أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - الدولة العراقية معطّلة ومشلولة بسبب الطائفية السياسية وألغام الدستور (الحلقات 3+4+5)















المزيد.....



الدولة العراقية معطّلة ومشلولة بسبب الطائفية السياسية وألغام الدستور (الحلقات 3+4+5)


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 5125 - 2016 / 4 / 6 - 21:02
المحور: مقابلات و حوارات
    


الزمان تحاور المفكر والكاتب عبد الحسين شعبان:
الدولة العراقية معطّلة ومشلولة بسبب الطائفية السياسية وألغام الدستور
الحلقة 3/5

يعدّ الحوار مع كاتب ومفكّر كبير ذو شجون خاصة، لاسيّما إذا كان عن صفحات تاريخية ومواقف سياسية لمرحلة مهمة من تاريخ العراق عامة، ومدينة النجف خاصة، كشف فيها المفكّر عبد الحسين شعبان، ربّما للمرة الأولى عن تلك الصفحات، خاصة في كيفية بناء الدولة، التي يضعها بمنزلة علوية طبقاً للقانون وفوق أية مرجعية سياسية كانت أو حزبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، وبناء الوحدة المجتمعية وفق ثقافة الحوار والسلام واعادة النظر في المناهج التربوية وفق أسس علمية سليمة تقوم على التسامح ونبذ العنف والكراهية والكيدية والاستعلاء..

