|
ما هي العنصرِيّة؟
يهودا شنهاب
الحوار المتمدن-العدد: 5112 - 2016 / 3 / 23 - 08:37
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
لا نحبّ في العادة أن نفكر عن أنفسنا أننا عنصريون ولا أن نعترف بأن العنصرِيّة هي جزء لا يتجزأ من حياتنا. ولكن للأسف، العنصرِيّة هي ظاهرة ثقافية واسعة موجودة في كل مجتمع. وعليه، أريد أن أصرف النظر عن سؤال "من هو العنصري"؟ إلى السؤال: "ما هي العنصرِيّة"؟ كما إنني أريد أن أحرف النظر عن المظاهر المتطرفة للعنصرية وأن أوجهه إلى مظاهرها العادية. يساعدنا تعريف علم الاجتماع للعنصرية على أن نحدّد مثلا، هل محاكاة اللهجة الشرقية أو العربية لإضحاك الجمهور جزء من العنصرِيّة؟ هل التخلي عن وجبات الدم التي تبرّع بها أثيوبيون هو عنصرية؟ هل لجان القبول في البلدات الأهلية تستخدم اعتبارات عنصرية في قبول سكان جدد؟ في كل مجتمع هناك فروقات بين بني البشر على أساس لون البشرة، مبنى الوجه، أو مبنى الجسم. تبدأ العنصرِيّة في اللحظة التي نُصنّف فيها أناسا على هذه الأسس، ونستعمل هذه الفروقات لنفسّر دونية اجتماعية وتخلفا ثقافيا، وبذلك نمنحها الشرعية: تبدأ العنصرِيّة في النقطة التي نبدأ فيها بتصنيف الناس على أساس خصائص مختلفة وننسب إليهم صفات وقُدرات دونية أو تفوّق من خلال استعمال مصطلحات بيولوجية، ثقافية أو اجتماعية.
*العنصرِيّة البيولوجية*
هيمنت العنصرِيّة البيولوجية ابتداء من أواسط القرن الثامن عشر وتطورت كجزء لا يتجزأ من السيطرة الأوروبية في المستعمرات عبر البحار. سُمّي الأصلانيون في أفريقيا وآسيا "أعراق أصلانية" (subject races)، ووُصفوا على أنهم لا يستطيعون التفكير بشكل مستقلّ، فلم يحظوا بسبب ذلك بمكانة سياسية. مصدر مصطلح العرق في علم البيولوجيا، وتمّ تعريفه بالأساس حسب لون البشرة ومبنى الجسم. مع هذا، ألصقت به، أيضا، صفات هي بين البيولوجية والثقافية مثل: بدائية، خطاب صبياني، فوضوي أو جنسانية مبالغ بها. العنصرِيّة البيولوجية لم تظهر في السياسة فحسب، فعلى خطى البيولوجيا، بدأ أطباء وأنثروبولوجيون وألسنيون (علماء اللغة) واناسيون (علماء الاجتماع)، علماء الاعراق البشرية، كتاب لاهوتيون (علماء الدين) وموظفو المؤسسة الحاكمة بتفسير دونية مجموعات أو رقيها؛ كما أن الأدب الأوروبي من غوستاف فلوبر حتى جين أوستن كان مشبعا بتوصيفات عنصرية مباشرة وغير مباشرة عن "غير الأوروبيين". ميزت العنصرِيّة البيولوجية، أيضا، التعامل مع اليهود - ولاحقا التعامل مع المسلمين - في أوروبا، ومن المفارقة أن تظهر العنصرِيّة في تعامل يهود مع يهود آخرين، على سبيل المثال في إسرائيل، العنصرِيّة تجاه "الحريديم"، صحيح أنها تتميز بلغة اجتماعية (بدائية، مستوى تعليم متدنٍ، كثرة الأولاد، نزعة الانعزال والطفيلية)، إلا أنها تبنى على خصائص جسمانية في وصف اللحى والسوالف أو رائحة الجسد لدى الرجال "الحريديم".
