|
دور الأعمال الفنية الجدارية والنصب التذكارية في التعريف بالموروث المحلّي لمناطق الجنوب التونسي نموذجا
ياسين بن علي قاسمي
الحوار المتمدن-العدد: 5107 - 2016 / 3 / 18 - 23:51
المحور:
الادب والفن
مقدمة: لعب المنتج التقليدي دورًا أساسيًا في حياة مجتمعات الجنوب التونسي باختلاف أشكال نماذجه في صور مبتكرة أولية في أبعاد جمالية ومضمونية تدلالية توارثتها الأجيال فيما بينها محافظين على تواتر الأنموذج الأصلي والموروث ولم يمنع ذلك في الآن نفسه الأيادي التي تتوق إلى التغيير والتطوّر من الإضافة في بعض مكوناته. ومقابل ذلك في الزمن المعاصر لعب كذلك هذا العنصر التراثي مصدر استلهامٍ، إذ شهدت العناصر التشكيلية التراثية تطوّرًا ملحوظًا من خلال حضورها المكثّف في فضاءات مختلفة وبممارسات متنوعة فبالإضافة إلى تواصل توارثها في الفضاء الحرفي أين ساهم الحرفيون وممارساتهم المعاصرة في تواصل إحيائها إحياءً مبدعًا من خلال استعادة طاقاتها التعبيرية وإعادة تنفيذها بأساليب متطوّرة لم تخرج من المكوّن الأصلي وإنّما استحدثتها، وقع تبنّيها في الفضاء الفني التشكيلي إذ مثّلت انطلاقة التجارب الفنية التشكيلية لتحمل في ثنايا العناصر التكوينية لأعمالها مواقف متعددة ساهمت في تأسيس خطابا تشكيليّا متميّزا ولعبت دورًا هامًّا في طرح العديد من القضايا لعلّ أهمّها ما تعلقت بالهوية. ووظّفت زيادة إلى ذلك في فضاءات الوسط الحضري في النصب التذكارية والجداريات تعد هي الأخرى امتدادا للتوظيف الفني التشكيلي في الفضاء المفتوح استغلته الممارسة الفنية التشكيلية الموظفة لعناصر الموروث الشعبي في حركة أكثر طلاقة وانسيابية وأكثر تحرّر وجعلت منه فضاءً تشكيليا رسمت ونحتت فيه أعمال تشكيلية فنية على محامل جدران الشوارع تسمّى بالجداريات ومنحوتات شكّلت نُصبًا تذكارية مثلت فيها عناصر الموروث الشعبي موضوعا لها.
1) الجداريات: ظهرت في فضاءات جُلّ المدن التونسية تقريبا على مساحات جدرانها أعمالا فنية تسمّى بالجداريات، وفي مداخلها وفي فضاءات توسطت الطرقات أعمال نحتية في شكل نصب تذكارية كانت مواضيعها في الغالب بمثابة بطاقات تعريف تُعرّف بالمخزون الحضاري لكلّ منطقة، ومن بين الأعمال ما شمل عناصر من الموروث الشعبي المادي في عناصر الزخرفة التي تشتهر بها منطقة ما في بعض منتوجاتها التقليدية، وصيغت في مشاهد تعبيرية تصويرية مختلفة. وفي مشاهدة الجداريات في بعض المناطق من الجنوب التونسي في منطقة على سبيل المثال التي اكتسحت مساحات جدرانها الرموز الموظفة على المنسوجات التي اشتهرت بها المنطقة، تمثّل في قراءتها السعي الدائم وراء ترسيخ الذاكرة الجماعية الشعبية والمادة التراثية، وتعكس الصلة الوثيقة بما خلفته الأجيال الماضية من الآباء والأجداد من أنماط فنية تشكيلية شعبية أصبحت تسري في دم حاملي ثقافتها ومن تنتسب إليهم مؤكدة الاستمرارية والتواصل عبر شجرة الوراثة. وفنّ الجداريات في الحقيقة هو الآخر يعدّ فنًّا قائمًا بذاته منحدر من التاريخ القديم برز مع العديد من