بمراجعة سريعة للحقبة الماضية نرى أن الأحزاب الشمولية جميعها فشلت، سواء كانت قومية أو ماركسية أو دينية، لأنها برّرت إلغاء الآخر وعدم الاعتراف بالتعددية والإقرار بالتنوّع. فالأحزاب القومية ونموذجها حزب البعث الذي حكم العراق ثلاثة عقود ونصف من الزمان وهيمن على الحياة السياسية، حوّل قيادته للدولة والمجتمع من "الحزب القائد" إلى " الحزب الواحد"، ومن حزب يمثل الشعب أو الأمة كما يقول إلى حزب جهوي ومناطقي، وهكذا خضع حزب إلى قيادة العشيرة، ثم العائلة، وخصوصاً بعد استيلاء الرئيس صدام حسين على السلطة في العام 1979، وتربّع على رأسها ورأس الدولة بصلاحيات تكاد تكون مطلقة، فهو الأمين العام للحزب ورئيس مجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء.
وبزعم امتلاك الحقيقة وإدعاء الأفضليات، بدأت مسارات الدولة والمجتمع تتّجه إلى الواحدية والإطلاقية والإجماع حتى وإن كان مصطنعاً، بتضييق وإلغاء أي اختلاف أو خلاف، وإلاّ كيف تفسّر أن يبتهج الحزب الحاكم بفوز رئيسه في استفتاء يحصل فيه على 100% من الأصوات، ثم كيف يوقّع اتفاقية 6 آذار (مارس) المذلّة العام 1975 مع إيران وتحظى بالإجماع، ويلغيها بالإجماع في العام 1980 ويشن حرباً تستمر ثماني سنوات 1980-1988 ( بالإجماع) ويعود إلى اتفاقية 6 آذار (مارس) بالإجماع، وخصوصاً بعد التورط بغزو الكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990، برسالة من صدام حسين إلى الرئيس هاشمي رفسنجاني في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 1990.
أليست تلك كوموتراجيديا، وهي سخرية أقرب إلى المأساة ، وحسب شكسبير أنها: سخرية القدر، أو كما يقول عنها ماركس: إنها سخرية التاريخ، وهي سخرية الزيف والمشاطرة واللاّ مبالاة حسب الكاتب الروائي الساخر أبو كاطع " شمران الياسري".
وبعد أن كان الحزب يحكم أصبح الحزب محكوماً من جانب جهاز مخابرات متعدّد المخالب والامتدادات، وهكذا ألغيت أية مظاهر يُشمّ منها رائحة معارضة أو اختلاف أو عدم توافق أو رضا، حتى وإن بالصمت، وتقلّصت الهوامش المحدودة لدرجة أقرب إلى التلاشي، وأحياناً كان التفتيش في ثنايا القصيدة أو ما وراء اللوحة أو مدلولات الكلمة ومقاصدها.
وهي استمرار للوصفة الجدانوفية (نسبة إلى جدانوف، الأيديولوجست ووزير الدعاية والمستشار المقرّب من الزعيم السوفييتي ستالين) التي حكمت الاتحاد السوفييتي وطبعت حياة الناس الثقافية، ومثلها كانت الأنظمة الشمولية في العالم الثالث، سواء التجربة المصرية (الناصرية) أو البعثية (العراقية – السورية) أو اليمنية الجنوبية (حكم القبائل الماركسية) أو التجربة الليبية (القذافية) أو التجربة الجزائرية (البومدينية) أو التجربة السودانية (النميرية- الإسلاموية لاحقاً).
هذا هو ديدن الأحزاب الشمولية والفكر الشمولي عموماً، وهو ما سارت عليه البلدان الاشتراكية ، فعلى الرغم من بعض المنجزات التنموية التي تم تحقيقها في بعض البلدان الاشتراكية، فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لكن شحّ الحرّيات وعدم الإقرار بالتعدّدية والاعتراف بالتنوّع ومحاولات فرض الهيمنة بزعم قيادة الطبقة العاملة التي لم تكن سوى بيروقراطية الحزب والدولة، وبالأساس الأجهزة الأمنية التي هيمنت على كل شيء، الأمر الذي قاد إلى اختناقات وأزمات حادة، والشيء ذاته في التجارب المستنسخة لدول ما أطلقنا عليها العالم الثالث.
وكانت الشعارات التي أطاحت بأنظمة أوروبا الشرقية بسيطة وعامة: نريد حواراً .. نريد تعددية.. ونريد مشاركة.. ونريد انتخابات حرّة، مثل شعارات حركة الاحتجاج الشعبية في ما سمي بالربيع العربي. وكذلك اليوم فيما يتعلق بحركة الاحتجاج المستمرة منذ عدّة أشهر في العراق والمطالبة بالتغيير فإن شعاراتها تدعو إلى محاربة الفساد ومساءلة المفسدين وتوفير الخدمات، وكانت حركة الربيع العربي قد طرحت شعارات من قبيل المطالبة بـ: الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
وإذا كانت الحركة الشيوعية وبلدان حركة التحرر الوطني وأنظمتهما قد وصلتا إلى طريق مسدود بعد نجاحات وإنجازات وإنْ كانت محدودة وتوقفت، بل وتراجعت، خصوصاً بتراجع الأفكار الآيديولوجية وانتهاء عهد الحرب الباردة، فإن الأحزاب الدينية على مختلف توجهاتها السياسية والمذهبية شيعية أو سنية، كانت تحمل معها فايروس فشلها منذ البداية، لأن أساسها تقسيمي وطائفي، خصوصاً بعد وصولها للسلطة أو اقترابها منها. يكفي أن نستعيد ردود الأفعال التي أعقبت الثورة الإيرانية، التي كانت ثورة شعبية بامتياز، لكنها وبعد اختطاف التيار الديني لها ضاقت مساحة الرأي الآخر، لدرجة أصبح محرّماً على أي تيار سياسي حق العمل القانوني والشرعي، بل لوحقت جميع القوى والأحزاب المغايرة، في التوجه والفكر، وأصبح العمل السياسي والمهني حكراً على تيار واحد، بإلغاء التعددية والتنوّع في المجتمع، بل إن هناك نصوصاً دستورية تحدّد مذهب رئيس الجمهورية، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ المساواة والمواطنة وحقوق الإنسان.
والأمر على هذا المنوال سار النظام السوداني حيث تقلّصت قاعدته بالتدريج وكان من أسباب فشله هو عدم تمكّنه من حل مشكلة الجنوب، الذي انفصل في العام 2010 باستفتاء شعبي، في حين كانت هناك فرصة لحل المشكلة الجنوبية، لو استجابت الحكومة لبعض مطالب الحركة الجنوبية، واتسمت خطواتها بالعقلانية والحوار والتفاهم والتوصل إلى حلول مرضية بصيغة لا مركزية أو فيدرالية في إطار دولة موحدة.
وتجربة حكم حزب الدعوة والتيار الديني في العراق والقوى المشاركة معه منذ تأسيس العملية السياسية بعد الاحتلال كانت فاشلة، فليس هناك منجز واحد فيها يمكن الإشارة إليه بالبنان، لا على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الأمني أو السياسي أو القانوني أو التربوي أو الصحي أو العمراني أو الإنساني، ناهيك عن تكريسها صيغة المحاصصة الطائفية والإثنية التي جاء بها بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق (13 أيار /مايو/2003- 28 حزيران/ يونيو/2004)، ولا يزال التقاسم الوظيفي المذهبي والإثني مستمراً في ظل دستور حمل الكثير من الألغام، لدرجة أصبحت الدولة معطّلة ومشلولة بجميع مفاصلها ومن القمة حتى القاعدة.