*العنصرِيّة الجديدة: عنصرية بدون العِرق*
تحريم استعمال اللغة البيولوجية بعد العام 1945 في ضوء التجربة النازية أفضى إلى تعريف العنصرِيّة بلغة علم الاجتماع التي صنفت مجموعات الناس بواسطة خصائص اجتماعية مثل، أنماط الحياة وَدرجة "التنور الثقافي" والتدين والقدرة على التفكير المنطقي وكِبر العائلة أو المستوى التعليمي. سمّى باحث علم الاجتماع الفرنسي إتيان بليبر (Étienne Balibar) هذه العنصرِيّة باسم "العنصرِيّة الجديدة"، لأنها تسمح بوجود "عنصرية بدون العرق". "العنصرِيّة الجديدة" السائدة في المجتمع الليبرالي يتم تعريفها على الغالب بلغة اجتماعيه تؤكّد على تصنيفات عرقية، انتماء قومي، انتماء ثقافي، انتماء طبقي أو انتماء جندري وجنسي. مَوّهت العنصرِيّة الاجتماعية خصائص العنصرِيّة التقليدية وتحوّلت إلى "ستار ضبابي" يُخفي أفكارا مسبقة بشأن فوارق بيولوجية. مثلا، درجت العادة في إسرائيل على استعمال مصطلح "طائفة". الطائفة معرفة على أنها مجموعة ذات تاريخ مشترك وعادات اجتماعية وثقافية متماثلة. على الرغم من أنها مشتقة من قاموس ثقافي، إلا أن "الطائفة" مثل "العرق" هو مصطلح بيولوجي في الأصل تقوم خصائصه على السلوك الاجتماعي أو الانتماء للمكان. القانون الذي يُتيح للجان القبول في البلدات ألأهلية تصنيف المرشحين على أساس "عدم ملائمة" ثقافية هو حالة واضحة تماما للعنصرية بدون العرق. ظاهريا، تم سنّ القانون ليكون بمقدور سكان بلدة صغيرة أن يحددوا لأنفسهم طبيعتها الثقافية. يُسمع هذا الادعاء منطقيا عندما يُمتحن خارج سياقه; لكن، في حالة أللامساواة الواضحة في تخصيص الأراضي وتفضيل اليهود بموجب القانون على غير اليهود، فإن مثل هذا التشريعات ليس انها لا تفتح مسارات عنصرية الاستيطان فقط، بل تقرّ وتعزز العنصرِيّة في المجتمع. لا تُرفض أمهات أحاديات الوالدية بادعاء عدم الملاءمة للطلبات فقط، بل تُرفض، أيضا، طلبات أناس مع إعاقات ومثليين ومثليات وشرقيين أبناء الطبقة الدنيا أو أثيوبيين. أي الادعاءات تستعملها هذه البلدات لتبرير العنصرِيّة؟ في ردّ على التماس قدمه ناشط اجتماعي من أصل شرقي ضد أحد الكيبوتسات الذي رفض قبوله وعائلته، قال الكيبوتس: "قدرات الكيبوتس ومَنَاعته واستمراريته قائمة على مجتمع متكتّل لا يستطيع أن يسمح لنفسه بإهدارها على احتكاكات وخلافات داخلية تنبع من عدم ملاءمة مرشحين معيّنين للعيش في مجتمع صغير". مصطلح "ملائم/غير ملائم" هو مرِن وفضفاض بما فيه الكفاية لإخفاء العنصرِيّة على أساس قومي وطبقي وجندري أو على أساس الهوية الجنسية. علينا أن نتذكّر أن الأمر بشأن أراضي عامة تُمنح كامتيازات ليهود يُظهرون هويتهم الصهيونية "المعيارية" و"المتفق عليها" اجتماعيا. وهي عنصرية منصوص عليها فيها تمنح لجان القبول في البلدات الأهلية صلاحيات خاصة لمنع أو قبول تضمين أراض في البلدة. هكذا، تم وفق القانون، استبدال صلاحية سلطة أراضي إسرائيل على الأرض العامة بصلاحية لجان القبول التي تتخذ قرارات نتائجها عنصرية. ولهذا، ففي كل فحص لحالات عنصرية لا حاجة لإثبات وجود قصد لذلك.
