفص افتراضيون كأنهم لم يوجدوا قبلك، كأنهم وجدوا لأجلك... ليسحقوك و يجعلوك مماهيا لقواعدهم، إنهم يتكلمون غير كلامك... يدخنون غير سجائرك، لا يشبهونك في شيء... حيوانات أليفة مفزعة، ببغاءات غريبة تحاول جاهدا، عن تعطف أو عن رغبة منك في إثبات قدرتك- لنفسك-على التأقلم لكنك لا تصير مثلهم، قد تكون أفضل أو أسوأ بعد تشرفك بمعرفتهم و مشاركتهم أيامهم لكنك لن تكون مثلهم، إنهم مثاليون للمسطرة، للمكتب، للعلاقات الاجتماعية الغبية التي ظاهرها خنوع و مداراة و باطنها حروب خفية و مكيافيلية بائسة... إنهم روبوتات صغيرة، صغيرة لا تكاد تـُرى، تدق داخلها ساعات خفية تحمل نفس الوقت و تدق بنفس الوتيرة، كل يوم، بتفان غريب... تُشحن بطاريتها من الدم المتدفق في العروق يقدس اليومي و التغيير الرتيب الذي يحاكي قطرات الحنفية في الزنزانة... كل شيء يتعلق بعالمك محفوظ في داخلك يرجّك من الداخل لكنك تكتفي بوجه مربع بلا لون تتمنى لو كان زهريا أو أزرق أو أخضر يعبر عن اختلاف ما، عن انتماء لأي شيء، لأي كائن لكن ما جدوى ذلك؟
متعب أنت، من الرحيل حين لا يكترث أحد، محكوم عليك بالبقاء حين لا يشعر به أحد... أين الباب... ماذا لو كان القفص بلا باب أصلا... رأسي مثقلة بالكحول... أحمل طنا من اللحم الميت، سلوليت في كل مكان... تورم مريب في الكلمات، حتى اللغة، تظن للحظةِ نشوةٍ عابرة أنها من اختيارك و أنك قادر على اختراع آلاف، مئات، عشرات، بضع كلمات تنسبها إلى نفسك، تتمتع بغرغرتها في فمك... تهديها لشخص يستحق سماعها و تشركه في سرّك الصغير... لكنك تجد أنك تتكلم لغتهم، لغة القفص...
أريد تذكرة .. مضى وقت طويل لم أقتن فيه تذكرة.. لا أذكر كم مضى من الوقت و أنا هنا، لكني أذكر اليوم الذي دخلت فيه، إنه الرابع من أبريل، أو السادس من مايو، أظن أنه يوم من أيام أيلول الموجع.. أيلول الرمادي، شهر لا لون له.. خازوق حديدي يستخدم للتعذيب الرسمي الفاخر.. أيلول الفاجر، أيلول اللعين، شهر التعذيب الموسمي..
أشتهي رؤية غيمة صغيرة بيضاء.. سماء زرقاء بأزرق سماوي.. أشتهي أن أرى شكلي في المرآة بعد هذه المدة التي لا أحصيها.. أشتهي أن أشتهي.. أشعر ببرودة المطرقة فوق رأسي، ذبذبات برودة حتى منبت الشعر، حقل مغناطيسي من البرودة يحيط بي الآن.. أضيَقُ من القفص، شوك معدني يتسلق لحمي.. القفص ضيق و عال.. أظن أنه يغير شكله في كل مرة، إن الباب هناك.. في السقف، كيف سأصل إليه.. لا يمكن تسلق الحائط.. أسمع صوت قطار عابر.. أظن أن بناء السكة حديث جدا.. أخيرا صار لدي صديق أنتظر قدومه، و يؤنسني صوته، صديق لا يتذمر، أشكـّله كما أريد، أخبره بما أريد، أشرب كأسا مع صوته الذكوري، مع ليل أخترعه.. لا أحب قطارات النهار إنها تشبه أية وسيلة نقل أخرى.. في الليل يصير القطار جديرا باسمه.. أنا في هذا القفص قطار نهاري.. قطار رائع غير جدير باسمه..
رقصة الولادة.. رقصة التزاوج، رقصة الجمر.. الرقص هو كل ما أحتاجه.. أنا أدور.. أكاد أطير.. سُحقا لقد ارتطمت بأحد جيراني في القفص.. إنه ذَكَرٌ، بائس، ثقيل الحركة.. يرتدي مئزرا مثلي، و لديه رقم مثلي، و مطرقة.. أحيانا يكون التشابه مُطمْئِنا.. اعتذر منه.. فلا يكترث.. أسحب اعتذاري.. فلا يكترث.. أعود إلى الرقص فيستدير.. للحظة نسيت أنه ذكر..