وإضافة إلى الطائفية السياسية، هناك ظاهرة الفساد المالي والإداري التي وضعت البلاد في أسفل قائمة الدول التي تعاني منها. والعراق اليوم انتقل من نمط الدولة المستبدة إلى نمط الدولة الغنائمية الفاشلة بكل معنى الكلمة، ويعاني من ذبول وانحلال مقوّمات الدولة، التي انهارت إلى حدود كبيرة، وخصوصاً وإن سيادتها معوّمة وكرامتها مجروحة، بفعل التدخلات الخارجية الدولية والإقليمية، وبفعل اقتطاع داعش والمنظمات الإرهابية محافظة الموصل والعديد من المناطق وتمدّدها إلى محافظات أخرى، واستمرار ظاهرة الإرهاب والعنف مستشرية على نحو صارخ. وفي كل هذه الأجواء تستمر الميليشيات خارج حكم القانون وتروج فكرة التقسيم من خلال استقطابات طائفية ونظرة قصيرة الأمد لما هو قائم.
كان بعض المعارضين في السابق غير مكترث بضرب العراق وتدميره وفرض حصار جائر عليه وقتل أطفاله وقطع خط تطوره التدريجي، بل كان يحرّض ويفتري ضد العراق ويطالب بفرض المزيد من العقوبات عليه، طالما كان الحاكم هو صدام حسين ظالماً ومستبداً، وهم غير قادرين على تغييره، فيعوّلون على الخارج ويدفعونه لشن الحرب، وهو الأمر الذي قاد إلى الاحتلال بذرائع واهية.
واليوم فإن البعض لا يهمّه إنْ تقسّم العراق أو تم تدمير وحدته الكيانية، بزعم حكم حزب الدعوة والميليشيات. وأولئك المعارضون والحاكمون اليوم، مثلما هؤلاء المعارضون الجدد وقسم منهم كان حاكماً بالأمس، والمشاركون الفعليون، ليس لديهم مشروع سياسي تغييري وليس لديهم نهج للحكم أو للتغيير، بل همّهم في السابق والحاضر هو السلطة، وهو ما قاد بلادنا من فشل إلى فشل أكبر.
وانكشف أمر تجارب الحكم الدينية على نحو شديد خلال حكم حزب الدعوة وشراكة التيارات الإسلامية من الشيعة والسنّة في العراق، وتجربة حكم الأخوان على قصرها في مصر وتجربة حكم حزب النهضة في تونس وكذلك تجربة السودان التي تعتقت فيها أنماط احتكار العمل السياسي بدعاوى مغلّفة بالدين وتجربة الجزائر التي أجهضت فيها الإرهاصات الأولى للتغيير، فما إن فازت الحركة الإسلامية بالانتخابات ، حتى قررت إعلان موقفها المناوئ للديمقراطية، ولعل استمرار العنف في الجزائر الذي حصد أرواح ما يزيد عن 100 ألف إنسان، كان من ذيول تلك التجربة وردود الفعل إزاءها.
والحركة الإسلامية الليبية هي الأخرى كانت إحدى تحديات حركة التغيير التي كانت تنتظرها ليبيا، خصوصاً وقد لعب التدخل العسكري الخارجي دوراً سلبياً في توجهها، والأمر كذلك في سوريا التي كان للحركة الإسلامية دورها المؤثر في توجّه حركة الاحتجاج نحو العسكرة، الأمر الذي دفع الأمور باتجاهات أخرى فسحت المجال للتدخل الخارجي، وفتحت الباب على مصراعيه لشهيّة الوجود العسكري الإقليمي والدولي، وفي اليمن أيضاً فإن التجاذبات السياسية كان بعضها ذات بعد ديني، ولاسيما بالتداخل الإقليمي والذي وجد ضالته على أرض اليمن.
أعتقد إن ليس بإمكان الأحزاب الشمولية بصيغتها القديمة قدرة على إدارة الحكم بصورة سليمة لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة، مثلما ليس لديها الخبرة والتجربة، مهما رفعت من شعارات. والدولة بدواوينها كيان يتطور ببطء ووفق سياقات تدرّجية وتراكمية ، وأية عملية انقلابية ستؤدي إلى الارتداد إن آجلاً أم عاجلاً، وأعتقد أن تجارب البلدان الاشتراكية وكذلك تجارب البلدان النامية أكدت هذه الحقيقة، إذ بدون التراكم الطويل الأمد لا يمكن إحداث التنمية المطلوبة، لأن التغيير في نهاية المطاف ينبغي أن يستجيب لدرجة تطور المجتمع الذي سيكون متقبّلاً له وراغباً فيه وحامياً لظهره، وإلاّ فإن أي تغيير سيلقى مقاومة معلنة أو مستترة، تبدأ تفعل فعلها حتى يتم الارتداد عليه أو التراجع عنه، وأحياناً يحدث هذا بردّات فعل حادة وسريعة يؤدي إلى عكس ما أراده التغيير من تسريع، فيعود القهقري، في حين كان يمكن إحداث نوع من التطوّر التدريجي الطبيعي غير الانقلابي.
وتتربّص القوى المخلوعة والمحافظة والتي تستهدفها عملية التغيير تارة بوضع العصي بعجلة التغيير، وأخرى باتخاذ موقف سلبي، وثالثة بانتهاز الفرصة المناسبة للعودة إلى المواقع الأمامية، وبعض هذا حصل في مصر وتونس وليبيا واليمن، وهو ما كان يطلق عليه اسم الثورة المضادة لمواجهة عملية التغيير الثوري.
وحتى الأفكار الثورية لا بدّ لها من سياق مؤسسي، فالتغيير لن يتم بالانقلابات العسكرية والمؤامرات وأعمال العنف أو باستخدام بعض أجهزة الدولة ضد الأخرى أو ضد الدولة، بل يمكن أن يتم عبر تطور في أداء المجتمع ذاته بفرض إجراء انتخابات حرّة وبقانون انتخابات يستجيب للتطور وفي إطار دستور يأخذ بمبادئ المساواة والمواطنة ويحترم حقوق الإنسان، وذلك من خلال قضاء مستقل يمكن الاحتكام إليه، وبالإقرار بالتعددية والتنوّع واحترام حقوق المجاميع الثقافية الإثنية والدينية واللغوية والسلالية، وبغير التطور السلمي المدني الطويل الأمد لا يمكن تحقيق أهداف أية حركة ولا يختلف في ذلك أكانت علمانية مدنية أو دينية أو قومية أو اشتراكية، إذْ ينبغي أن تكون في إطار حكم القانون وتؤمن بوجود الدولة ومرجعيتها التي تعلو على جميع المرجعيات الدينية والطائفية والسياسية والحزبية والعشائرية وغيرها.
وعلى هذه الأحزاب إجراء مراجعة حقيقية تستجيب لروح العصر إذا أرادت البقاء في إطار المشهد السياسي، وإلاّ فإن الزمن سيتجاوزها إنْ لم تُحدِث تغييراً حقيقياً في داخلها وفي عملها وأساليب تنظيمها وطريقة تفكيرها ومناهجها السياسية.
الزمان تحاور المفكر والكاتب عبد الحسين شعبان:
الإعلام عنصر تغيير هائل وهؤلاء هم منابر الصحافة في العراق
الحلقة 4/5