الحضارات القديمة وخاصة منها الفرعونية، وعرفت هي الأخرى تطورا في الزمن الحديث والمعاصر ليصبح بالشكل المعروف لنا اليوم، حيث برزت في الآونة الأخيرة حركة فنية أحدثت صدى كثيرا في شتى أنحاء العالم ما يعرف بفن الشوارع أو الجداريات أو "الغرافيتي"، نقش ورسم فيه المحدثون همومهم وأحلامهم وتصوراتهم وأفكارهم بأسلوب فني مستحدث مبتكر يتماشى والفضاء الشاسع والرحب التي توفرها مساحات الجدران. إذ نجد في أغلب المدن على جدران الشوارع التي تحولت إلى معرض ومتاحف مفتوحة شملت أعمال الجدرايات رسمت بالألوان مواضيع شتّى مثّلت جسرا للتواصل المباشر مع المجتمع الذي ينتمي إليه وفنًّا جماهريًا في متناول الجمهور العريض من عامة الشعب. ولعلّ من أهم الأمثلة على ذلك ما عرفته جدران مدينة الرياض التي تعرف باسم "الحارة الصغيرة" بجزيرة جربة في شكل تظاهرة فنية نظمها "مهدي بالشيخ" الذي اختار المنطقة لمواصلتها الحفاظ على طابع موروثها المعماري، مثلت "متحف الشارع أو "متحف الهواء الطلق" في شكل سلسلة من الأعمال شارك فيها العديد من الفنانين المحليين والأجانب ورسموا لوحاتهم وجدارياتهم على مختلف انهج المدينة وشوارعها في مواضيع مختلفة لم تحدد بمحور محدد ومشترك وإنّما أطلق الرسامون العنان لمخيلاتهم وتقنياتهم الإبداعية دون قيود. وما يهمّنا في تلك الأعمال التي منها ما شمل تصوير لعناصر الموروث الشعبي واستحضارها في العمل الفني الجداري، حيث نجد بعض الرسومات اعتمدت في التعبير على التراث المعماري الذي تميزت به المنطقة وعلى الطابع المحلّي للباس التقليدي، حيث شملت بعض الأعمال مقاطع من عناصر وزخارف بعض المنتوجات التقليدية وإعادة توظيفها وسط موضوعا ومشهدا آخر يعكس صورة متجددة لموروث الشعبي في قالب فني وفي فضاء جديد تمثل في الجدار الذي تناسق مع الرسم الذي بدا مكمّلا له ومنسجما معه ليصبح وكأنه جزء منه (أنظر صور عدد 10 و11 و12). وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ في زيارتنا الميدانية لمناطق الجنوب التونسي لاحظنا ما تزخر به جدران كلّ منطقة بجداريات متنوّعة مثّلت أغلبها قاسما مشتركا من حيث الموضوع بخصوص تصوير الموروث الشعبي في رؤى مختلفة، واختلفت مستويات تصوير الموروث من منطقة إلى أخرى من حيث القراءة الفنية للعمل الجداري. وربّما يرجع هذا الاختلاف إلى ذاتية الفنان وقدراته التعبيرية الذي يكون في هذا النمط من الفن أكاديميا أو عصامي التكوين. فبعض الجداريات إن لم تنتسب إلى فنانين تشكيليين متعارف عليهم فهي جُعلت تحت إشراف على سبيل المثال جمعيات أو مؤسسات الدولة التي تعنى بالثقافة أو إحياء التراث وإلى غير ذلك بالتعاون مع فنانين موهوبين من المنطقة. وبقطع النظر عن طبيعة العمل الجداري أن يكون ذاتيا أو تحت إشراف مؤسساتي، فإنّ أغلب الجداريات المشاهدة في منطقة ما تتمحور مواضيعها حول إبراز ما تشتهر به المنطقة من موروثات خاصة المادية منها ويتمّ الاستلهام في أغلب الأحيان عناصر الرموز المتداولة بها وبالنمط الزخرفي وإعادة صياغتها