|
عن الفلتان الأمني أيضاً
فراس جابر
الحوار المتمدن-العدد: 1389 - 2005 / 12 / 4 - 13:24
المحور:
القضية الفلسطينية
حالة اللاستقرار التي يعيشها المجتمع الفلسطيني قاطباً تُعزى بنظر الكثيرين من الكتاب والسياسيين إلى حالة عدم الضبط الأمني أو ما يسمى "الانفلات الأمني"، ورغم وجود الكثير من البوادر التي تُقلق في هذا المجال، إلَا أنه يجب التأكيد على النظر بشكل أعمق وأشمل لهذه الظاهرة من اللاستقرار، التي عواملها وظروف نشأتها لها جذور تاريخية تضرب عميقاً في أسباب وجود المجتمع الفلسطيني ذاته. هذا المجتمع الذي لم يشهد فترات استقرار طويلة نسبياً خلال تاريخه الحديث المليء بالأحداث التي تركت علامات فارقة فوق جسده الممزق تقسيماً واحتلالاً، حتى سميت هذه الأحداث اصطلاحاً حقباً وحروباً ونكسات، ولم تترك هذه الظاهرة، عدم الاستقرار هذه جانبا من حياتنا إلا وأثرت عليه، بل شملت معظم تفاصيل حياة المجتمع الفلسطيني سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ولا داعي لذكر المحطات التاريخية الحديثة التي مر بها هذا المجتمع، والتي يدركها الفلسطيني بفعل معايشته لها وليس فقط من خلال دراستها.
الحاصل حديثاً هو إهمال مجموع هذه الظروف في معرض تناولنا للظاهرة الفلتان الأمني التي يعيشها المجتمع الفلسطيني، والتي أقل ما توصف بأنها أزمة بنيوية تطال بنى المجتمع ذاته قبل أفراده، وليس هذا الوصف تهويلاً أو مبالغة بقدر ما هو مراجعة وتشخيص للظروف الحالية التي يعيشها المواطن الفلسطيني المقهور، "والتي بالتأكيد لم تنتج خلال سنة أو سنتين" من الانفلات الأمني، مترافقاً مع غياب المرجعيات "تم تناولها سابقاً في مقال نشر في جريدة الأيام"، حالة الإحباط المجتمعي، انعدام رؤية مستقبلية وآمنة للفلسطينيين. ربما هذه هي العوارض، وفي ذات الوقت الأسباب للأزمة البنيوية التي تضرب جذورها عميقاً في وعينا الجمعي، لأن المجتمع الفلسطيني الحديث اعتاد على وجود صراع وجودي يحدد ملامح عمل هذا الوعي حتى قبل تشكله ذاتياً، بحيث يتم تحديده جمعياً من قبل المجتمع الذي يعيش حالة الصراع مع الاحتلال، وبانتقال سريع إلى اللحظة التي نعيشها نجد أن الخطاب السلطوي حاول إلغاء هذه الحالة من الوعي الجمعي الفلسطيني ليستبدلها بأخرى فردية تسعى للحياة العادية، بناء على إلغاء المواجهة المباشرة لحالة الصراع، والتخفيف من مثيراتها، لكن دون إلغاء أسباب وجودها الحقيقية المتمثلة بالاحتلال نفسه، مما أدى بشكل تدريجي إلى تحول هذا الوعي الجمعي إلى ساحة الفعل الفردي "بالطبع دون تخطيط"، الذي رأى في هذه المرحلة فرصة للعيش بشكل طبيعي قدر الإمكان، ومحاولة ممارسة النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي حرم منها بفعل ذاتي أو موضوعي، مع هذه المحاولة الفردية، كانت السلطة ومؤسساتها مشغولة ببناء ذاتها وهيمنتها بشتى الطرق، وترافق هذا الانشغال مع حالات الفساد والسرقة للمقدرات العامة من المتنفذين الذين رؤوا في هذه الفترة الفرصة المناسبة لتكوين استثمارات طويلة المدى مستغلين الانشغال والإغفال المرافقين لهذه المرحلة. محصلة هذه الصورة هي ما نراه اليوم من تكَون فهم مبطن من قبل المواطن المقهور لطبيعة سير الأمور التي تناسبها محاولة تحسين الدخل بشتى الوسائل والطرق، والسعي وراء المصلحة الفردية، وتكوين العلاقات "المناسبة" كثقافة مهيمنة وممارسة مألوفة، وإن نأت جموع المواطنين عنها، إلا أن ذلك لم يمنع فئات ليست قليلة من استغلال الانتفاضة الثانية، وما رافقها من أحداث لتوسيع هامش الربح، والسيطرة عبر مواقع "المقاومة" وامتلاك القوة الميدانية، وافتقاد السلطة لها، بما دفع إلى استحواذهم على سلطة ما كانوا ليحوزوها لولا المظاهر التي اتبعها عدد من المتنفذين سلطوياً. الخطير هنا هو مطابقة السلوك بحكم امتلاك قوة معينة (سياسية، اقتصادية، وظيفية) لتحقيق المكاسب والمنافع الذاتية، والتي ليست فقط تخدم هؤلاء الأفراد بل تضر بمصالح مجموع العامة، وهنا يبرز سؤال لماذا لا يتحرك العامة لمواجهة هذا السلوك الخطير؟ تكمن الإجابة عليه في وجود وغياب مكوّنين وهما:غياب الوعي الجمعي الذي يوحد المجتمع في سبيل قضية ما نظراً للخطاب الذي سبق الحديث عنه، ووجود ممارسة على مستوى فوقي لهذا السلوك بما دفع لتحييد مجموع المواطنين عن التحرك لمحاربته، وإن كان يثير سخطهم بشكل علني وسري، الأخطر من هذا هي الملامح الباقية للصورة غير المكتملة، وبحسب تقرير للهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن ذهب أكثر من مائة وعشرين فلسطينياً ضحايا للانفلات الأمني والجريمة "التي بدأت تظهر بشكل أوسع من ذي قبل"، ولأول مرة يقع هذا العدد بشكل يفوق ضحايا الاحتلال، وكأن ما بقي عمله على المجتمع الفلسطيني هو تصفية الحسابات بعد أن انتهى من حل كافة قضاياه المهمة والمصيرية. هل يمكن اعتبار هذا الرقم بسيطاً أو رقم مهول يجب استنفار كل طاقات المجتمع المعطلة من أجل وضع حد نهائي له، ومعالجته بشكل جذري لا التقليل من شأنه، واعتباره ضمن المعدلات الطبيعية، كما تجدر الإشارة هنا إلى جزء من الضحايا سقطوا نتيجة تصفية حسابات شخصية، وأخرى سياسية، وثالثة لاعتبارات الحفاظ على القوة، أو لاعتبارات الثأر، غير تلك المتعلقة بالجريمة، ومن أجل إقناع المترددين حتى الآن يمكن النظر إلى ملفات القضاء التي تفيد بتسجيل تسعة ألاف جريمة، مما يدفع باتجاه تحول خطير داخل المجتمع الفلسطيني ترى نسبة لا بأس منه أن هذا النهج مقبول للاعتبارات التي تم ذكرها، وبالإضافة لعدم وجود محاسبة فعالة على ما يجري، وبالتالي هناك إمكانية لتحقيق المال والمصلحة الشخصية من خلال استغلال الموقف الحالي، والمخيف هنا هو زيادة تبني الأفراد لهذا السلوك.
ما موقف بقية الفلسطينيين المقهورين مجتمعياً واقتصادياً وبسبب الاحتلال مما يرونه ويسمعونه، أم أن هناك المزيد من الموانع تجاه التحرك إلى مجال الفعل، ربما تعداد جزء من الموانع سيضيف للصورة ملامحاً توضحها أكثر، تمتد هذه الموانع من وجود الاحتلال وقمعه اليومي، إلى انتشار البطالة، وارتفاع أسعار السلع، وانخفاض قيمة الأجور "إن وجدت"، وانتشار السيارات الفارهة بشكل يفوق الوصف، إلى رؤية مظاهر الفساد والمحسوبية في مختلف المستويات، وفي عدد من المؤسسات، والغنى غير المشروع، مترافقاً مع الرغبة بتأمين مستقبل اقتصادي مناسب للمواطن ولعائلته، إلى استغلال الشركات، والإحباط الناتج عن عدم رؤية بوادر واضحة للمستقبل، بالإضافة إلى استقبال وافد جديد وهو الجريمة، والصراعات الحزبية والسياسية والشخصية، إلى الكثير من الأمور السلبية التي انتشرت بصورة أو بأخرى في مجتمعنا.
هل تدفع هذه الصورة غير المتضحة حتى الآن، ولكن القاتمة مواطناً مقهوراً ومسكوناً بقضايا هذا الوطن الجريح إلى التحرك من أجل محاربتها! أم تدفعه باتجاه ممارستها، وعلته الأساسية في ذلك حجم انتشارها، وعدم معاقبتها، أم تدفع هذه الصورة كافة مكونات المجتمع إلى التحرك السليم لإعادة صياغة العلاقة مع هذا المواطن وتصويبها، ومعالجة مواطن الخلل فيها، وتبقى هنا قضية إيجاد حلول لهذه المظاهرـ السلوكيات، وسأكتفي في هذا المجال بوضع هذا التساؤل؛ هل يجب على الفرد تبني حلول فردية موجهة لذاته أو لغيره أم يجب علينا إحياء وبناء الوعي الجمعي الفلسطيني لنتمكن من مواجهة شاملة مع قضايانا؟
* باحث/ منسق مشروع الحكم الصالح
#فراس_جابر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول رمزية الخطاب في بلادنا
المزيد.....
-
هوت من السماء وانفجرت.. كاميرا مراقبة ترصد لحظة تحطم طائرة ش
...
-
القوات الروسية تعتقل جنديا بريطانيا سابقا أثناء قتاله لصالح
...
-
للمحافظة على سلامة التلامذة والهيئات التعليمية.. لبنان يعلق
...
-
لبنان ـ تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت
...
-
مسؤول طبي: مستشفى -كمال عدوان- في غزة محاصر منذ 40 يوما وننا
...
-
رحالة روسي شهير يستعد لرحلة بحثية جديدة إلى الأنتاركتيكا
-
الإمارات تكشف هوية وصور قتلة الحاخام الإسرائيلي كوغان وتؤكد
...
-
بيسكوف تعليقا على القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان: نطالب بوقف ق
...
-
فيديو مأسوي لطفل في مصر يثير ضجة واسعة
-
العثور على جثة حاخام إسرائيلي بالإمارات
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|