حسام تيمور
الحوار المتمدن-العدد: 5137 - 2016 / 4 / 19 - 21:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يعيش النظام الملكي المخزني مأزقا تاريخيا, فهو من جهة محاصر بتبعيّته للغرب و ما تُمليه من دمقرطة و تحديث ليس للممارسة السياسية بطبيعة الحال, و إنما لأنشطة النهب و آليات الاستغلال. و هذا ما تنتظره أحزاب النيو-مخزن أو اليسار الملكي "الإصلاحي" بفارغ الصبر.., و من جهة أخرى يتعرّض للجذب من طرف حرّاس المعبد من ورثة عبيد "عبيد البخاري", الذين لا يستطيعون التنازل عن شكل النظام القروسطي الموغل في التخلّف لأن في ذلك إحالةً لهم على التقاعد. و يضغطون في هذا الاتجاه. فلا يُمكن مثلا لداعية اسلامي اعتاد حياة الترف و الكسل فقط عن طريق الكلام و الإفتاء, لا يمكن له أن يشمّر عن ساعديه و يدخل المصنع للعمل. و هذه بالضبط حالة العصابة المخزنية و ورطتها الآنية التي تشمل جميع مكوّناتها : عسكر, ساسة, نخب, مثقفين, برجوازية.
هذا هو الصّراع الحقيقي بين قطبي الحكم و التحكّم في المغرب : "الإصلاحيون" و "المحافظون". و هو صراع مصالح بطبيعة الحال و ليس شيئا آخر!! و الذي يتم دائما حسمه لصالح المُحافظين بطرق عنيفة تصل لحد الإرهاب : تفجيرات 16 ماي, تفجير "أركانة" في أوج الحراك الشعبي سنة 2011.
و عكس ما قد يروّج البعض, على أن عملية "أركانة" الإرهابية كانت مؤامرة على هذا الحراك الشعبي الموؤود, فقد كانت موجّهة بالدرجة الأولى للمعسكر الإصلاحي الذي بدأ يلعب في المنطقة المحظورة مدعوما طبعا من أطراف خارجيّة سرعان ما تخلّت عنه لصالح الرّجعيّة مضطرة خشية أن تنفلت الأمور. و لقد لاحظ المتتبع اليقظ للحراك الشعبي المغربي سنة 2011, كيف أن هناك أقلاما مخزنية و مُخابراتية معروفة بدأت في تصعيد الخطاب و الضرب في قمّة البنية المخزنية و التلميح للسيناريوهات التي انتهت بإسقاط رأس النظام في تونس كما في مصر آنذاك. لكن بمجرد أن انتقلت العصابة المخزنية الى السرعة القصوى في احتواء الوضع (تفجيرات أركانة بمدينة مراكش), بلع الجميع ألسنتهم و شرعوا في التطبيل للاستثناء المعلوم و ثورة النظام على الشعب و الدستور الجديد الممنوح... و لنا أن نتعجّب, كيف أفلت هؤلاء جيمعا من المتابعة أو الانتقام المخزني بعد مقالات ناريّة نُشرت في جرائد "مخزنية", بينما تعرض الصحفي الأكثر شعبية في المغرب "رشيد نيني" للمحاكمة و السجن لمدّة سنة!! و هو القلم المحسوب على المعسكر "المُحافظ", الذي سخّر كل شعبويّته و سوقيّته في ضرب حركة العشرين من فبراير و الحراك الشعبي الذي كانت تتصدّره و بأرخص الطرق (ملاحدة, عُملاء, شواذ جنسيا).., و كذلك عمد إلى تسخير قلمه لكشف ما كان يراه مؤامرة على "الملكيّة" من طرف أقرب أصدقائها. و هنا نذكر مقالاته النّارية المدعومة بمعلومات استخباراتية صحيحة (بحكم أن لا أحد فنّدها), حول المستشار الملكي "فؤاد عالي الهمة" و صعلوك القصر "الياس العماري" و العسكريين و الأمنيين الذين انخرطوا في المؤامرة المزعومة (خاصة مقال بعنوان :السلفيّة الأمنيّة). لكنّه وجد نفسه ضحيّة دفاعه المُستميت المتهافت عن الاستثناء المغربي و "الملكيّة" التي يستعصي على الكثيرين في هكذا حالات تحديد ماهيتها. لكن على كل