|
حدث في قطار آخن -44-
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 5115 - 2016 / 3 / 27 - 03:20
المحور:
الادب والفن
لم أتوقعْ أنْ ألجأَ إليكم، لم يخطرْ ببالي يوماً أنْ اضْطَرَّ لحمايتكم، هل أنتم فعلاً من يسهرُ على راحة الناس؟ هل أنتم رجال القانون؟ أم رجال حماية نساء الكوكايين في هذه المدينة؟
ها أنا أقفُ أمامكم بشحمي ولحمي كطفلٍ ضائعٍ، كطفلٍ جائعٍ، كطفلٍ هاربٍ من معلمته، كطفلٍ عائدٍ إلى حُضْنِ أمه، عائدٌ ليعاتبها على نسيانها المُتَكَرِّر لاحتياجاتِ بطنه الصغير، لقطعة من رغيف خبزٍ مدهون بزيت الزيتون، وفي أحسن الأحوال لقطعة خبز تلتحف باذنجانة مَحْشُوّة بالثُوْم والفُلَيْفِلَة وحبات العبيد، قادمٌ إليكم وكلني ثقة بأنكم ستعيدونني إلى معلمتي، حاملاً جسدي المُتعب على كتفي، ممسكاً بعصافيرِ بطني التي أتعبتني زقزقاتها الصباحية...
لماذا تنظرون إليّ بعيون باردة يا سادة؟ لماذا لا تصدقون حكايتي مع الكوكايين؟ لماذا لا تعتقلون من يحاول اِغتصاب روحي؟ أشعر بنظراتكم الساخرة وكأنكم تحسدونني على سذاجتي، حسناً سأطيعكم كما أطعتُ أمي بنظراتها الباردة، سأطيعكم وأعودُ جائعاً ظمآناً إلى معلمتي سابينه كما عدتُ يوماً إلى معلمتي سلوى، أعودُ حزيناً وعيوني قد تاهت بين أغصان شجرة التوت ورائحة غسيل أمي العالقة في أنفي، أعودُ وفي ذاكرتي لوحة اِلتقطتْها كاميرا عينايّ، لوحة لقطرات العرق على جبين أمي، جبينها الغاضب، لم أرَ أمي يوماً تبتسم! أظنُها لم تفعل كي لا أحنُ إلى اِبتسامتها بعد أنْ تموت، أظنُها شعرت بدُنُوِّ أَجَلِها وهي في قِمّة الصِّبَا وأنا في قَعْر الطفولة...
***** ***** *****
"كانوا حوالي ثلاثين طفلاً وطفلة في عمر البراعم، مَحْشورين في غرفةٍ مُستَّأجرة من الطابق الأرضي لأحد بيوت القرية، غرفة تطلُ على شارعٍ ضيقٍ، في الطرف المقابل منها دكان أبو عزيز، وسلوى تقودُ فريق الأطفال، تَجحَظَُ عينيها، تَتَمَلْمَلُ في جلستها الخشبية، تنتظرُ موعد الانصراف، صوتها المُؤنِّب الحّاد يخترقُ حيرة المكان، سلوى تحلمُ باقترابِ نهاية الشهر، تقبضُ راتبها، توفرُ أكثر، تشتري ذهباً أو كحلاً لعينيها المُدَوَّرتين، لم تكن سلوى مُؤَهَّلة لِلْقِيَامِ بِعَمَلِها كمعلمة روضة، لكنها صارتْ ودخلتْ تاريخ الذاكرة دون شهادة تأهيل، زكَّاها أهل الضيعة، وافقوا على استلامها الوظيفة...
تصرخُ سلوى في كلّ الاتجاهات، الأطفال حيارى، ولأمعاءِ الطفولة حفيفاً يشبه حَفيف أَوْرَاقِ الخَرِيفِ، من النافذة المُطِلّة على منزل البَنَّاء يوسف، امتدتْ يد اِمرأة في الساعة نفسها، كانت الثامنة كالعادة، تناولَ ابنها سامر سندويشته اليومية، برميلية الشكل برائحة رجولية، الأطفالُ جياع، لا أحد يخطئ هذه الرائحة، رائحة المكدوس المعبّأ برائحةِ الثوم والخُبْز الطَرِيّ، قامتْ سلوى تُودِّعُ المرأة المَيْسُورة، سَالَ لُعَابُها كَأنّها بافلوف... كلّما عضّ سامر على برميله المكدوسي ونهشَ جزءاً منه تفوحُ الرائحة أكثر، يتأوَّه الأطفال حالمين بيومٍ يستيقظون فيه وشَظايا المكدوس تَتَنَاثر عليهم جميعاً، كما تتَنَاثَر أوْرَاقُ شَجَرِ الخَرِيفِ...
