|
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 6 – ما قبل المسيحية – ج1.
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 5122 - 2016 / 4 / 3 - 16:06
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 6 – ما قبل المسيحية – ج1.
تناولنا في الأجزاء السابقة "الأبوكاليبتية الأولية" كفكر ٍ انبثق َ من الثقة التَّامة لمعتنقيه بتحقيق الوعد الإلهي لشعبهم بإقامة المملكة الداودية السليمانية، و بحتمية سيادتهم على الأمم الأخرى بعدما نقض البابليون مُلكهم و سبوهم بعيدا ً عن ديارِهم، ثم سمح لهم الملك قورش الفارسي بالعودة، و بدؤوا بإعادة إعمار هيكلهم و تسوير أوراشليم من جديد.
كانت إعادة البناء و التسوير رمزيـَّة قوية لإعادة بناء إسرائيل كشعب و لاسترجاع ِ هويته الفريدة و تسويرها من جديد، كإرهاص حيوي و أساس متين لتحقيق الوعد الإلهي بعد أن استوفى الشعب ُ عقاب َ خطاياه كاملا ً من يد الرَّب، هذ الرب الذي أسلمه لأعدائه تأديبا ً، و حفظه أثناء التأديب، ثم أعاده.
لكن َّ المشكلة التي ظنُّوها مظهرا ً لمرض، بدأت بالانكشاف ِ أمامهم على أنها المرض ُ الحقيقي، بينما غاب ما ظنُّوه المرض ليخرج َ من حساب معادلة ِ تحقيق الوعد الإلهي. أما المشكلة فهي انتهاء ُ المملكة الداودية السليمانية، و أما المظهر فهو الغزو الخارجي لأرض إسرائيل و الذي أصبح هو نفسُه المرض َ المُستمر. اعتقد الشعب ُ أن المرض َ كان عصيانهم للإله و خيانتهم لعهده و شرائعه، و ها هم قد عادوا للعهد و أوفوا بالوعود، و شفاهم الرب ُّ من الخيانة، لكن بقي الاحتلال، و ترسَّخ هذا الأخير في ذهنهم كمشلكة ٍ رئيسية ٍ مُنفصلة ٍ عن أي ِّ وعد ٍ إلهي أو عهد، دون أن يعني ذلك أن العهد أصبح َ باطلا ً.
بدأ الفكر اليهودي يتحوَّل من التفكير الأبوكاليبتي الأوَّلي Proto-Apocalyptic إلى التفكير الأبوكاليبتي Apocalyptic نتيجة ً لظروف ٍ قاهرة مُستمرة لمدة ٍ تنوف ُ عن الخمسة ِ قرون، بدأت بانتهاء ِ الحكم البابلي و مجي ِ الفرس عام َ 538 قبل الميلاد، مسيرا ً حتى العام 333 ق. م. حين وقعت أرض ُ إسرائيل تحت الحكم اليوناني المقدوني، ثم اليوناني السلوقي عام 198 ق. م. ، و مرورا ً بفترة ِ تحرير أرض أسرائيل تحت الحكم الحشموني (المكابي) من 164 ق. م. حتى 63 ق.م. و انتهاء ً بالكارثة ِ الكبرى و هي دخول الحكم الحشموني عام 63 ق.م. تحت وصاية القوَّة الرومانية الجبارة الطالعة ليصبحوا مجرَّد َ تابعين، و حتى تتويج ِ الكارثة بانتهاء حكمهم عام 37 ق. م. لصالح العائلة الهيرودية كملوك ٍ وكلاء ٍ عن الرومان.
تذكَّر عزيزي القارئ أن المخيال َ الديني يعمل ُ في فضاء ِ العقيدة، و يُفسِّر ُ كل َّ شئ ٍ على ضوئها، و تحت مِجهر ِ فحصها، و هذا مدخلُك َ لفهم التحوُّل ِ الذي أشرت ُ إليه، انظر معي من جديد إلى الملخَّص الزمني و أنا أضيف ُ إليه التفسير َ العقيدوي:
- بابليون، ثم سبي: أي عقاب إلهي. - فرس ثم عودة و إعادة إعمار: أي رضى إلهي و بداية تحقيق الوعد. - ثم َّ استمرار للحكم الفارسي: أي فترة انتظار لم يتحقق فيها الوعد. - ينتهي الحكم الفارسي لكن ليأتي عدوٌّ جديد هو اليوناني المقدوني: أي استمرار فترة الانتظار و غياب تحقيق الوعد. - و يا للكارثة، يمضي اليوناني المقدوني ليحضُر اليوناني السلوقي.