يعدّ الحوار مع كاتب ومفكّر كبير ذو شجون خاصة، لاسيّما إذا كان عن صفحات تاريخية ومواقف سياسية لمرحلة مهمة من تاريخ العراق عامة، ومدينة النجف خاصة، كشف فيها المفكّر عبد الحسين شعبان، ربّما للمرة الأولى عن تلك الصفحات، خاصة في كيفية بناء الدولة، التي يضعها بمنزلة علوية طبقاً للقانون وفوق أية مرجعية سياسية كانت أو حزبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، وبناء الوحدة المجتمعية وفق ثقافة الحوار والسلام واعادة النظر في المناهج التربوية وفق أسس علمية سليمة تقوم على التسامح ونبذ العنف والكراهية والكيدية والاستعلاء..

س :الاحتلال الأمريكي بعد 2003 كرّس الطائفية وشلّ الذراع العسكري للبلاد بحل الجيش السابق والشرطة ..وإلغاء
وزارة الإعلام والصحف الآن منذ اثني عشر عاماً الحكومات التي تعاقبت تحاول بشتى الوسائل إسكات المنابر الإعلامية الحرّة المستقلة من التواصل ..كيف ترون مستقبل هذه الصحف والإعلام المستقل في العراق ؟

الاحتلال الأمريكي لم يقم بإسقاط النظام السابق، بل أطاح بالدولة العراقية، لاسيّما بحل الجيش والأجهزة الأمنية، بما فيها شرطة الحدود وشرطة مكافحة الجريمة وشرطة النجدة وغيرها، وعلى الرغم من افتضاح فريّة اتهام العراق بتخزين وإنتاج أسلحة دمار شامل وضلوعه بالإرهاب الدولي، وهو ما اعترف به الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في وقت لاحق، فإن الاحتلال حاول تصميم عملية سياسية على هواه ووفقاً لمذاقه، وهو ما عملت عليه أجهزة أمنية أمريكية لمدة طويلة ومراكز أبحاث ودراسات، تلك التي كانت تعمل على إلغاء صفة العراقية عن العراقي وطمس هويته المشتركة وتغييب صفة الشعب بحيث يصبح العراقيون مجرد كيانات مذهبية وإثنية، فهم شيعة وسنّة وأكراد، وليسوا مواطنين لهم الحقوق والواجبات ذاتها كما تقول الأنظمة الديمقراطية.
وحتى عرب العراق وهم الذين يؤلفون أكثر من 80% من سكانه فإنه تم تغييب صفتهم وتوزيعهم على طوائف افترضوا تناحرها، والأكثر من ذلك حاولت هذه المراكز اعتبار العروبة صفة لصيقة بالنظام السابق، بمنحه هذا الامتياز، بل وتحميل العرب وزر ارتكاباته الصارخة وانتهاكاته السافرة لحقوق الإنسان، وساعد بعض المعارضين من الذين عملوا في تلك المراكز وبعقود خاصة مع البنتاغون بصفة مستشارين في بلورة مثل تلك الرؤية، وهو ما جاء دورهم في وقت لاحق بعد الاحتلال، ويتم اليوم تحضير الخط الثاني المتعاون مع الاحتلال بعد فشل مجموعة الخط الأول، الذين تدهورت سمعتها وطالبت التظاهرات الشعبية بمحاسبتها، وتبرز اليوم بعض الوجوه وتردّد بعض الأسماء التي عملت في إطارات الأجهزة الأمريكية بصفة أكاديمية أو بحثية، وهي الظهير الآخر للقوى السياسية المتعاونة مع الاحتلال.
صيغة المحاصصة الطائفية – الإثنية كانت تعني وجود منابر إعلامية مختلفة، وفي البداية وبعد حل وزارة الإعلام وتسريح موظفيها ، مثلما تم تسريح نحو 250 قاضياً ومئات من أساتذة الجامعة ومن مراكز وظيفية حيوية في مفاصل الدولة، انفلت الإعلام ، وهو جزء من الفوضى الخلاقة التي أراد الأمريكان تعميمها، حتى إنهم موّلوا مراكز أبحاث (مزعومة) وصحف ومؤسسات إعلامية ودفعوا مبالغ لمؤسسات مجتمع مدني، قال بريمر نفسه إنه دفع في فترة حكمه 780 مليون دولار، لا أحد يعرف أين ذهبت؟
ولم تفصح لنا مفوضية النزاهة التي تشكّلت لاحقاً، مَنْ تعاطى منها مع المشاريع الخارجية واستلم المساعدات من بريمر وغيره وكيف تم صرفها، بل إن بريمر دفع لمؤسسات إعلامية على ما ينشره صحفيون بأسمائهم، وبالطبع لتبرير الاحتلال باعتباره أمراً واقعاً، ولابدّ من التعامل معه، وهو الأمر الذي أشار إليه في كتابه " عام قضيته في العراق".
الفورة الإعلامية الأولى لم تستمر لانقطاع بعض مصادر التمويل، كما إن الأمريكان أنفسهم لم يعودوا بحاجة إلى من يروّج لهم وقد ازدحمت الكثير من "المؤسسات" والشخصيات التي تطلب العون منهم، كما أنهم بدأوا يضعون خطوطاً حمراء على من يصنفونهم "أعداء الاحتلال" أو من "النظام السابق" ، أو إنهم يحملون أفكاراً قومية ويسارية ترفض الحداثة وما بعدها، والمقصود الاحتلال وذيوله.
وعلى الرغم من إن الكثير من المؤسسات والشخصيات تقوم بأعمال الدعاية لأطراف من الحكم وتروّج لهم، لكن فلسفة الحكم إزاء الإعلام الحر كانت غامضة وملتبسة، ثم تحوّلت إلى اعتبار أي نقد أو اختلاف في الرأي، عدائية وكراهية، لدرجة إن عقوبات أقدمت عليها ضد قنوات فضائية ووسائل إعلامية مختلفة، ناهيك عمّا تعرّض له الإعلاميون من أعمال تصفية وقتل واختفاء قسري، لدرجة إن العراق خلال فترة ما بعد الاحتلال كان البلد الأكثر في العالم الذي يصنّف بعدم الأمان وخطورة العمل الإعلامي فيه، وخلال الفترة المنصرمة سقط أكثر من 400 إعلامي، واضطرّ مئات منهم إلى الهجرة، ناهيك بتعسّر أوضاع آخرين.
لقد انتهت فترة ما يسمى بالإعلام المركزي أو الإعلام الموجه أو الإعلام الدعائي، الذي يجعل المنابر الإعلامية خارجه في دائرة الاتهام أو الشك إنْ لم يكن الإدانة بالتخريب أو خدمة مخططات أجنبية، والمسألة لا تتعلّق بالرغبات، لأن ثورة المواصلات والاتصالات وتكنولوجيا الإعلام والطفرة الرقمية " الديجيتل"، وبوجود الفضائيات والانترنيت والموبايل (الهاتف المحمول) أو التوتير أو غيره، جعلت من الإعلام زائراً لك بدون استئذان في كل ثانية، ولا يمكن حجب الخبر أو الصورة التي تصلك بعد لحظات أحياناً من وقوع الخبر. لذلك فإن محاولات حجب حق التعبير أو وقف قناة أو إنذار جريدة أو إغلاق منبر إعلامي، ليست ذا جدوى، وهي صيغة لا تمت إلى الحاضر، ومن يتبعها ينتمي إلى الماضي الذي لا يمكن إعادته، فالماضي مضى وليس بالإمكان استعادته أو العيش فيه.
نحن في حاضر سريع الحركة بقدر سرعة الضوء وأكثر ، والإعلام عنصر تغيير هائل وهو ثورة حقيقية، وحتى الحروب الأخيرة، فإن الحرب الإعلامية كانت فيها حاسمة، بل إن لها اليد الطولى، ولذلك ينبغي المحاربة بلغة العصر وبسلاحه، بالكلمة والصورة والفكرة النظيفة والفن الراقي، وليس بأسلحة عفا عليها الزمن، أي من خلال وسائل الدعاية السوداء وأعمال التضليل والخداع وبأشكال الترويج الآيديولوجي الممجوجة والمستهلكة.
وتوازي ميزانيات الإعلام في بعض الدول ما يخصص من ميزانيات للجيوش أو للتسليح، الأمر الذي يعني إن المعارك الحالية، هي معارك تخاض بالإعلام، وتبدأ به وتنتهي به، وهي التي تحدد مقدار النجاح والفشل في الميادين الأخرى. ولخطورة مثل هذا الأمر فلا بدّ من استخدام الوسائل الإعلامية بصورة ناجحة ودقيقة، بحيث تكون المدفعية الثقيلة نحو الهدف الأساس، وتأتي بعدها المعدّات الأخرى.
على أية سلطة تحترم نفسها، أن تحترم حرية الإعلام وحق التعبير باعتباره حق أساسي للإنسان، وذهب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لتأكيد ذلك في المادة 19 منه بحق الحصول على المعلومات ونشرها وإذاعتها بالوسائل الممكنة، وهو ما أكده العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 والذي دخل حيّز التنفيذ في العام 1976 باعتباره اتفاقية دولية شارعة، أي منشئة لقاعدة قانونية جديدة أو مؤكدة لا، وقد تأسست منظمة للدفاع عن المادة 19 اسمها " Article 19".
الصحافة سلطة رابعة أو "صاحبة الجلالة" كما يطلق عليها، والإعلام اليوم مؤثر وهو يمثل جوهر الحقوق وأدائها في الآن، فحتى حق الحياة لا يمكن الدفاع عنه دون توفّر حرية التعبير التي أصبحت من مسلّمات أي نظام عصري وديمقراطي، وللأسف فإن بلادنا العربية والإسلامية لا تزال تعاني من شحّ الحريات، ولاسيّما حرية التعبير وحق الحصول على المعلومات ونشرها وإذاعتها، وعلى الإعلامي (الصحافي) أن لا يتنازل عن سلطته، فهذه هي معرفته ومصدر معلوماته، والمعرفة هي الأخرى سلطة حسب الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون، وبالتالي فإن هذه الوسيلة الإبداعية المعرفية ينبغي توظيفها بالاتجاه الصحيح، وعدم تسخيرها لمصلحة أحد، سلطة أو جماعة أو حزب أو طائفة أو عشيرة، بقدر الإفادة منها لخدمة المجتمع وتطوّره ولكشف الحقائق والتأشير إلى مصادر الخلل والنقص والضعف والانتهاك.
الإعلامي مؤرخ اللحظة حسب البير كامو، وبالتالي فإنه ينبغي أن يكون أميناً على نقل الخبر وتلك مهمته الأولى، وهي المهمة التي ستكون أساساً للبحث والدراسة والقراءة السسيولوجية والسيكولوجية ، لما حصل وما يحصل، والخميرة الأساسية في ذلك هو عمل الإعلامي ودوره في نقل الخبر بحيادية ومهنية وموضوعية، خارج نطاق الصراع الآيديولوجي والاحتراب السياسي والديني والحزبي والطائفي وبقدر ما يكون الإعلامي أميناً على ذلك، يحظى بالصدقية والنزاهة ويسهم في علمية السلام الاجتماعي وتحقيق أهدافه في نشر قيم التسامح واللاعنف والمشترك الإنساني عن الحقوق والحريات.