*العَرْقَنِة*
العرْقَنَة ليست مصطلحا جامدا وإنما فعل اجتماعي للخيال الإنساني بواسطة الخصائص البيولوجية (مثلا ـ لون البشرة، طول الأنف أو عرضه أو كِبَر الثديين)، اجتماعية (مثلا ـ الفقر، مسقط الرأس أو المكانة الاجتماعية) أو ثقافية (مثلا ـ التدين أو كِبَر العائلة)، واستعمال هذه الخصائص التي تُعتَبَر "طبيعية" وغير متحوّلة لإضفاء شرعية لعلاقات هرمية بين مجموعات بشرية. تُتيح عملية العَرْقَنة تقصّي العنصرِيّة بلغات ليست بيولوجية فقط. مصطلح "مسعودة من سدروت" الذي انطبع في التسعينيات كأساس لسياسات المساواة في تلفزيون القناة الثانية، يتيح العنصرِيّة بدون ذكر العرق. يشير المصطلح إلى توسيع برامج التلفزيون التي تتحدث إلى الناس من الفئات المستضعفة الذين يعيشون في المدن المهمّشة. "مسعودة من سدروت"، امرأة شرقية بسيطة، حُددت كمعيار لأدنى مستوى للاستهلاك التلفزيوني. كذلك الأمر بالنسبة للمصطلح الذي طبعه القاضي أهرون براك "اختبار بوزغلو" والذي يتحدث عن المساواة التامة لكل المواطنين أمام القضاء. الأسم "بوزغلو" يأتي ليعبّر ان المكانة الأدنى للفرد الذي لا يتمتع بمنالية الوصول إلى مواقع القوة. "مسعودة من سدروت" و"اختبار بوزغلو" هما مصطلحان عنصريان جاءا بصيغة غير بيولوجية. ليس في الحالة الأولى أي صياغة "عرقية" إلا أن الأسم مسعودة ومكان سكناها في سدروت يزودانا بالمعلومات الناقصة. في الحالة الثانية، أسم العائلة "بوزغلو" هو مؤشر واضح بما فيه الكفاية. كلا المصطلحين اللذين تم ابتكارهم من الحاجة إلى تصحيح واقع من اللا مساواة، هما مصطلحان عنصريان. كما أنهما أشارا إلى حقيقة وجود فجوة "عنصرية" بين الشرقيين والأشكناز في إسرائيل. إن الفارق بين هذين التوصيفين من خلال استعمال الأسماء ومكان السكن وبين توصيفات عنصرية هو لفظي فحسب. وهي طرق مختلفة للتعبير عن توجه عنصري تجاه مجموعة ما. يُستدلّ من المثالين الآنفين كيف يُمكن ألا تكون العنصرِيّة من خلال "العرق" وإنما من خلال "المطابق العرقي". أمثلة مشابهة يُمكن أن نجدها في حقول أخرى مثل الأدب والسينما والسياسة وأماكن العمل أو المطارات ونقاط الحدود. يُمكن أن تكون العنصرِيّة، بموجب هذا التعريف، موجهة تجاه كل مجموعة وكذلك تجاه أبناء مجموعات مهيمنة وقوية. مع هذا، فإنه عندما لا تكون العلاقات بين المجموعات متكافئة، فإن العنصرِيّة تجاه الاقليات والمجموعات المُستضعفة تزيد من عدم المساواة القائم أصلا في المجتمع بل وتعطيه تبريرًا. إن التحدي الحقيقي لمكافحة العنصرِيّة هو تقصي حالات العنصرِيّة حتى التي تُصاغ بلغة منطقية ليتم تمويه الظاهرة بها. التقارير بشأن العنصرِيّة التي تنشرها منظمات حقوق الإنسان هامة لغرض الكشف عن العنصرِيّة ومكافحتها. ومع هذا، لدي تحذير منهجي: غالبا ما تورد التقارير عن العنصرِيّة "حالات متطرفة" تجسّد عنصرية متطرّفة فظّة ومباشرة. فحقيقة وجود عنصرية واسعة تجاه النساء الشرقيات في المجتمع الليبرالي نفسه، لا تحصل على أي اهتمام صحفي او اعلامي. مثلا، تشكّل النساء الشرقيات في السلك الأكاديمي 0.5% فقط. الحالة في الجامعات لا تختلف عن حالات أخرى حصلت على تغطية إعلامية (كحادثة مدرسة عمانوئيل) باستثناء الشكل الذي يعبّر به عن العنصرِيّة. مع الانتباه في الوقت ذاته إلى أنه تحصل في ظلّ الحالات "المتطرّفة" حوادث عنصرية كثيرة في حياتنا لا تجد لها تعبيرا في الحيز العام، ينبغي جَمع هذه الحالات المتطرّفة للعنصرية وعرضها والكشف عنها كي لا تبقي مخفية عن الأنظار، وكي تعرّف بشكل واضح بأنها "حالات عنصرية".