تختفي سلوى خلف الباب، تلتهم بَيْضتها المَسْلُوقة خُلْسَةً، تتكاثرُ الروائح الكريهة وتتزاوجُ، هو الجائع يشتهي اللُّقْمَة، ينظرُ حوله، لا يرى أحداً وكأنّ الأطفال قد تَبَخَّروا، يحملُ حقيبته القُمَاشية ويغادرُ الروضة، يومئذ لم يكنْ قد تجاوزَ الرابعة من عمره، مشى ومشت معه دروب القرية، مشى حتى وصل بيته، نظرَ إلى شجرة التوت في دار البيت، بحثَ بعينيه عن أمه، وَجَدها وأخته وحَبَّات عرقٍ تَتَصَبَّبُ على جبينهما، جلستا تحت الدرج المُوصل إلى سطحِ البيت، بقربهما وابور الكاز الصاخب، يحملُ على رأسه تلك الطنجرة التي يغلي بداخلها غسيل البيت...
سألته أخته بدهشةٍ: لماذا عدتَ هذا اليوم مُبكراً على غير العادة من روضة سلوى؟ كان الجواب حاضراً: لقد طلبتْ منا الآنسة أنْ نعود إلى منازلنا، أماكن الجلوس في الروضة غير كافية هذا اليوم، سيأتي أطفال من مدينة أخرى، مُحمّلين بسياراتِ شحنٍ...
بَدا وكأنّ أخته الكبيرة، التي لم تتجاوز آنذاك الرابعة عشر من العمر، لم تقتنع بالسبب أو لعلّها اِقتنعتْ لكنّها وجدتْ أنّ سلوى لا تملك الحق بتصريحٍ من هذا النوع. كانتْ أمه كعادتها غاضبة، لم تعجبها أيضاً الحكاية، أومأت لابنتها لإعادته إلى الروضة الاسْتِفْسار عمّا حدث...
حزيناً رافقَ الولدُ أخته طريقَ العودة، ما أن وصلا ورأتهما سلوى حتى بادرتْ الأخت بسؤالها لتوضيح ما يحدث؟ ومتى ستأتي الشاحنات المحمّلات بالأطفال؟ وما أنْ روتْ لسلوى الحكاية كما رواها أحمد الصغير، حتى قَذَفَتْ الْمُخَاطَ منْ فَمِها إلى وجهه بِلا حَياءٍ، صرخت بأعلى صوتها: ولد كَذّاب، قليل أدب، عد إلى مقعدك... عادَ أحمد إلى كرسيه، خائفاً، خائباً وخجلاً من فعلته، بينما يلعبُ سامر بشعره المجعد ووجهه الأحمر المُدَوَّر بصوت عالٍ، بعد أنْ دفنَ في جوفه برميلاً من المكدوس المَحشوّ بالإِثْمِ والثُوْم ومُسوِّغات الهروب..."