س:كونكم عاصرتم ومن خلال نضالكم في مجالات السياسية والفكرية والإعلامية من هي الشخصيات الإعلامية التي ترى أنها كانت مؤثرة في أقلامها ومواقفها الثابتة في كل العصور دون أن تغير من اتجاه أقلامها إلى أي جهة
كانت سواء بالإغراء أو التهديد ؟؟
شهد العراق صحفاً ومنابر إعلامية مؤثرة، مثلما عرف صحافيين مهنيين وأقلاماً حرّة وبسرعة خاطفة وعفوية أشير إلى إعلاميين كبار يحضروني الآن وفي مقدمتهم، رفائيل بطي رئيس تحرير وصاحب جريدة البلاد، الذي كان صحافياً يسيل من قلمه حبر الأديب كما يقال، وكان عبد المجيد الونداوي صحافياً متميزاً في صحيفة الأهالي التي أصدرها الحزب الوطني الديمقراطي بزعامة الجادرجي، وكانت كلمة اليوم للصحافي أبو سعيد " عبد الجبار وهبي" في صحيفة اتحاد الشعب بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، صورة متميّزة بأسلوب مؤثر لصحافي موهوب، وكان عامر عبدالله، وهو القيادي الشيوعي، يمتلك قلماً نافذاً وجملته عميقة وموزونة، وهو وإن سرقته السياسة، لكن مقالاته الصحافية وكتاباته التي كانت تنشر ما بعد الثورة وحتى وفاته، تركت أثراً كبيراً في أسلوب معالجتها وفي طريقتها الشيقة، وهو ما حاولت إضاءته في كتابي عنه " عامر عبدالله – النار ومرارة الأمل".
وكان أبو كَاطع " شمران الياسري" الصحافي والروائي الساخر الأكثر قراءة في أواخر الستينات في مجلة الثقافة الجديدة أو في صحيفة طريق الشعب، وكان مثل بارومتر يعكس درجة الحياة السياسية، وكان القراء يقرأون الصحيفة بالمقلوب، أي من عموده في الصفحة الأخيرة . وهو استمرار لبرنامجه الإذاعي المشهور: احجه بصراحة يبو كاطع. وأود أن أنوّه بالصحافي إبراهيم الحريري، وعموده الشهير " صديق حمدان" في صحيفة اتحاد الشعب، وما كتبه في صحيفة طريق الشعب باسم "زكّور"، وكتاباته تمتاز بالسلاسة وخفّة الظل.
ويجدر بي الإشارة بالدور الكبير الذي لعبه عميد الصحفيين سجاد الغازي على مدى عقود من الزمان، وهو من المطبخ الداخلي الملم بالصحافة بكل تفاصيلها. وكذلك بالصحافي اللامع والمخضرم والعميق فيصل حسّون.
وأتوقّف باعتزاز بالصحافي والكاتب والمؤرخ المفكر البارز حسن العلوي، وبكل ما كتبه، سواء اتفقنا معه أو اختلفنا عليه، فأسلوبه رشيق ولغته جميلة وجملته أنيقة وفكره جوّال وكتاباته مثيرة. وأعتقد أن العلوي جمع أربع صفات أساسية في شخصه، فهو الإعلامي الذي يعرف معنى الخبر وكيف يصوغه ويضع عنواناً له وكيف يوظفه ومتى يبثه وأي طريقة يختار وأي وقت يقوم بتعميمه. وهو المؤرخ الذي ساهم في إعادة قراءة تاريخ الدولة العراقية، مقدماً استنتاجات مثيرة، لدرجة جعل الكثير يختلفون حولها إيجاباً أو سلباً، وتلك بحد ذاتها مسألة في غاية الأهمية، لأنه أثار مثل هذا النقاش، وهو نقاش حول كل ما يقوله ويتفوّه به وحتى لمن لم يقرأه فإن متابعة حواراته التلفزيونية تعطيه مثل هذا الانطباع، بحيث يختلف عليه الآخرون، وذلك انطلاقاً من كونه باحث سسيولوجي في علم السياسة.
العلوي حيوي ومبادر وجريء وشجاع، وتلك مواصفات المفكّر، ولا يوجد مفكر جبان، لأنه سوف يحجم عن قول الرأي ويتردّد باستنباط الأحكام، وإن فعل ذلك فإنه سوف لا يتجرأ على تعميمها، وبهذا المعنى سيتقوقع ضمن دائرته التقليدية، تارة بحجة الانضباط وأخرى باسم عدم التدخل بالسياسة وثالثة تحت عناوين مدرسية باسم المهنية أو الأكاديمية المفرغة من محتواها الحقيقي.