*محاضر في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة تل أبيب، ومعهد فان لير القدس.
**هذه المادة هي ملخص لجانب من مقال يتضمنه كتاب "دروس للحياة- التربية لمناهضة العنصرية من رياض الاطفال حتى الثانوية". اصدار قسم التربية في جمعية حقوق المواطن مؤخراً باللغتين: العربية والعبرية. يمكن الاطلاع على الكتاب في موقع الجمعية التربوي (الورشة: فضاء تربوي للديمقراطية وحقوق الانسان).
#يهودا_شنهاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
افتتاحية: ولأن الاعتداء كبير على الحقوق الأساسية … يكون الرد
...
-
س?رکوتوو ب?ت خ?باتي مام?ستايان و س?رج?م موچ?خ?راني ه?ر?مي کو
...
-
الرفيقة شرفات أفيلال عضوة المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتر
...
-
من أجل إنصاف متضرري زلزال الحوز ومساءلة المتورطين في انتهاك
...
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: فوضى التشريع وليدة المنهج الفاش
...
-
الاتحاد العام التونسي للشغل يساند ويتضامن مع النقابات المغرب
...
-
العدد 591 من جريدة النهج الديمقراطي
-
ماركيز صحفيا في أوروبا الاشتراكية.. الأيديولوجيا والحياة الي
...
-
نتنياهو: ترامب أفضل صديق في تاريخ إسرائيل واليمين المتطرف يع
...
-
الرفيق رشيد حموني يفسر تصويت حزب التقدم والاشتراكية ضد قانون
...
المزيد.....
-
الذكرى 106 لاغتيال روزا لوكسمبورغ روزا لوكسمبورغ: مناضلة ثور
...
/ فرانسوا فيركامن
-
التحولات التكتونية في العلاقات العالمية تثير انفجارات بركاني
...
/ خورخي مارتن
-
آلان وودز: الفن والمجتمع والثورة
/ آلان وودز
-
اللاعقلانية الجديدة - بقلم المفكر الماركسي: جون بلامي فوستر.
...
/ بندر نوري
-
نهاية الهيمنة الغربية؟ في الطريق نحو نظام عالمي جديد
/ حامد فضل الله
-
الاقتصاد السوفياتي: كيف عمل، ولماذا فشل
/ آدم بوث
-
الإسهام الرئيسي للمادية التاريخية في علم الاجتماع باعتبارها
...
/ غازي الصوراني
-
الرؤية الشيوعية الثورية لحل القضية الفلسطينية: أي طريق للحل؟
/ محمد حسام
-
طرد المرتدّ غوباد غاندي من الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) و
...
/ شادي الشماوي
-
النمو الاقتصادي السوفيتي التاريخي وكيف استفاد الشعب من ذلك ا
...
/ حسام عامر
المزيد.....
|