***** ***** *****
- لقد دَخنتُ كثيراً في الأيام الأخيرة يا سادة! - ما الغرابة في ذلك؟ "ما يحتاج إليه الإنسان هو الإرادة والسجائر". هذا ما تعلمناه من مستشارنا السابق، السيد هلموت شميت. - قالت سابينه لي: أنّ اِبنتها تحتاج لمشورتي... لكني لم أجدها بل وجدت هنيلوري! - كن سعيداً أنّ هناك من يشتهيك ويرغب مُجالستك. - مارستُ الجنس مع سابينه! أنا خائف... - بل أنت أحمق، أين مشكلتك؟ لا وقت لدينا نُضَيّعُه مع هَلْوَسَاتك. - مارسته وأنا تحت خَميلةِ الكوكايين! - أَيُّها الشرقيّ الغريب، إلى متى ستبقون بلاتونيين!؟
***** ***** *****
"ضَحكتْ مانويلا مساءَ يومٍ، قالتْ لي بلغةٍ ألمانية واضحة ما معناه: تُعجبني حالة الحب البلاتوني في شرقكم! ابتسمَتُ كشرقيّ عارف بأمور الكون، هززت رأسي بالإيجاب علامة الفهم، لكني لم أفهم المعنى! أحسّت بأني لم أفهم قصدها. سارعتُ بالسؤال راجياً منها توضيح المعنى. بإشارات يديها وإيماءات جسدها قامت بتمثيل المعنى... فهمتُ قصدها اللغوي... ضَحكتُ كأبله يتعلمُ لغة أخرى، قلتُ لها: فهمتُ عليكِ تماماً. كشرقيٍ لا يقبل الضيم والخسارة وَدّدت تصحيحَ الكلمةِ بلاتونية، قلتُ لها بلغةِ معلّمٍ: في الحقيقة، يجب عليكِ القول: أفلاتوني وليس بلاتوني... أجابتني بعصبية: لا، بل بلاتوني! ركضتُ إلى مكتبتي في الغرفةِ الطلابية، أحضرتُ القاموس، بحثتُ عن كلمة أفلاتوني، لم أجدها فاستسلمتُ غير راضٍ... نَهَضّتْ مانويلا عن قعدتها بحذرٍ، بحثتْ لي عن معنى الكلمةِ بلاتونيش، أقنعتني، حاولتُ الاِعتذار منها، هزتْ رأسها مثل شرقيّ يحملُ في رأسه دماغاً سميكة! ذهبتْ للنوم، وذهبتُ بدوري للنوم وأنا في دوامة سؤال: لماذا سُميّ ذاك المفكر باللغة الأم أفلاطون، ولم يُسَمَّ كما في كل اللغات الأخرى بلاتون؟"
***** ***** *****
- لا أستطيع أنْ أفهم الحياة في مجتمعكم! ما زلتُ لا أفهم طَرَائِق تفكيركم! - الإثنان اللذان لا ثالث لهما هما المال والجنس! حولهما ولأجلهما تدور طَاحُونَة الحياة في ألمانيا، هكذا نحن وهذا مجتمعنا الألماني! - الإثنان اللذان لا ثالث لهما في شرقنا هما الدين والسياسة! هما وقودنا اليومي... - ضاحكةً قالت إحدى السيدتين الشرطيتين: أَيُّها الشرقيون لا تَقْرَبُوا الجنس والكوكايين وأَنْتُم حَيَارى، حتى تعلموا ما تفعلون. ثم أردفت: ماذا تعرف عن مجتمعنا؟
- ألمانيا هي شوق كُرَة، أَداةٌ مستديرةٌ كالكُرَة الأَرضية أو السَّماويَّة، لكنها مصنوعة من الجِلْد، هي كُرَةُ قَدَم، بمُضَلَّعات سُّدَاسِيّة منتظمة، بَيْضاء وسَوْداء. الكُرَةُ بحالةٍ ممتازة! بَطْنها مَنْفُوخٌ. أخذت مكانها على حافة طريقٍ، قرب بيتي! وأنا أراقبها... لم تغير مكانها منذ أيامٍ ثلاثة، كأنّ الحياة قد توقفت هنا! هنا ألمانيا! تعبت مَفَاصِلها من قلة الحركة، تنظر للمّارة شاكية أمرها، بابتسامة سُّدَاسِيّة. تشتهي قدم طفل يشوطها، يعطيها لمسة شوق وشرارة انفعال، علّ حرارة العبث تدب فيها، علّ بَطْنها يسترخي من جديد. هنا ألمانيا! هذا هو مجتمعكم...
"وأنتَ أيها السَّيِّدُ الشرطيّ، أظنكُ تكتب كل شيء على لوحةِ المفاتيح الرقيقة التي أمامك، بالأصابع العشرة وبسرعةٍ فائقة ودون أن تنظر إلى ما تكتب بل إلى وجهي، تكتب دون أن تعرف حتى اِسمي... تكتبُ وأنا أنظر إلى شاشة كمبيوترك الأنيقة، كمبيوترك لا يشبه البقرة!"
***** ***** *****
"أخيراً تم توظيفي في الجامعة بعد رحلةٍ مريرةٍ مع أفاعي وضباع الحكومة! أخيراً أنهيت خدمتي الإلزامية... كان قد بدأ زمن الكمبيوتر حينئذ... كانوا يقولون الكمبيوترات تغزو الأسواق... كانوا يقولون النوافذ أغلقت أبواب الدوس... كان قد حَلّ زمن النافذة التي بطول 3,11... أخيراً حصلتُ على قرضٍ خفيف من المصرف بعد أن وجدتُ من يكفلني!