الزمان تحاور المفكر والكاتب عبد الحسين شعبان:
أعجبتني المراسلات المكتوبة بلغة شيقة بين الشاعرين حميد سعيد وسامي مهدي
الحلقة 5/5

يعدّ الحوار مع كاتب ومفكّر كبير ذو شجون خاصة، لاسيّما إذا كان عن صفحات تاريخية ومواقف سياسية لمرحلة مهمة من تاريخ العراق عامة، ومدينة النجف خاصة، كشف فيها المفكّر عبد الحسين شعبان، ربّما للمرة الأولى عن تلك الصفحات، خاصة في كيفية بناء الدولة، التي يضعها بمنزلة علوية طبقاً للقانون وفوق أية مرجعية سياسية كانت أو حزبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، وبناء الوحدة المجتمعية وفق ثقافة الحوار والسلام واعادة النظر في المناهج التربوية وفق أسس علمية سليمة تقوم على التسامح ونبذ العنف والكراهية والكيدية والاستعلاء..

وذلك لأنه يخشى من الاجتهاد ويتردّد من البوح باستنتاجاته، وهذا خلاف العلوي، فالعلوي حين تركبه فكرة، هو من يحاول أن يمتطيها والإقلاع بها، ليضعها بيد الناس، لفحصها وتدقيقها، وإذا ما اكتشف عدم دقتها، يتراجع عنها بجرأة.
إن حيويته وديناميكيته وجرأته واجتهاده والأكثر من ذلك ما منحه لنفسه من هذا القدر من الحرية، يجعله ريادياً وطليعياً ومجتهداً أصاب أم أخطأ، ففي الأولى له حسنتان وفي الثانية له حسنة الاجتهاد حسب الإمام الشافعي.العلوي مثير للجدل وهو شخصية إشكالية، وأي مفكر ينبغي أن يكون إشكالياً، وكل متميّز هو شخص إشكالي، لأنه منشق ومتمرد ومختلف عمّا هو سائد، والمثقف بطبيعته غير ميّال للسكونية لأنه قلق ومسكون بهاجس الإبداع والتغيير.
يمكنني المرور سريعاً ببعض الأسماء مثل جليل العطية، وهو جمع بين قلم المؤرخ والمحقق ولغة الإعلامي، وفايق بطي الذي له مساهمة كبيرة في جمع أرشيف الصحافة العراقية، وهناك أقلام مهمة مثل قلم يوسف العاني، الذي أرخ للمسرح وقلم الفنان التشكيلي محمود صبري صاحب نظرية واقعية الكم، وقلم هادي العلوي التراثي المجدد والجريء والذي يقول عن نفسه إنه سليل الحضارتين العربية – الإسلامية والفلسفة التاوية الصينية، وكل ذلك في إطار من النزاهة الأخلاقية والزهد الحقيقي.
ولا ننسى قلم عزيز السيد جاسم الذي مزج الفلسفة بالرواية والنقد بالسردية السياسية، في إطار لغة إعلامية مثيرة وسجالية. وكان فلك الدين كاكائي صحافياً متميّزاً وعميقاً ومطلعاً على التراث العربي والفارسي والتركي، إضافة إلى التراث الكردي. وحسبي هنا أن أذكر الصحافي محمد كامل عارف، وهو من أرخ لعلماء العراق ولكوكبة من الأكاديميين، ومن سلّط الضوء عليهم في منافيهم، وكذلك من لفت الانتباه إلى إبداعهم، بما فيهم المهندسة المعمارية اللامعة زها الحديد.
يجدر بنا تذكّر يوسف الصايغ وعموده الشهير " أبو الهيجا" ورشدي العامل، وقد أعجبتني المراسلات المكتوبة بلغة شفيفة وعميقة بين الشاعر حميد سعيد والشاعر سامي مهدي، وأتذكّر ما كان يكتبه الشاعر بلند الحيدري لمجلة المجلة الأسبوعية من ضوء على أحداث وقضايا ثقافية وفكرية وأدبية، وهو إلى جوار الروائي الطيب صالح صاحب العبارة الجذّابة والآسرة وظلّت روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" تثير فينا الكثير من الأسئلة والتداعيات منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان. وأشير هنا إلى سعد البزاز ومساهماته الإعلامية، وخصوصاً بعد صدور صحيفة الزمان في لندن وتأسيس قناة الشرقية، وقبل ذلك ألفت الانتباه إلى ما كتبه في صحيفة الشرق الأوسط.
لقد ورطتني في الحديث عن إعلاميين كبار وصحافيين معظمهم تربطني بهم علاقات صداقة وبالطبع فإن ذلك ما يحضرني الآن فقط وبهذه العجالة، وهناك جيل يعقبهم يضم عشرات الأسماء المتميّزة مثل: سعود الناصري وزيد الحلي وليث الحمداني وفاضل الربيعي وجمعة الحلفي وأحمد عبد المجيد وحميد المطبعي وعبد المنعم الأعسم وآخرين. ومرّة أخرى أقول هذا ما تستحضره الذاكرة بلمحة خاطفة.
وعلى الرغم من إننا في اليسار كنّا ننتقد محمد حسنين هيكل، وكنّا أحياناً نتناقل إشاعات عنه، بما فيها رفض السوفييت في إحدى زيارات عبد الناصر إلى موسكو، السماح له بالدخول أحد المواقع المهمة، معتبرين ذلك حقائق سرمدية كجزء من الحرب الباردة بينا وبين القوميين، خصوصاً وإننا كنّا نصنّفه على الإتجاه اليميني، وتركز ممثل هذا الاعتقاد في صفوفنا. أقول على الرغم من ذلك، وما هو أقرب إلى يقينيات، لكنني كنت كثير الإعجاب بما يكتب وبأسلوبه ولغته، وازداد إعجابي به بعد أن انتقل من الكتابة الصحافية، إلى التأليف، فقرأت له بشغف " خريف الغضب" و"مدافع آيات الله: قصة إيران والثورة" و " لمصر لا لعبد الناصر" و"زيارة جديدة للتاريخ" . وأعتقد أنه أضاف الكثير إلى الصحافة العربية، مثله مثل مصطفى أمين وعلي أمين، وعلى مستوى لبنان ميشيل أبو جودة وغسان تويني وجريدة النهار العريقة وجريدة السفير منذ نحو ثلاثة عقود من الزمان، ولا ينبغي أن ننسى دور غسان كنفاني ورئاسته لمجلة الهدف وروايته "عائد إلى حيفا" وبرقوق نيسان ورجال في الشمس ، إضافة إلى بسّام أبو شريف وعشرات من الصحافيين البارزين.
لا زلت أعتبر أن أجمل عمود يكتب اليوم في الصحافة العربية، هو عمود سمير عطالله، ففيه من المعلومات خزين كبير ويكتبه بلغة بالغة الشفافية والتكثيف والأناقة، تلميحاً وتصريحاً. وكذلك عمود جهاد الخازن الذي يغنيك بالمعلومات والالتفاتات والانتقالات غير التقليدية، خصوصاً فيما يتعلق بالسياسة الأمريكية والإسرائيلية.

