|
مفارقة السياسة الامريكية في المنطقة
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 1389 - 2005 / 12 / 4 - 13:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أمريكا التي لا تتمتع – لأسباب ليست خفية – برضا شعبي في منطقتنا ولا بقبول من غالبية النخب المثقفة متنوعة المشارب لدينا، تسعى وتدعو إلى نشوء أنظمة حكم ديموقراطية في هذه المنطقة. هذه مفارقة. فمن شأن نظام الحكم الديموقراطي أن يعكس ويشف عن ميول الجمهور وأن يترجم هذه الميول إلى قوة فاعلة ومؤثرة في رسم سياسة البلاد. أي، بالملموس، من شأن نظام حكم كهذا أن يشكل عقبة فعلية في وجه السياسة الأمريكية في المنطقة، هذه المنطقة التي تختزن قهراً معتقاً يتواشج فيه القهر الديني مع القهر القومي جراء السياسة الأمريكية فيها (تجاهل الحقوق القومية العربية والدعم الأمريكي لإسرائيل صارخ أكثر من أن تتقبله أكثر العقول "واقعية"). السؤال: هل تعمل السياسة الخارجية الأمريكية، في دعوتها الديموقراطية هذه، بما يعارض مصالحها؟ هل يصل التزامها الأخلاقي إلى حد أن تهدر المصالح على مذبح "المبادئ"؟ وهل من مبادئ للدول سوى مصالحها؟ بعبارة أخرى: هل حقاً تريد أمريكا نشوء أنظمة ديموقراطية أم أن ذلك مجرد يافطة "مقبولة" تحتاجها الدولة العظمى لتمرير سياسات غير مقبولة؟ لم يكن لأمريكا يوماً مصداقية فيما يخص القضايا العربية فهل باتت اليوم صاحبة مصداقية وباتت غيورة على حقوق الشعوب العربية في وجه أنظمتها؟ أسئلة تتوالد دون نهاية، وتزيد في تباين خطوط المفارقة إياها. تزداد هذه المفارقة غنىً لدى تأمل العلاقة معكوسة فيما يتعلق بالاتحاد السوفييتي السابق. هذا الأخير كان يتمتع بقدر لا بأس به من تعاطف شعوب المنطقة (تعاطف مكتسب من نصرته للقضايا الوطنية التي شكلت، وما تزال، جرحاً لا يندمل في وعي ووجدان شعوب المنطقة، كما من مناصرته للسياسات الاقتصادية الدولتية التي سميت اشتراكية "التأميمات" ولتحديد الملكيات الزراعية) ولم يكن، مع ذلك، يدعم أو يدعو إلى قيام أنظمة حكم ديموقراطية (ديموقراطية سياسية)، كان من شأنها منطقياً أن تفضي إلى مساندة السياسة السوفييتية في المنطقة. السؤال: لماذا كانت السياسة الخارجية السوفييتية غير متعاطفة مع الطرح الديموقراطي؟ ولماذا كانت توضع الديموقراطية السياسية على الضد من الديموقراطية الاجتماعية أو الديموقراطية الشعبية التي عنت في الواقع تحقيق مصالح الشعب المادية ومصادرة حقوقه السياسية، أي تحقيق مصالح الشعب بالوصاية عليه؟ الواقع أن النظرة السوفييتية في السياسة كانت تضمر، من هذه الزاوية، نوعاً من الازدراء للجمهور العام الذي تزعم أنها تعبر عنه. فالطليعة، بحسب هذه النظرة الفقيرة، أقدر من الشعب نفسه على معرفة ما هو في صالح الشعب، والديموقراطية السياسية تعطي عفوية الشعب، قل جهله، اليد العليا على دراية الطليعة ووعيها العالي. لذلك، وأمام شعب لا يعرف مصلحته حق المعرفة ولاسيما في ظل وجود أجهزة إعلام (برجوازية) قوية قادرة على صناعة (قل تشويه) الوعي الشعبي كيفما تشاء، لا بد أن تفرض الطليعة