حال, فقد كانت اليد الطولى للمعسكر المُحافظ, الذي حسم الجدل بأصوات فرقعة الديناميت في مدينة مرّاكش, و لاختيار المدينة دلالة كبيرة بحكم أنها تُعتبر "عُرفيا" منطقة دولية و قبلة للنخب الغربية!! فيما يعني أن الرسالة لا تقتصر فقط على "ثورجيّي" الداخل أي البرجوازيّات المغبونة من تمدد الاستثمارات الملكيّة و بعض الأمنيين و العسكريين العجزة المحسوبين على فرنسا و أمريكا , بل على عرّابيهم في الخارج أيضا!! و قد لاحظ الجميع كيف كان لهذا العمل الإرهابي وقع عصا موسى على البحر, حيث عبر النظام بحر الربيع بأمان, و أغرق الباقين!! هذا يذكرنا بالضبط بما وقع بعد تفجيرات 16 ماي الإرهابية سنة 2003, التي كانت بتعبير وزير الداخلية الأسبق "ادريس البصري" مغربية-مغربية, و لا علاقة لها بالتطرف أو الإرهاب التقليدي, و إنّما إرهاب دولة جاء لحسم الصراع بين الإصلاحيين المتفائلين بما سُمي آنذاك بالعهد الجديد, الذي انخرطت فيه وجوه راديكالية وازنة سواء عن حسن نيّة أو فقط بدافع الانتهازية. و قد لاحظ الجميع عودة شبح المقبور الحسن الثاني إلى الواجهة منذ ذلك التاريخ بالضّبط, و صارت وعود و خطابات التغيير التي يتهجّاها محمد6 بصعوبة ضربا من الشيزوفرينيا و الانفصال عن الواقع الذي أصبح فيه الملك مجرد دمية ناطقة تُفَنّدُ ممارساتُ أصغرِ رجل سلطة على الأرض خطاباتها و وعودها الكاذبة. لكنه يظل المسؤول الأول في البلد عن كل الممارسات التي تتم باسمه سواء دستوريا و قانونيا أو بذريعة القرب منه.
هذا السرد للوقائع, رغم عدم استناده لأدلة مادية ملموسة, يبقى استنباطا منطقيا بالنسبة للقارئ العادي, و مبنيا على معرفة مُسبقة بطريقة اشتغال اللآلة المخزنية بالنسبة للقارئ المتفقّه في الموضوع. و الهدف من هذا السرد البسيط طرح السؤال الكبير الحرج المُحرج : أين الشعب من كل هذا؟
إن وجود الأغلبية الساحقة من المغاربة مقترن بمفهوم "الرّعايا" بدل مفهوم "المواطنين". و هذا هو المدخل الأهم لفهم وضع "السّبات" الذي يعيشه الشعب المغربي, و الذي يجعل منه مجرّد بضاعة تتقاذفها المصالح الداخلية و الخارجية, و رؤوس ماشية للاستقطاب من قبل "الدّاعية" السياسي, سواء كان اسلاميا أو اشتراكيا أو يساريا. إذ أن كل أشكال العمل السياسي القانوني في المغرب لا تتم إلا تحت سقف المقدسات المخزنية التي تتلخص في الملكيّة, الدين الاسلامي, الوحدة الترابية.
فهل يُمكننا القول بموت الشعب المغربي, الذي صار عاجزا عن مجارات الأحداث و الوقائع المتسارعة, و فضائح النظام-العصابة التي لا تنتهي, و جرائمه التي تمر بسلام حصرا في بلاد العجائب؟
لقد فقد الشعب المغربي قدرته على التكتّل و الاتّحاد, و تحول لمجرد أفراد عاجزين عن فعل أي شيء, باستثناء ما تفعله باقي الكائنات من أكل و شرب و خروج للبحث عن لقمة العيش, ثم التسمّر مساءً أمام الجلاّد الإيديولوجي. لقد فقد الشعب المغربي الإحساس بالهزائم والتراجعات والتنازلات، و صار يرى الجلاّد يبطش ويصادر ويعتقل وينكّل ويسجن ويعتدي، دون أدني رد فعل احتجاجي رافض معاكس. أي أنه أدمن مؤسسات الحزن و المذلة و الاستعباد و انخرط في الموت البطيء على هامش التاريخ.., مُستمتعا بضروب التعذيب و التنكيل و التحقير بكل مازوشية!!