هذا القفص يجعلني أبدوغبية.. و المطرقة تجعلني مضحكة لنفسي.. أواصل الرقص، أسمع الموسيقى من داخلي.. لا أثر لموسيقى في القفص.. أستمدها من صفير القطار كأنه لم يمرّ.. لا أريده أن يمر.. إنه الشيء الوحيد الذي يشعرني بأني على قيد الحياة.. فمنذ أدخلوني إلى هذا الشيء نسيت كيف يبدو الأحياء.. الشيء الوحيد الذي عرفته هو أنني كنت ملازمة لنفسي طول الوقت و حين اضطررت لذلك كرهتها.. و كرهت كم كنت ألازمها و تلازمني.. هذا ما يسمّى العزلة.. صرت أنظر فيما حولي و بدأت أحب هذه الروبوتات الصغيرة و ساعاتها الداخلية و أتمنى لو كنت مثلها.. إنها لحظة ضعف عابرة لكنها صادقة بما يكفي فإما أن تولد بساعتك الصغيرة أو تولد من دونها.. إنهم مثاليون و أنا لا أستطيع أن أكون مثلهم و لا أجد طريقة للخروج من القفص.. وحده القطار أنتظر ذهابه و عودته لأثبت انتمائي أو أنسبه إلي.. تخلخل شيء في داخلي.. جاري الإفتراضي عاد ليمر بجانبي، يسترق هذه المرة النظر إليّ، لم يكن يريد أن أراه.. أحببت تطفله البارد... عدت إلى رقصي غير مكترثة.. أموت و أحيا حين أرقص.. أرقص على صفير القطار، تتسلل النظرات إلى خصري، إلى شعري، إلى فتحة الصدر و ربلة الساقين، تصير النظرات أكثر جرأة و أكثر رغبة و أكثر اكتراثا.. و أصير أكثر غنجا و أكثر تركيزا.. أشعر أنني أقترب أكثر من السقف.. من باب القفص، أشعر أني أطير لكن يدا تمسكني.. يدا قوية لكنها بضة و حانية.. ألتفت و أنا أتصبب عرقا.. أشعر بأرضية القفص الطينية لأول مرة.. تلتقي عينانا و مئزره و مطرقته و رقمه و مئزري و رقمي و مطرقتي.. نلتقي في حضن شديد لكن بارد.. يسألني عن رقمي و أسأله عن رقمه.. أفكر أن هذا سؤال غير رومنسي، أسأله عن اسمه.. يتململ و يبتعد للوراء "اسمي ديسمبر" أرتعدُ.. أيلول الإسمنتي مازال يرسل ظلاله .."هل هذا اسمك حقا؟" "نعم" أتحاشاه و أواصل الرقص.. أكاد أصل إلى الباب لكنه يمنعني.. أعود إلى الرقص.. يختفى الباب...
أيَ شيء تشبهُ الحرية ُ؟ هل هي حرية لأنها خارج القفص؟ هل هي كذلك لأنها خارج حدود الوقتي، المؤقت، الموقوت..لماذا تـُعرف بأضدادها و لا تعرف بذاتها...أين الباب.. لم أعد أسمع صوت صفير القطار.. هذه الكائنات تتحرك نحوي..تلتف حولي بأرقامها و مآزرها و مطارقها و أسمائها الغريبة..إنها ليست سوى أسماء الأيام و الشهور التي كنت أعرفها خارج القفص... أهرب إلى هؤلاء الأطفال الصغار، كم هم ضعفاء و طيبون.. إن جمال طفولتهم و عذوبة أحجامهم الصغيرة تجعلك تفكر لو استطعت الهرب بمعيّتهم، بهم، بواسطتهم، من هذا القفص... أحاول أن أهرب من الكائنات التي تحاصرني و أناديهم، بأعلى صوتي و أدعوهم بحزم تارة و باستعطاف طورا لأن يثقوا بي و يخرجوا معي.. خارج القفص هناك حيث سكة القطار و السماء الزرقاء و الغيوم البيضاء...لكنهم ينظرون نظرات جامدة في نفس الاتجاه.. أدعوهم للبحث عن الباب.. باب القفص لكن فيما تهتدي هذه الحملان إلى الباب تخرج دفعة واحدة و تغلقه وراءها في سرعة البرق.. ألهث للحاق بها و حين أصل أجد أن مكان الباب تغير أو لم يكن هناك باب أصلا.. و أجد أنني صرت من هذه الكائنات الموقوتة التي لا تشعر و لا تفكر و لا تكترث.. صرت لا أشعر بحقل البرودة حولي و لا الشوك الذي يتسلقني.. لم يعد هناك قطار و لم يعد يهمني وجوده... فقد امتلأ بالحملان و ذهب بلا رجعة تاركا صفيره المتقطع يتلاشى.. يقترب مني ديسمبر.. نتبادل نظرات جامدة ثم أشعر بساعة في داخلي –لأول مرة أكتشف وجودها و تكتكاتها التي من نبضي- إنها تتوقف الآن و إلى الأبد..



#كوثر_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الفرقة الشعبية الكويتية.. تاريخ حافل يوثّق بكتاب جديد
- فنانة من سويسرا تواجه تحديات التكنولوجيا في عالم الواقع الاف ...
- تفرنوت.. قصة خبز أمازيغي مغربي يعد على حجارة الوادي
- دائرة الثقافة والإعلام المركزي لحزب الوحدة الشعبية تنظم ندوة ...
- Yal? Capk?n?.. مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 88 مترجمة قصة عشق ...
- الشاعر الأوزبكي شمشاد عبد اللهيف.. كيف قاوم الاستعمار الثقاف ...
- نقط تحت الصفر
- غزة.. الموسيقى لمواجهة الحرب والنزوح
- يَدٌ.. بخُطوطٍ ضَالة
- انطباعاتٌ بروليتارية عن أغانٍ أرستقراطية


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كوثر خليل - سلوليت