اشتريتُ كمبيوتر بحجمِ بَقَرة حلوب، كنتُ أخافُ عليها خوفي على روحي... اِعتقدتُ في تلك الأيام أنّ إتقّان فنون الكمبيوتر يعني إتقّان اللعب بالنوافذ... بدأت أتعلمُ فتح النوافذ بأصابعٍ خائفة، أفرحُ لتغييرِ ألوان سطح المكتب، لتبديل خلفيات الشَّاشة، لكتابة اِسمي بحروفٍ لاتينية...
لم يمضِ على شراءِ البَقَرة أكثر من أسبوعين حتى تَرَعْرَعَت في داخلي فكرة إعطاءِ دروس خُصوصيّة، اِلْتقيتُ بصديقي الغني، تكلمتُ معه فتكلم مع أبيه، وافقوا على المشروع، كان الأب قد اشترى مكتباً في إحدى الأبنية الجديدة... قَدّم لنا المكتب، اشترى بضع طاولات وكراسي خشبية، عَيَّن اِبنه مديراً للمكتب، اشترى له طاولة المدير الفخمة وكرسي دوّار...
أخذتُ بَقَرتي إلى المكتب، اشترينا بعدها بالتقسيط بقرتين إضافيتين، جَهَّزنّا الآرمات، لعبَ صديقي دور المدير ولعبتُ دور المعلم، كلانا لا يتقن عمله! بدأت بتَعلُمِ تنزيل البرامج، اِستخدام برامج المايكروسوفت، كنتُ أفرحُ لكل اكتشاف جديد، عملتُ من السابعة صباحاً حتى العاشرة مساءً...
بدأ الزبائن بالتوافد إلينا لتعلمِ برامج فتح النوافذ ظناً منهم ومنا أننا نخترعُ الذرة، قال لي أحد الزبائن: أرغب بتعلم برنامج رسم كمبيوتري، وافقت على تعليمه ما لا أجيده وفق المبدأ الإنكليزي القائل: التعلم من خلال العمل!
فرح صديقي المدير لإيرادات المكتب، بعد قرابة سبعة أسابيع طلبت من المدير أن نتحاسب، كنا قد ربحنا حوالي سبعين ألف ليرة، تجادلنا طويلاً، قرّر المدير أخيراً إعطائي أربع آلاف ليرة، أخذتُ أجري و قررتُ مغادرة المكتب إلى غير رجعة...
مضتْ أيام قليلة، أعلنَ صديقي خطوبته، دعاني، قبلتُ الدعوة، اشتريتُ لعروسه خاتماً ذهبياً بقيمةِ أربع آلاف ليرة، قدّمته لهما هدية..."
***** ***** *****
"إنهم يبرمجون كل شيء في هذا البلد يا أبي، عليهم اللَّعْنَة، حتى خلايا الجسد السليمة تصير في مخابرهم خلايا سرطان عدوانية... بعضهم يتمرد يا أبي، يعكس اتجاه وهدف البرمجة... الوصول إلى إنسان منْ زُجاجِ البِلَّوْرِ الشفَّاف هو غايتهم..."
"تنجز العنكبوت عمليات الحَيَّاكَة، التي تشبه إلى حد بعيد تلك التي يبدعها مهندس الغزل المحترف، بل تتفوق عليه أحياناً، فيتعلم المُهَنْدِس من العنكبوت! تنجز النحلة عمليات البناء والتعمير للخلايا الشمعية، التي تشبه إلى حد بعيد تلك التي يشيدها المُهَنْدِس المِعْمَاريُّ المحترف، بل تتفوق عليه أحياناً، فيتعلم المُهَنْدِس من النحلة! ينجز الكمبيوتر الرقمي عمليات الحساب والتصميم، بسرعة هائلة ودقة كبيرة تفوق قدرة مهندس الإنفورماتيك، تسبب الحرج والخجل له، فيتعلم المُهَنْدِس من الآلة! لكن، لا يمكن للعنكبوت أو النحلة أو الكمبيوتر إنجاز عمليات التذوق والإحساس والتفكير العقلاني، ربط الكل بالجزء والجزء بالكل، استنتاج شيء جديد وبرمجة العمليات العليا. وحده الإنسان فقط، بعقله الهندسي المعقد، هو القادر على إنجازات من العيار الثقيل."