الواعية (وعياً غير قابل للتشوه) على الشعب العفوي ما هو في مصلحته فرضاً، متوسلة لذلك أجهزة الدولة "الطليعية". على هذا فالموقف السوفييتي غير المتحمس للديموقراطية السياسية ينبع، كما يتوهم هذا الموقف، من مصلحة الشعوب التي لا تصل أبداً إلى مرحلة بلوغ أو نضج تخولها أن تدرك مصالحها وتختار ما يناسبها دون وصاية وحرص أبوي من جانب طليعة ما. هذا مضمور وعي شيوعي في حضيض تحوله من وعي تحرري إلى وعي رسمي تكريسي يهدر كل رصيده "الشعبي" على قدم الدولة الشمولية. السياسة السوفييتية التي أبدت قدراً من التفهم والاحترام لحقوق شعوب المنطقة أبدت قدراً من انعدام الثقة في وعي هذه الشعوب. والسياسة الأمريكية التي لم تكتف ولا تكتفي بتجاهل حقوق شعوب المنطقة بل تميزت وتتميز أيضاً بقدر كبير من العدائية ضدها، تظهر الآن، مع ذلك، احتراماً للخيارات السياسية لشعوب المنطقة من خلال دعوتها إلى احترام حقوق الإنسان وإنشاء أنظمة حكم ديموقراطية فيها. نحن أمام المفارقة نفسها. فما هي دلالة هذه المفارقة؟ من الناحية السوفييتية ينفك لغز المفارقة بمعرفة أن الفكر السياسي الذي سيطر على السياسة السوفييتية فيما يخص البلدان المتخلفة هو ما سمي "رأسمالية الدولة الوطنية" أو مشتقاتها التي تتطلب مركزية سياسية واقتصادية لا تتماشى مع الديموقراطية السياسية التي باتت، نظراً لعدم تماشيها هذا، على اللائحة البرجوازية السوداء. أما من الناحية الأمريكية فالواقع أن هناك تعارضاً عميقاً بين ميلين يحكمان السياسة الخارجية الأمريكية في منطقتنا: الميل الأول (قديم) يدفع باتجاه تعزيز مكانة إسرائيل في المنطقة كحليف مضمون (لا يوجد لديه طموحات تقلق الهيمنة الأمريكية ولا يمكن أن تكون لديه مثل هذه الطموحات، نظراً إلى محدوديته البشرية والجغرافية واستحالة أن يشكل قطباً يجمع إليه ما حوله من شعوب ما تزال وستبقى تشعر بغربتها عنه وغربته عنها)، حليف لا تجرؤ أمريكا حتى الآن على التفكير بالتخلي عنه، أقصد التعامل مع إسرائيل كدولة لها حدود جغرافية وسياسية واستراتيجية معينة وتحكمها جملة العلاقات والقوانين التي تحكم الدول "الطبيعية" فيما بينها، دون هذا الموقع الاستثنائي الغريب الذي تخصها به أمريكا والذي يدغدغ البارانويا الإسرائيلية ويغذيها. هذا الميل هو المسؤول عن عدم الرضا الشعبي الذي يصل إلى حد العداء لأمريكا. والميل الثاني (حديث) يدفع باتجاه تفكيك الأنظمة المستبدة لصالح تشكيل أنظمة تشف عما يعتمل في الدولة والمجتمع من تيارات واتجاهات سياسية وتعارضات وصراعات. وقد بات هذا الميل يمتلك أسباب بقائه بعد أن انهارت المنظومة الاشتراكية، ولم يكن ذلك ممتنعاً من قبل لأن هذه الأخيرة كانت نقيضاً عالمياً حقيقياً للقطب الرأسمالي (أي تعبر عن العمل كطرف نقيض لرأس المال في علاقات الإنتاج الرأسمالية العالمية، فهي لم تكن كذلك)، بل لأن هذه المنظومة كان يمكنها أن تلعب دوراً استقطابياً من الناحية السياسية في حال أتيح للتيارات السياسية في المجتمع أن تتحرك بشيء من الحرية في المجال السياسي، الأمر الذي كان من شأنه أن يقوم بفعل إعاقة