س :وفق ما يدور في الأوضاع المحلية والعربية والعالمية ماذا ترون هل أن سايكس بيكو جديدة مقبلة أم أن
الحراك الشعبي سيكون له كلمته لإيقاف التدهور في أوضاع المنطقة والعالم ولاسيما العراق ؟؟
ساهمت موجة التغيير في أوروبا الشرقية التي أطاحت بالأنظمة الشمولية بزيادة عدد الدول على صعيد العالم، ومثلما انتعشت الهوّيات الفرعية في الثمانينيات في أوروبا الشرقية وأدت إلى قيام دول جديدة، فإن إشارات واحتدامات غير قليلة بدأت تتجمّع في إطار جدل وصراع بين الهوّيات، الأمر الذي قد يدفع باتجاه انقسام العديد من دول المنطقة، وهي احتمالات تبقى واردة، بل أن هناك من يسعى إليها، ارتباطاً بظروف السياسة الدولية ومآلاتها ومصالح القوى الكبرى ومحاولاتها في فرض الاستتباع والهيمنة، خصوصاً لوجود عاملين أساسيين هما: "حماية أمن إسرائيل" و"تأمين الحصول على النفط"، وإذا كانت هناك مزاعم قديمة بمواجهة "الخطر الشيوعي"، فإن المزاعم الجديدة تركّزت على مواجهة " الخطر الإسلامي" المتمثل بالارهاب الدولي.
وقد لفت انتباهنا مؤخراً، ولاسيّما خلال موجة التغيير العربية، هو حجم التوقعات التي سبقته ولحقته، من خلال العديد من مراكز الأبحاث و" تروست الأدمغة " وعلى سبيل المثال لا الحصر هو ما يتوقعه الباحث الهندي الأمريكي باراج خانا من مؤسسة أمريكا الجديدة New America Foundation في كتاب أصدره عشيّة التغييرات في العالم العربي بعنوان " كيف ندير العالم How to Run The World"، حيث يذهب إلى احتمال وصول دول العالم إلى نحو 300 دولة خلال العقود القليلة القادمة، أي أنها ستزيد بأكثر من 100 دولة.
ولعلّ موجة الانشطار الأميبي المتوقّعة تلك كان قد أطلق عليها "مرحلة ما بعد الاستعمار" (الكولونيالية)، لأنه يعتبر العديد من البلدان نشأت من رحم مستعمرات قديمة، وشهدت منذ الاستقلال انفجاراً سكانياً هائلاً، كما عانت من الدكتاتوريات وفسادها، ومن صراعات عرقية ودينية وطائفية، ناهيكم عن بنية تحتية ومؤسسات متداعية، الأمر الذي سيدفعها إلى الانفصال.
ويعزو خانا أسباب الكثير من الصراعات الداخلية إلى الحدود القائمة اليوم (خارجية وداخلية)، وهو أمرٌ عانت منه الكثير من المجتمعات: اليمن وباكستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ويعيش العراق اليوم أحد فصوله المأساوية، ولاسيّما بعد سيطرت داعش على الموصل وتمدّدها إلى مناطق واسعة لنحو ثلث العراق، وإلغاء الحدود مع سوريا وربط الرقة ودير الزور بالموصل بهدم حدود سايكس – بيكو، حيث ينفجر العنف على نحو جنوني، مثلما تعاني منه سوريا منذ تحوّل حركة الاحتجاج السلمية إلى نزاع مسلح، ومن خطر استمرار العنف المنفلت من عقاله من جانب داعش.
وكانت منطقة الشرق الأوسط منذ مطلع القرن العشرين عرضة للتقسيم الذي وجدت ضالته خلال الحرب العالمية الأولى، حين وقعت بريطانيا وفرنسا، على اتفاقية سايكس بيكو العام 1916، وبموجبها، تم تقسيم الامبراطورية العثمانية ( حليفة ألمانيا ضد دول الحلفاء) بينهما، وقد كشفتها روسيا البلشفية ونشرت وثائقها بعد ثورة اكتوبر العام 1917.
ولكي يتكرس التقسيم، بل يتحوّل إلى أمر واقع، فقد عملت القوى الامبريالية والصهيونية، إنشاء "إسرائيل" في العام 1948، لتكون عائقاً في خاصرة أية وحدة أو اتحاد أو حتى تنسيق أو تقارب بين دول المنطقة، وهو الأمر الذي يفسّر توظيفها لكل الإمكانات والطاقات للاطاحة بالجمهورية العربية المتحدة، التي أقيمت في العام 1958، وقد حصل لها ما أرادت في الانفصال العام 1961.
كما بقيت العلاقات العراقية- السورية متدهورة منذ استقلال سوريا العام 1946 ولغاية الآن، باستثناء فترات قصيرة جداً، تم فيها تطبيع متعثر، مهما اختلفت الأنظمة: ملكية أو جمهورية، يسارية أو يمينية، بعثية أو غيرها، وعلى الرغم من وجود نظامين بعثيين خلال عقود من الزمان، يزعمان أنهما يؤمنان بالوحدة العربية، لكن قضية الوحدة صارت أقرب إلى الكابوس منها إلى الحلم على أيديهما.
وكان زبيغنيو بريجنسكي قد دعا في كتابه " بين عصرين- أمريكا والعصر التكنوتروني" الصادر في العام 1970 إلى إعادة تشكيل " الوطن العربي" على شكل كانتونات عرقية ودينية وطائفية، ففي ذلك وحده سيسمح للكانتون "الإسرائيلي" أن يعيش في المنطقة. وواصل برنارد لويس فكرة تقسيم الدول العربية، بحيث تضيع ملامح الفكرة العروبية، بصعود الهوّيات الفرعية " المصغّرة" للمكرو دويلة التي سينقسم إليها العرب.
وحسب الخريطة الجديدة للشرق الأوسط، فليس من المستبعد أن يعيد التاريخ نفسه وتنفصل هذه البلدان، فجنوب اليمن جاهز، والمملكة العربية السعودية وإنْ كانت شاسعة، فقد تشهد دولة للمنطقة الشرقية الغنية بالنفط، وأخرى للأماكن المقدسة.
وتميل القوى الغربية إلى شرق أوسط متصارع ومنقسم، بل أقرب إلى التشظي، وهو ما تشجّع عليه الغرب، بل ستساهم فيه كما يقول خانا، وعندها ستكون "إسرائيل" قادرة على فرض قوتها ونفوذها في المنطقة بأسرها، ويواصل باراج خانا سيناريوهاته في مقالة أخرى بالتعاون مع فرانك جاكوبس التي قام بترجمتها مركز الزيتونة في بيروت، حيث يتم تناول سوريا التي لن تعود إلى سيرتها الأولى بعد " الاقتتال" الدائر فيها، ولربما ستصبح شبيهة بلبنان حيث الديانات تتنازع حقوقاً لمحتلي أملاك الغير، بسبب ضعف الحكومة المركزية.
يقول خانا وجاكوبس: قد تعود سوريا إلى التقسيم العرقي الذي وضعه الفرنسيون: دولة للدروز وأخرى للعلويين في الساحل والجبل ودول منفصلة في دمشق وحلب للسنّة، ويمتد الأمر إلى إيران وبقدر تمدّدها الخارجي، فهي عرضة لانهيار داخلي، وهناك 20 مليون اذربيجاني شمال إيران (مدينة تبريز) وقد يلتحقون باذربيجان أو يتحالفون مع تركيا بحكم أصولهم العرقية، وهو أمرٌ قد يقوّض هيمنة أرمينيا على إقليم ناغورني- كارا باخ المتنازع عليه.
وأفغانستان هي الأخرى يمكن أن تنقسم بعد الانسحاب الامريكي إلى باشتوستان وقد ينفصل شعب بلوشستان في دولة خاصة، في منطقة غنية بالغاز، وحسب رالف بيترز فإن ما تخسره أفغانستان غرباً لصالح إيران، يمكن أن تكسبه شرقاً من باكستان، وهكذا يتم عبور الحدود بحدود جديدة وبكل الاتجاهات.
وحسب هذه السيناريوهات، فإن خارطة الشرق الأوسط ستشهد دولاً جديدة لا تنشأ عبر الانفصال حسب، بل من خلال ولادات جديدة، بدلاً من الخصومات القديمة: ولكن بعضها سيكون معزولاً وبعيداً عن السواحل(جنوب السودان وفلسطين وكردستان)، الاّ إذا تم تجهيزها ببنية تحتية جيّدة تربطها بالأسواق العالمية، إلى جانب أنابيب النفط المتجهة إلى أوروبا أو عبر البحر المتوسط، حيث ستكون الروابط الخارجية، هي سياسة حمائية لتأمين عدم انقيادها للدول المجاورة، الأمر الذي يحتاج إلى بناء سلمي.
وإذا كانت سايكس بيكو الأولى في مرحلة الكولونيالية، فإن سايكس بيكو الثانية هي التعبير النموذجي عن مرحلة ما بعد الكولونيالية، وبغضّ النظر عن ما هو مضمر، فإن ما هو معلن، ينبغي أن يؤخذ بالحسبان، لكي لا نأتي بعد قرن من الزمان، ونتحدث عن سايكس بيكو ثالثة، لا سمح الله!