حين يُقبل الرّعايا على بيع أصواتهم في الانتخابات, و في أفضل الأحوال التصويت على أساس العرق أو الدّين أو القبيلة, تبدأ التجارة بالوطن و الوطنيّة, و تتحول السرقة إلى شطارة، والتحايل إلى مهارة، و الخداع إلى فن (السياسة فن الممكن؟!)، و الانتهازية إلى واقعيّة. و تتحوّل البلطجة إلى رجولة, و النّضَال المبدئي إلى عُقَدِ طفولة, و الثورية الراديكالية إلى مراهقة سياسيّة. مما يُنتج لنا مشهدا سياسيا سمته العهر و الرّداءة بامتياز, و واقعا مُجتمعيا غارقا في الانتهازية و النضالات الفئويّة المصلحيّة و الخبزيّة التي تتخذ من أمثولة "أنا و الطوفان من بعدي" شعارا مركزيا. و في هكذا مستنقعات, ينشط و يستقوي تجار الدين و الأزمات, و سماسرة السلم الاجتماعي, الذين يركبون على انتهازية القطيع و ضيق أفقه بغية تحقيق مصالحهم الشخصية و ممارسة الابتزاز و الضغط ضمن نفس المنظومة التي ينتمون إليها بما يُحيل على طريقة عمل المافيا و الكارتيلات, و هذا هو المخزن, و هذا سر صموده و بقائه!!
إن أي تغيير لا تقوم به الإرادة الشعبية الحرّة الواعية, القادرة على انتاج نخب ثورية نزيهة وفيّة لهذه الإرادة و قادرة على بلورتها و تفعيلها و صيانتها من تكالب الانتهازيين و مصالح الاستغلاليين و الذهاب بها إلى بر القطيعة الإبستيمولوجية مع الماضي, لن يكون إلا إعادة انتاج لنفس الاستبداد بواجهات أخرى. مادام المُستنقع الذي يُنتج البعوض موجودا, و مادامت مصالح الإمبريالية و الرأسمالية مُتقاطعة أيضا مع تغيير سطحي يحسّن من وضع البلد كسوق عصري لاستهلاك نفايات الرأسمالية المتوحّشة, و يدرج الشعب ضمن أسواق نخاستها العصرية, بدل أسواق نخاسة "إمارة المؤمنين" أو "المخزن" القروسطية!! و هذا ملخّص مطلب الملكيّة البرلمانيّة و خلفياته الاقتصادية الكامنة, و الذي تطرحه أحزاب اليسار الملكي أو النيو-مخزن كحل لإنقاذ النظام الملكي و إعادة تأهيله بما يُشرك أولياء نعمة تلك الأحزاب من البرجوازيات المهمّشة حاليا في اللعبة الاقتصادية, و يُطوّر بنيات الاستغلال لصالح الرأسمالية العالميّة و الامبريالية الصهيونية.
و في الحالة المغربية بالذات, مُضَلّل من يقول بأن التغيير تصنعه النخب, و هذا ما تعوّدنا على سماعه من قبل بعض الفشلة المخصيين سياسيا و العقيمين فكريا, الذين يراهنون على شح النخب و استسلامها و سقوطها في مستنقع التدجين, بغية فرض الأمر الواقع و شرعنة الانتهازية و التطبيع مع العصابة الحاكمة تحت ذريعة الواقعية و انعدام الأفق الثوري. بل إن الحالة المغربية التي يَمنع فيها النسق الحاكم بكل الطرق ظهور هذه النّخب المنتظرة من قبل هؤلاء الانهزاميين, على شاكلة منتظِري المهدي , هذه الحالة لن يكون التغيير الحقيقي فيها إلا عبر زلزال عنيف يُغيّر من المعادلة على الأرض بشكل راديكالي, أي دك البنية القائمة (إسقاط النّظام). و بهذا فقط تُعبّد الطريق و يُفسح المجال أمام ظهور الطاقات المُهدرة, و الكفاءات المُغيّبة قسرا من قبل النظام القائم.
أما الجواب على السؤال المطروح كعنوان للمقال بالنفي أو الإيجاب. فليس في حد ذاته أمرا مُهما, بقدر ما يهم البحث فيه.
#حسام_تيمور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