***** ***** *****
- لا أفهم غاياتكم أيها الألمان، لا أحد يفهمكم! - لأَنْ يدخُلَ الجملُ من ثَقبِ الإِبرةِ أَيسَرُ ألف مرة مِنْ أَنْ يفهم الشرقي ما نصبو إليه! - لعلك تقصد قول الله: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا ... لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ...) - لم أعلم أنّ إلَهكم يستطيع القراءة والكتابة! لا لم أقصد ما تفضّلتَ به أيها الشَرقيّ الهارب، بل قلتُ ما قاله السَّيِّد يَسوع قبل أن يقوم إلهكم بالنسخ عنه... وأنتَ في طريقك إلى دورتموند اِذهبْ إلى كنيسة سان بونيفاتيوس الكاثوليكية، لترى بأم عينك، هذا إنْ بقيت حياً، كيف يخرجُ الجَمَلُ من ثقب إبرة! - كُلُّ ما ترويه لي، لا أفهمه، معرفتي بلغتكم لا تكفي، كي أفهم كُلّ ما يَتَعَلَّقُ بصفاتِ الإلَهِ، لا أفهم المواضيع التي تُعالِجُ القَضَايَا الإلهِيَّةِ، أسرار وغرائب الميتافيزيقيا لا تهمني، أنا لست في النهاية إلّا طالب دراسات عُليا في هندسة التصميم والتصنيع... هندسة ميكانيكة لا علاقة لها بهندسة الله... لكني أهتم بالتأكيد بما كتبه مهندس الميكانيك والكاتب الألماني هاينريش زايديل قبل أكثر من مئة عام:
"تصميم الآلة الميكانيكية هو نَظَم شِّعْر. هذا ما قلته، عندما كان عملي في الورشة الميكانيكية، يعذبني، يثقل على صدري. اليوم، أقود ريشة قلم حبري في نزهة فوق طاولة المكتب، وأقول: نَظَم الشِّعْر هو تصميم آلة."
- أنت على خطأ أيها الكوكايينيّ، عندما سُئِلَ مصمم الغرافيك والنحات الفنلندي تابيو فيركالا: من هو المُصَمِّمُ المِعْمَاريُّ الذي تقدره أكثر من الجميع؟ أجاب: إنه لسؤال غاية في الغرابة!... الله هو المُصَمِّمُ المِعْمَاريُّ الأفضل، أليس كذلك؟ ثم سُئِلَ: ما هو العمل الفني الذي تعتبره الأفضل من أعمالك الخاصة؟ أجاب: تلك هناك، ... اِبنتي!
"لا تحْتَاج الآلات والمحرِّكات الهَندسيّة في القرن الحادي والعشرين لفكرة الله، لا تتَطَلَّب أماكن عِبَادة وخضوع وسُجود، لأنّها ببساطة تعمل بشكل أوتوماتيكي خلّاق، متناسق ورائع، لولادة ما يحتاج إليه البشر من منتجات... لا الرافعة الدخانية احتاجت لرحمة الإله ولا ساعة الجيب، اللّتَين اِبْتَكَرَهما المُهَنْدِس تقي الدين الشامي قبل حوالي 500 عام... حتى ساعة الفيل الأوتوماتيكية، التي صمَّمها المُهَنْدِس الجزري منذ أكثر من 800 عام، استطاعت أن تصدر الأصوات وتحرك الأفاعي الصينية وأنابيب الماء اليونانية دون مساندة الله... اِخترع المُهَنْدِس الآلة في أحسن تقويم، فقط كي يخبرنا: أنّ الإنسان على الخلق قادر!"
***** ***** *****
- ما هو الفرق بين المُهَنْدِسين الميكانيكي والمِعماريّ برأيك؟ - هو في غاية البساطة! الميكانيكي يُصمِّم الأسلحة ويُصنِّعها! المِعماريّ يُصمِّم الأهداف ويبنيها!