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تمنيت على الحزب الشيوعي إدانة المحتل أو مقاومته أو الدعوة لس ...
- مشروع التفكيك الجديد
- جورج جبّور : بين كتابين !
- إسرائيل عنصرية مقننة
- تحيّة وداع إلى زها حديد من جامعة أونور
- تمنيت أن يتّبع الحزب الشيوعي المقاومة المدنية السلمية اللاّع ...
- عن تفجيرات بروكسل
- حوار الحضارات أم صدامها؟
- .. وماذا عن سد الموصل؟
- الجامعة ومستقبل العمل العربي المشترك
- الحق في الأمل
- العراق.. الأزمة تعيد إنتاج نفسها
- كيف نقرأ لوحة الانتخابات الإيرانية؟
- اللاجئون واتفاقية شينغن
- العقد العربي للمجتمع المدني
- كيف ستدور عجلة التغيير في العراق؟
- عن الهوية والعولمة
- كيسنجر والتاريخ والفلسفة
- سوّر مدينتك بالعدل
- أحقاً وزارة للتسامح وأخرى للسعادة!؟


المزيد.....




- لا تقللوا من شأنهم أبدا.. ماذا نعلم عن جنود كوريا الشمالية ف ...
- أكبر جبل جليدي في العالم يتحرك مجددًا.. ما القصة؟
- روسيا تعتقل شخصا بقضية اغتيال جنرالها المسؤول عن الحماية الإ ...
- تحديد مواقعها وعدد الضحايا.. مدير المنظمة السورية للطوارئ يك ...
- -العقيد- و100 يوم من الإبادة الجماعية!
- محامي بدرية طلبة يعلق على مزاعم تورطها في قتل زوجها
- زيلينسكي: ليس لدينا لا القوة ولا القدرة على استرجاع دونباس و ...
- في اليوم العالمي للغة العربية.. ما علاقة لغة الضاد بالذكاء ا ...
- النرويجي غير بيدرسون.. المبعوث الأممي إلى سوريا
- الرئيس الكوري الجنوبي المعزول يتخلف عن المثول أمام القضاء


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - الدولة العراقية معطّلة ومشلولة بسبب الطائفية السياسية وألغام الدستور (الحلقات 3+4+5)