لسير السياسة الأمريكية، التي فضلت كظم هذه التيارات عبر جهاز الدولة ""الوطنية" المستبدة المضمونة الولاء. في هذه المرحلة تقاطع هذا الميل الأمريكي مع الميل السوفييتي فكانت هذه المرحلة، مرحلة الحرب الباردة، هي بحق ربيع الديكتاتوريات. لم يعد هذا الدور الاستقطابي موجوداً الآن، وباتت التيارات السياسية في مجملها تحت سقوف واطئة لا تشكل تهديداً يخشى. وبالتالي صار من المناسب للسياسة الأمريكية أن تتعامل مع مجتمعات مفتوحة من الناحية السياسية ليس فيها عوامل خفية قد تفاجئ أصحاب القرار السياسي في وقت ما (كما حدث في إيران الخميني مثلاً). على هذا فإن الدعوة الأمريكية إلى قيام أنظمة حكم ديموقراطية تنبع من صلب المصالح الأمريكية وليست مجرد "يافطة". ولكن الديموقراطية الأمريكية هذه تسعى إلى كشف الصراعات الاجتماعية السياسية والتدخل فيها لضبطها بكل السبل التي تمتلكها دولة عظمى. دولة لها داخل كل مجتمع من المجتمعات الطرفية أو مجتمعات العالم الثالث أو المجتمعات التابعة أو المتخلفة (سمها ما شئت)، طبقة برجوازية حليفة، طبقة كمبرادورية تشكل امتداداً لمصالحها السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية في الداخل. ميلان متعارضان غير متعارضين إن هذين الميلين المتعارضين لا يبدوان كذلك إلا من زاوية نظر شعوب المنطقة. من زاوية نظر صناع السياسة الخارجية الأمريكية لا يبدو هذا التعارض لأن الميلين ينبعان من ضرورة حفظ وصون المصالح ذاتها. الثابت أن هذا التعارض يرخي بثقله على أحزاب المعارضة في هذه المجتمعات، ويطرح عليها معضلة حقيقية، فتراها موزعة بين الانسجام الفكري السياسي من جهة والنجاعة السياسية العملية من جهة أخرى، كما بدا ذلك واضحاً مثلاً في "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي" الذي اجتمعت عليه أطياف المعارضة السورية مؤخراً.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعلان دمشق ..تقدم في الشكل وتراجع في المضمون
-
دنيا الدينالاسلامي الأول - 6
-
دنيا الدين الاسلامي الأول - 5
-
دنيا الدين الاسلامي الأول - 4
-
دنيا الدين الاسلامي الأول - 3
-
دنيا الدين الاسلامي الأول - 2
-
دنيا الدين الاسلامي الأول 1 من 3
-
في مسألة الأخوان المسلمين في سورية
المزيد.....
-
بعد تحرره من السجون الإسرائيلية زكريا الزبيدي يوجه رسالة إلى
...
-
أحمد الشرع رئيساً انتقاليا لسوريا...ما التغييرات الجذرية الت
...
-
المغرب: أمواج عاتية تضرب السواحل الأطلسية وتتسبب في خسائر ما
...
-
الشرع يتعهد بتشكيل حكومة انتقالية شاملة تعبر عن تنوع سوريا
-
ترامب: الاتصالات مع قادة روسيا والصين تسير بشكل جيد
-
رئيس بنما: لن نتفاوض مع واشنطن حول ملكية القناة
-
ظاهرة طبيعية مريبة.. نهر يغلي في قلب الأمازون -يسلق ضحاياه أ
...
-
لافروف: الغرب لم يحترم أبدا مبدأ المساواة السيادية بين الدول
...
-
الشرع للسوريين: نصبت رئيسا بعد مشاورات قانونية مكثفة
-
مشاهد لاغتيال نائب قائد هيئة أركان -القسام- مروان عيسى
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|