هذا الحكم الجديد تبدَّى أشد َّ تحدٍّ للهوية اليهودية منذ السبي البابلي، فها هو أنطيوخس الرابع أبيفانوس يعود ُ من حملته على مصر ليدخل َ القدس و يتدخَّل َ بين قوَّتين يهوديتين الأولى هي تلك َ التي تبنَّت الثقافة اليونانية الهليستينية فيصطف َّ معها و يدعمها، و الثانية هي اليهودية الأصولية يقف ُ ضدَّها و يحاربُها. و يصل ُ الأمر بأنطيوخس الرابع إلى أن يمنع اليهود َ من الختان، و يجبرهم على عبادة كبير آلهة اليونان زيوس، و يُجرِّم َ بقوَّة ِ القانون اليهودية َ كديانة و طقوس و ممارسات.
لا بُدَّ لي هنا عزيزي القارئ أن ألفت َ نظرك َ أن الدافع َ العقيدوي يُلزم ُ أصحاب الدين ِ فقط، بينما لا يكون َ له في حدِّ ذاتِه تأثير ٌ على البواعث ِ الحقيقية للأحداث. تأمَّل معي حقيقة ً مُهمَّة ً هنا، و هي أن أنطيوخس الرابع لم يمنع العبادة اليهودية سوى في منطقتي يهوذا (القدس و جنوب إسرائيل) و السامرة، حيث المشاكل ُ بين اليهود المعتدلين (الذين يتبنون انفتاحا ً ثقافيا ً على الهلستينية) و بين اليهود الأصولين الذي يرفضون الانفتاح و يصرون بالقوَّة ِ و العنف على محاربة إخوتهم المنفتحين. إننا هنا أمام َ خطر ِ حرب ٍ أهلية تتهدَّد المملكة السلوقية لا بد َّ من الوقوف فيها إلى صف ِّ اليهود المعتدلين ضد الأصولين، و هذا بالضبط ما جعل أنطيوخس يتحرك لا رغبته في الانتصار لإلهه زيوس، أو كراهيته لليهود و إلههم.
و يثور ُ اليهود ُ الأصوليون ثورة ً عنيفة، يقودهم الكاهن الحشموني متِّياس. كان الحشمونيون عائلة ً من الكهنة اليهود يُعرفون نسبة ً إلى جدِّهم الكبير أسمونيوس، و يبرز ُ منهم بعد موت ِ متِّياس ابنُه يهوذا ليقودهم في معارك َ عصاباتٍ عنيفة ضد الجيوش النظامية السلوقية، فيضرب َ بسرعة ٍ خاطفة و قوَّة ٍ شديدة كما تفعل ُ المِطرقة، و يُعطى اللقب "مكابي" أي "المِطرقة" أو "الطارق" أو في تفسير ٍ ثالث "المُبيد" Extinguisher، ثم بعد َ ذلك َ يعمُ اللقب ُ باقي الملوك الذين أتوا بعده فُيعرف َ حُكمهم بالحكم المكابي، أو الحشموني المكابي.
أجبر الأصوليون المكابيون الذكور َ اليهود في القرى على الالتحاق ِ بهم بالقوة، و هدموا مذابح الآلهة ِ اليونان، و ختنوا الصغار َ، و دخلوا أوراشليم ليطهروا الهيكل َ بعد ثلاث سنوات ٍ من تدنيس أنطيوخس، و أعادوا تكريسه مؤسسين عيد "الهانوكا" اليهودي و استطاعوا أن يفرضوا مملكتهم التي اضطر َ السلوقيون للاعتراف بها، فامتدت من العام 164 ق. م. حتى 63 ق.م، و بدا لكل ِّ من كان ينتظر ُ المملكة َ الداودية َ السليمانية أن الوعد َ يتحقَّق على يد الحشمونين من جديد.لم يكن الحشمونيون من نسل ِ داود و لا سليمان، فكانت هذه بمثابة ِ معضلة ٍ لاهوتية ٍ تحتاج ُ حلَّاً، لكنهم كانوا المنتصرين للهوية اليهودية و لوعود إله إسرائيل.
- و ينتهي الحكم ُ السلوقي ليبرز َ الرومان ُ كقوَّة ٍ طالعة، و يتدخلون فرضا ً و إجبارا ً في حروب الحشمونين في العام 63 ق.م، و يجبرونهم على التبعية لهم: و يبدأ ُ الذهول ُ الديني من جديد، كيف يحدث ُ هذا، و كيف يضعف ُ البُرعم الإسرائيلي ُّ الطالع، و كيف يتخلَّى إله ُ إسرائيل َ عن شعبه من جديد؟ ألم يحاربوا السلوقين، ألم يختنوا الذكور، ألم يهدموا معابد َ الأوثان، ألم ينصروه فكيف َ لم ينصرهم؟
- و تتوَّج ُ الكارثة بضربة ٍ قاضية للحكم ِ الحشموني المُنتصر لإله إسرائيل، لينهيه الرومان و يأتوا بملك ٍ أدومي يهودي سفَّاح، مهووس بالعمارة و البناء، مُحبٍّ للرومان، هو هيرودس الكبير، لتبداً سلالة ُ الملوك ِ الهيرودين في العام 37 قبل الميلاد، و تضرب َ الخيبة ُ و الدهشة ُ العقل الديني مرَّة ً أخرى، و يفرَّ إلى نصوصِه يبحث ُ فيها عن تفسير.