- تتكلم معنا أيها الشرقيّ وكأنّك شاعر، هل أنتَ كاتب أم ما زلت تحت خميلة الكوكايين؟ ما هو الفرق بين المُهَنْدِس والشّاعر؟ - بواسطة نقاط متتابعة ترسمُ خطاً مستقيماً. عند رسم كل نقطة، عليك الانتباه كي يبقى الخط مستقيماً. يمكنك أن تُنتج الخط ذاته بسحبه بحركةٍ واحدة، بيدٍ هادئةٍ ومن دون نقاط. يعمل المُهَنْدِسون وفقاً للطريقة الأولى، أما الشعراء فوفقاً للطريقة الثانية. هنا يكمن الفرق بينهما! بل لا فرق بينهما، إنهما يُتمِّمان بعضهما البعض. يقولون عن المُهَنْدِس بوجهه الذي برنّزته أشعة البحر: يمسكُ التراب بيده فيصبح ذهباً. يقولون عن الشّاعر، ذاك الكافكاوي حيناً، المحظوظ دائماً: يمسكُ الكلمات بيده فتصبح قصائداً. المُهَنْدِس شَّاعِر العقل والشَّاعِر مُهَنْدِس الروح! كلاهما لا حول ولا قوة له... كلاهما ينشد الفرح والأمنيات.
- الرَّسم الهَندَسيّ ثنائي وثلاثي الأبعاد هو عِضادَة تصنيع السِّلاح، هو وحده المسؤول أمام القانون عن ضحايا حروب الشرق. أليس كذلك؟ - الرَّسم الهَندَسيّ هو فن اصطحاب الخطوط إلى نزهات جميلة، لتنتهي في أسِرَّة التصنيع. لغته عالمية، متكاملة، خاضعة للقواعد والنواظم، قابلة للتطوير، فريدة من نوعها، واضحة تماماً لا لبس فيها، خالية من التفسيرات والتأويلات وسوء الفهم... نجحت التكنولوجيا عبر أدواتها ذات التأثير الهائل في تطوير لغة الرَّسم لتصبح مع مرور الزمن أرقى من اللغة التعبيرية للبشر... الهندسة سلام، التكنولوجيا سلام و رقْي إلى القِمَّةِ، الأيديولوجيا معارك، الأيديولوجيا حروب، جميل لو تنجح التكنولوجيا مستقبلاً في إسقاط الأيديولوجيا، دون أنْ تُعيد توريد أيديولوجيا بديلة عن الزائلة... - قالت الشرطية: لكن العَبْقَرِيّة تكمن في إِعادةِ إِنتاج ما أُنتِجَ سابقاً ضمن قوالب مُتجدِّدة. العَبْقَرِيّة تكمن في إيجاد حلول متطورة، أو ما معناه: "العَبْقَرِيّة لا تكمن في إيجاد إبرة في كومة قش ومن ثم التوقف وإنّما في البحث عن إحتمال إيجاد إبرة ثانية." كما قال أنيشتاين.
***** ***** *****
- قال الشرطي: بدأ صبرنا ينفذ! لم نعد نفهم سوى بانهوف! - أين الطريق إلى محطة القطار، يا شرطة؟ دعوني وشأني! - هل أنت كردي؟ - لا. - هل أنت عراقي هارب؟ - لا. - هل أنت لاجئ قبل أن تبدأ حرب إسقاط الدكتاتور العراقي؟ - لا. - الشرق يحتاج إلى ثورة متكاملة وقبل كل شيء ثورة على أنفسكم... حينئذ تَتَدَاعَى أركان أنظمتكم الاِستبدادية تلقائياً. - لا علاقة لي بهذه التنبؤات يا سادة، أنا هنا فقط كي أقول لكم: أنّ نساء السيارة البيضاء يرغّبن باِختطافي! - ما هو عملك بالضبط؟ - أنا باحث علمي في جامعة آخن. - هل أنت مُتَفَائِلٌ أم مُتَشائِمٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ؟ - أنا مُهَنْدِسٌ يا سادة، في الوقت الذي يقول فيه المُتَفَائِل: الكأس نصف مُمتَلِئ، يقول المُتَشائِم: الكأس نصف فارغ. أما أنا فأقول: الكأس أكبر بمرتين مما يجب أن يكون عليه.
