أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - نظرة إلى أصول سياسة الإنكار السورية














المزيد.....


نظرة إلى أصول سياسة الإنكار السورية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1387 - 2005 / 11 / 23 - 10:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لم تشعر السلطات السورية بضرورة أن تشرح لأحد سبب اتهامها بدم الحريري. لا لمواطنيها، ولا للبنانيين، ولا للعالم. اكتفت بالإنكار واستغنت به عن أي شرح أو توضيح. بيد أن هذا من خطل الرأي، فالإنكار ليس سياسة، ولا هو يصلح أساسا لسياسة منسجمة في التعاطي مع التداعيات السياسية والدبلوماسية والقانونية والأخلاقية والإعلامية لتقرير ميليس، ولا بالخصوص لقرار مجلس الأمن المتوقع حول الموضوع. وجدوى الإنكار المحض أقل بدرجة تتناسب مع البراءة المفترضة. البريء لا يكفيه الإنكار، أما المرتكب فلا يجديه الإنكار. ننوه أننا لسنا في موقع من يشير على أهل الحكم بسياسة أنجع؛ غرضنا تقصي دلالة سياستهم، وليس تقييمها ولا تقويمها.
على أن السياسة السورية لا ترتد حقا إلى الإنكار المحض. ثمة ملحق تفسيري لها يرد الاتهامات بالمسؤولية عن اغتيال الحريري بنظرية تقول إن العالم يتآمر علينا، وأنه يضمر لنا شرا، وأنه يسعى للنيل من وطننا ومعاقبته على صموده، وفقا للبلاغة الرسمية. وتآمر العالم طبع فيه، لا علاقة له بشيء فعلناه أو نفعله، ولا يفيد فيه شرح عقلاني ولا أي استعداد لتقديم العون من أجل كشف الحقيقة. ولا جدوى، تاليا، من محاولة استلام زمام المبادرة، والتصدي لـ"التهم الملفقة" التي "تستهدف سوريا" (المقصود نظام حكمها دوما، والتطابق بين الاثنين عماد الإيديولوجية الرسمية). لتدعيم هذه النظرية القدرية تبارى إعلاميون ومسئولون سوريون في تصوير مدى التآمر الدولي ضد سوريا بالقول إنها تكاد تتهم بالتسبب بزلزال تسونامي أو بزلزال كاترينا، أو بثقب الأوزون، أو حتى بقتل هابيل، حسب يافطة رفعها اعتصام طلابي ضد تقرير ميليس.
مشكلة هذا الملحق البارانوئي لسياسة الإنكار أنه مقال عمومي، لا تاريخ له، منفصل عن مقامات الحوادث العينية ووقائع التاريخ الملموسة؛ وهو بالقدر نفسه متصل ببنى ثابتة نسبيا للفكر (نحن صح، العالم خطأ) وأنماط مفروضة للسلطة (سلطة مطلقة، مجتمع منزوع السياسة). وباعتماده ساعد الناطقون السوريون أنفسهم على الغرق أعمق وأعمق في أوحال "نظرية المؤامرة"، وفي الانعزال عن العالم، والعجز عن فهمه وبلورة سياسات عقلانية إزاء متغيراته.
ليست سوريا ضحية للعالم، الإعلاميون والمسئولون السوريون ضحايا نظرتهم التآمرية إلى العالم، النظرة التي تشكل جوهر العقيدة السياسية للحكم السوري منذ استلام حزب البعث للسلطة قبل أكثر من أربعة عقود. كان الرئيس حافظ الأسد قادرا على التمييز بين نظرية يستحسن الاحتفاظ بها لفائدتها في التعبئة الداخلية ولجم الاختلاف أو الانشقاق في مجتمع ليس سهل القياد، وبين السياسات الناجعة في العالم الواقعي. بعبارة أخرى، لم يستغن الرجل الذي "يعطي انطباعا بأنه تحرر منذ زمن بعيد من أي وهم حول الطبيعة الإنسانية"، بعبارة توماس فريدمان، عن التصور التآمري للعالم، لكن سياساته العملية توحي بأنه لم يؤمن به يوما.
هذا السر السياسي لا يبدو مكشوفا للحكم السوري اليوم. ظاهر الحال يشير إلى أن فاعلي اليوم لم يستطيعوا إساغة نظريتهم لمواطنيهم دون أن يستسيغوها هم أنفسهم، أي بالفعل دون أن يتسمموا بها. والمبعث الأرجح لذلك أن النظرية هذه لا منافس لها في تلبية حاجتهم إلى التحكم والضبط الداخلي، وتوفير قاعدة شرعية للحد من التعدد الاجتماعي، وتجريم الانشقاق والمعارضة السياسية. العالم شخص، مريد، مغرض، شرير(وهذا لب النظرة التآمرية إلى العالم)، إذً ينبغي أن نعتصم بالوحدة ونقمع الاختلاف. يستجيب داعي الوحدة هذا لهواجس النظام الخاصة بقبوله الطوعي، ورغبته في تطويق وكبت رفض محتمل بالعقيدة الوطنية المطلقة.
الغرض أن نقول إن النظرية التآمرية إلى العالم التي أغنت المسؤولين السوريين عن محاولة بذل جهد منسق لإثبات براءة نظامهم من دم الحريري تنبع من طبيعة نظام السلطة في سوريا أو من غريزته الأعمق لا من طبيعة العالم. وأن جانبا من المأزق الراهن الذي يمر به النظام هذا هو مأزق نظرته إلى العالم. وبالخصوص مذ كفت عن أن تكون أداة بيده (عهد الرئيس حافظ الأسد) وأضحى هو أداة بيدها. إن ما تمنحه هذه النظرة من شعور بالخيرية الذاتية والحق يغني عن الحاجة إلى فهم العالم والتفاهم معه.
والحال، إننا هنا إزاء أبرز مثال لترابط السياسة الخارجية والداخلية، أو لكون السياسة الخارجية تعبيرا مكثفا، لكن مموها، عن السياسة الداخلية. إن جملة السياسات التي اتبعها الحكم السوري خلال عام 2005، والتي تمحورت حول نفي الضلوع في اغتيال رفيق الحريري، تعكس بنيانه وهواجسه الذاتية وغريزة بقائه النامية أكثر من أي شيء آخر.
من شأن ذلك أن يسدد ضربة قوة إلى أسطورة سورية خالصة تقول بانفصال، بل بانفصام، سياسة النظام الخارجية عن سياسته الداخلية، وتنحاز للأولى ضد الثانية (ينسب إلى المرحوم خالد بكداش قوله انه لو كان معياره هو السياسة الداخلية لكان في صف المعارضة لا في صف السلطة). هذه "الأسطورة المؤسسة" تتعدى أحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" لتشارك في تكوين المتاع العقلي لمعارضين أيضا. ولعل "إعلان دمشق" ما كان له أن يصدر مؤخرا لولا قطعية مع هذه الأسطورة حققها قطاع ريادي من مثقفين وسياسيين معارضين.
لن يتسنى إصلاح السياسة الخارجية السورية دون تغيير حقيقي وعميق لهياكل السلطة الداخلية. والمقصود بالتغيير الحقيقي ذاك الذي يمس الأسس الفكرية والنفسية لهذه السياسة. إن سياسة خارجية ريابة بالعالم وثيق الصلة بسياسة داخلية تعبوية موجهة نحو تعزيز السلطة، وإن جنون الاستهداف هو من ثمار عقل سياسي يتملكه قلق القبول والشرعية. إن المؤامرة الخارجية هي بديل الشرعية الداخلية.
المأزق السوري الراهن مصيري لأنه مأزق سياسة ومأزق فكر ومأزق غريزة (أو كائن) سياسية. إن أفكار النظام تضلله، وحساسيته تخذله، وغريزة بقائه بالذات تتواطأ ضده. لا علاج سياسيا بسيطا لشرط عضال كهذا. إنه يستدعي تغييرا شاملا، يعيد التطابق بين الدولة والوطنية في سوريا بعد طول انفصال.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار مبتور مع جريدة منحازة
- نقد -إعلان دمشق- ونقد نقده
- معارضة، إسرائيل، أميركا، مخابرات، شيبس، إلخ
- هل من سبيل لإبطال المخاتلة الطائفية؟
- الكتابة السياسية وسياسة الكتابة
- بين فراغ النماذج وضعف الطالبين، أي تغيير في سوريا؟
- -إعلان دمشق-: أوفاقٌ في زمن الانشقاق!؟
- عن نقد السياسة الأميركية ونقد نقدها
- المسألة المدنية: ضد العنف والتعصب والريعية
- المأزق العربي الأميركي المتبادل
- نحو جامعة متقدمة وديمقراطية: المسألة الجامعية وقضية الطلاب ف ...
- أربع تنويعات على فكرة التسييس
- فحص الضمير الوطني السوري
- العقيدة والهوية ونزع العلمانية
- أخلاق بلا أخلاق
- أوجه اللاعقلانية في السياسة السورية
- لماذا لن ينجح تصدير الديمقراطية من أميركا للعرب؟
- تسمية الأشياء بغير أسمائها: الإعلام محصنا ضد الحقيقة
- خوض الحرب السابقة
- إصلاح سوريا ولبنان للإصلاح بينهما