و في هذا المناخ تُولد الأبوكاليبتية، و يتبلور ُ الفكر ُ الخاص بها، و تبدأ ُ العقول ُ المُنتظرة ترى أن الصراع َ لم يعد ذا قطب ٍ واحد ٍ هو إله إسرائيل الذي يسير الأحداث و يعاقب على خيانة ِ العهود بالحرب و السبي و الاحتلال ثم يعيد كل َّ شئ ٍ إلى طبيعته و أكثر حينما يعود له الشعب، لكنَّه (أي الصراع) ذو قطبين، أحدهما الإله، و ثانيهما قوَّة شريرة لها رأسها: الشيطان، تتحكَّم بالعالم و تأتي بالسبي و الاحتلال، و يسمح ُ لها الإله أن تفعل َ كلَّ ذلك َ (لحكمته و سابق معرفته و تدبيره) لكنَّه سوف يتدخَّل ُ في النهاية ليحقق العدالة و يزيل َ الشر، و يكشف عن نفسه و عن عدالته و عن أمانته و عن سببِ سماحهِ بكل هذا الويلات، هذا الكشف الذي يأخذ ُ الاسم "أبوكاليبتي" Apocalypse و الذي يشكِّل عامود َ هذا الفكر.
في المقال ِ القادم سنتحدَّث ُ عن النصوص المقدَّسة التي ظهرت في فترة ِ الحكم المكابي، و سأتناول ُ منها سفر دانيال النبي بالخصوص، و سندخل ُ إلى المخيال الديني لنرى رموزه ُ و لُغته و كيف َ تتفاعل ُ الأحداث تحت الضوء الديني الذي يعطيها التفسير المُتجذِّر َ في الثقافة ِ الدينية ليخرج َ بعقيدة ٍ جديدة ٍ ستكون ُ الأصل َ للدعوة ِ المسيحية ِ الأولى.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بوح في جدليات – 17 – من حُلو ِ الزِّمان ِ و رِديَّه.
-
قراءة في اللادينية – 7 - الأخلاق مُستتبَعة ً من: علم النفس –
...
-
قراءة من سفر التطور – 8 – ال 4 التي تأتي بال 1.
-
وزيرٌ تحت سنِّ ال 25
-
قراءة من سفر التطور – 7 – عذرا ً توقيعك غير معروف لدينا!
-
قراءة في الوجود – 6 - الوعي الجديد كمفتاح لفهم ماهيته.
-
بوح في جدليات – 16 – حيٌّ هو باخوس.
-
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 5 – الماهيَّة و الجذر – ج4.
-
عن: أشرقت قطنان.
-
الدكتور أفنان القاسم و خلافته الباريسية.
-
بوح في جدليات – 15 – حينَ أغمضت َ عينيكَ باكراً
-
العقل المريض – 2 - تغوُّل الخطاب الديني نموذجا ً.
-
قراءة في العلمانية – حتمية ٌ تُشبه ُ المُعضِلة.
-
كرمليس – ربَّ طليان ٍ بعد تنزيل ِ الصليب.
-
العقل المريض – ألفاظ: عاهرة، ديوث، كنموذجين.
-
بوح في جدليات – 14 – مامون.
-
عن اقتحام ِ المسجد ِ الأقصى المُستمر.
-
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 4 – الماهيَّة و الجذر – ج3.
-
مع صديقي المسلم على نفس أرجيلة.
-
قراءة في الفكر الأبوكاليبتي – 3 – الماهيَّة و الجذر – ج 2.
المزيد.....
-
بدء احتفالات الذكرى الـ46 لانتصار الثورة الاسلامية في ايران
...
-
40 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
40 ألفاً يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
تفاصيل قانون تمليك اليهود في الضفة
-
حرس الثورة الاسلامية: اسماء قادة القسام الشهداء تبث الرعب بق
...
-
أبرز المساجد والكنائس التي دمرها العدوان الإسرائيلي على غزة
...
-
لأول مرة خارج المسجد الحرام.. السعودية تعرض كسوة الكعبة في م
...
-
فرحي أطفالك.. أجدد تردد قناة طيور الجنة على القمر نايل سات ب
...
-
ليبيا.. وزارة الداخلية بحكومة حماد تشدد الرقابة على أغاني ال
...
-
الجهاد الاسلامي: ننعى قادة القسام الشهداء ونؤكد ثباتنا معا ب
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|