***** ***** *****
- ما هو حلمكَ العملي؟ - أن أصير أستاذاً جامعياً في ألمانيا، أن أجمع خبرات في التعليم والبحث والإدارة، أن أعود إلى الشرق، أن أستلم حقيبة وزارة التعليم العالي لمدة سنوات خمس فقط و ضمن حكومة وطنية تلتزم بالإنسان. - لما هذا التواضع؟ لماذا لا تصبح رئيس البلاد دفعة واحدة؟ - أرجوكم يا سادة، لا تستهزؤوا بي، أنا هنا كي تنقذوا ما تبقى مني، كي تعيدوا لي كرامتي! - أنتَ تنظرُ إلينا أيها الغريب بمنظارٍ عتيق، هذه ليست مهمتنا، أنتَ تعيش اليوم في ألمانيا الاِتحادية لا في ألمانية الديمقراطية الشرقية، زمن الاِستبداد والقمع ولّى، أنتَ إنسان حُرّ في بلدٍ حُرّ، لك الحق أنْ تفعل وتعيش كما تشاء... هل سرقتكَ نساء الكوكايين؟ هل ضربنك؟ هل عذبنك؟ - لا، لم يحدث شيئاً من هذا القبيل، مازال كل شيء في حوزتي، نظارتي وحقيبتي وبطاقتي الشخصية وبطاقة البنك، تلفوني حتى سروالي الداخلي... - اِذهب من هنا أيها الهائم على وجهك، كن شاكراً لنساءٍ أحبتك، هذا يحدث نادراً في هذا البلد، تعلّم ألّا تلجأ للشرطة إلّا بعد حدوث جريمة... - لكنني خائف من سيارة بيضاء تلاحقني! - لا تخف، أنت تتوّهم فقط، ما زلت تعيش حالة الكوكايين، لا أحد يلاحقكَ، لا أحد يهتم بشأنك، اِذهب للنوم والراحة، كل شيء سَيَتَحَسَّن! - هل أنتم واثقون؟ - نعم، لقد أرسلنا من يبحث عن سيارة بيضاء، لم يجدوا شيئاً، إنها مجرد أخْيِلَة يظنُّها الإنسان وقائع في حين أنها اختلاق ذهنيّ مرضيّ، المدينة هادئة، توقف هُطول المطر، الشمس مُشرقة، والحياة تتجدّد... - وداعاً أيها السادة، شكراً لوقتكم الثمين... لقد تعلمتُ منكم الكثير... - رد الشرطي: وداعاً، في الكَأْس الأخير تكمن النَّشْوَة، هذا هو بَيْتُ الحِكْمَةِ! - قالت الشرطيتان وكأنّ لهما رأس واحد: فكر ملّياً أيها الشرقيّ الكئيب بما يجعلك تُزهر في الحياة واِتبعه.
***** ***** *****
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حدث في قطار آخن -43-
-
حدث في قطار آخن -42-
-
حدث في قطار آخن -41-
-
حدث في قطار آخن -40-
-
حدث في قطار آخن -39-
-
حدث في قطار آخن -38-
-
حدث في قطار آخن -37-
-
حدث في قطار آخن -36-
-
حدث في قطار آخن -35-
-
حدث في قطار آخن -34-
-
حدث في قطار آخن -33-
-
حدث في قطار آخن -32-
-
حدث في قطار آخن -31-
-
حدث في قطار آخن -30-
-
حدث في قطار آخن -29-
-
حدث في قطار آخن -28-
-
حدث في قطار آخن -27-
-
حدث في قطار آخن -26-
-
حدث في قطار آخن -25-
-
حدث في قطار آخن -24-
المزيد.....
-
20 مليون دولار ضاعت على الغناء.. موظفو حملة هاريس مهددون بعد
...
-
حرب الروايات.. هل خسرت إسرائيل رهانها ضد الصحفي الفلسطيني؟
-
النسور تنتظر ساعة الصفر: دعوة للثوار السنوسيين في معركة الجب
...
-
المسرح في موريتانيا.. إرهاصات بنكهة سياسية وبحث متواصل عن ال
...
-
هكذا تعامل الفنان المصري حكيم مع -شائعة- القبض عليه في الإما
...
-
-لا أشكل تهديدًا-.. شاهد الحوار بين مذيعة CNN والروبوت الفنا
...
-
مسلسل حب بلا حدود الحلقة 40 مترجمة بجودة عالية HDقصة عشق
-
“دلعي أطفالك طوال اليوم” اضبط الآن تردد قناة تنه ورنه 2024 ع
...
-
-لوحة ترسم فرحة-.. فنانون أردنيون وعرب يقفون مع غزة برسوماته
...
-
ويكيبيديا تحسم موقفها وتصف حرب إسرائيل على غزة بأنها -إبادة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|