المزيد.....




- بطراز أوروبي.. ما قصة القصور المهجورة بهذه البلدة في الهند؟ ...
- هرب باستخدام معقم يدين وورق.. رواية صادمة لرجل -حبسته- زوجة ...
- بعد فورة صراخ.. اقتياد رجل عرّف عن نفسه بأنه من المحاربين ال ...
- الكرملين: بوتين أرسل عبر ويتكوف معلومات وإشارات إضافية إلى ت ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في كورسك
- سوريا بين تاريخيْن 2011-2025: من الاحتجاجات إلى التحولات الك ...
- -فاينانشال تايمز-: الاتحاد الأوروبي يناقش مجددا تجريد هنغاري ...
- -نبي الكوارث- يلفت انتباه العالم بعد تحقق توقعاته المرعبة خل ...
- مصر.. مسن يهتك عرض طفلة بعد إفطار رمضان ويحدث جدلا في البلاد ...
- بيان مشترك للصين وروسيا وإيران يؤكد على الدبلوماسية والحوار ...


المزيد.....

- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- الخروج للنهار (كتاب الموتى) / شريف الصيفي
- قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا ... / صلاح محمد عبد العاطي
- لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي / غسان مكارم
- إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي- ... / محمد حسن خليل
- المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024 / غازي الصوراني
- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - نظرة إلى أصول سياسة الإنكار السورية