وفق تصميم الجدارية. لتتراءى بذلك الجدرايات بمثابة وسائل تعبيرية ذات صبغة وظيفية لتجسيد الطابع التراثي لمنطقة ما والتشهير به وتلقي الضوء على إرث الفنون التشكيلية الشعبية الموروثة وقيمها الفنية والجمالية والزخرفية وفق أسلوب يجمع الأصالة والمعاصرة. وعليه نشير إلى أنّ توظيف الموروث في الجداريات على واجهات شوارع المدن هي علامة من علامات التفاعل مع حياة الناس التي يجسدها هذا النمط من الفن من خلال إحياء عناصر الموروث في مشاهد فنية ليظل بذلك حيّا لدى فكر المجموعة أو المجتمع الذي ينتمي إليه ليستمد حياته في صورة متجددة ويتواصل مع عين المشاهد وأفكاره من عامة الناس خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة العمل الجداري الموجه للجماهير العريضة، دون معرفة صاحبها أحيانا، بحكم فضائه المفتوح الذي أخذت منه عناصر الزخارف والرموز التراثية هو الآخر منشأ لها تعيش فيه وتتعايش وتواصل مع الآخر (المشاهد) غير مقتصرة هذه المرّة على فئة معيّنة من مرتدي المعارض الفنية وإنّما جميع فئات المجتمع، مثلما كانت عليه في منشئها في الماضي على محاملها الحقيقية على قطع النسيج والأواني الفخارية وغيرها. ونزلت في فضاء الجداريات ضمن المفردات البصرية في شكل التقاء الحضاري بالموروث الشعبي في زمن الحاضر، وهو ما يؤكد ميزات الموروث الشعبي ورموزه ووحداته الزخرفية وحيويتها منذ نشأتها الأولى لدى الإنسان القديم الذي وظّف على محامل منتوجاته المخصصة للاستخدام اليومي فنًّا جاعلاً منه حسّا عضويا بالحياة. وفي قراءة شاملة لبعض الجداريات على مستوى الشكل نجدها ترتكز في التشكيل والتصوير والصياغة الفنية على ثنائية التعبير والرمز، يلعب فيها الشكل دورا رئيسيا وهاما، إذ يعتمد الفنان في تقسيم الفضاء التصويري الجداري (Espace picturale murale) على الشكل وفق صياغته في حدّ ذاته مثلما يتوخى في تتبع مراحل عمل معيّنة في تشكيلها تختلف حسب الموضوع والتقنية المعتمدة إذ نجد أغلب الجداريات منفّذة عن طريق الرسم بالألوان مباشرة على فضاء الحائط ومنها زيادة على ذلك أعمال الفسيفساء. ونشير هنا أنّه تنوعت أساليب معالجة الموضوعات من جدارية إلى أخرى فمنها ما سيطر عليها الحس الشعبي وكثافة الرموز وحضور عناصر الموروث بشكل بارز وطاغي، ونجد في أخرى اعتمد فيها صاحبها على التجريد الجزئي إلى أقصى التجريد باعتباره أساسا في التشكيل والتعبير، ومنها أيضا ما شملت على تركيبات لونية متنوعة ومتباينة تجسدت في صياغة تستند إلى مبدأ الإيحاء. وفي مجمل القول تعكس جل الأعمال حالة التواصل بين رؤى فنان الجرافيتي والقيم الجمالية المحيطة به، من بيئة الموروث الشعبي، من إعادة صياغة أشكال الرموز التراثية في تصميمات إيحائية ومحاكاتها، حتى مزجها بعناصر تكوينية تشكيلية أخرى وتجريدية قاسمها المشترك هو إضفاء روح الشعبية في عين المتلقي المشاهد التي تركن بين ثنايا عناصر الموروث الموظفة في فضاء الجدارية مجسّدة التراث الممتد الذي حاول الفنان الحفاظ عليه وتطويعه في شكل حداثي، لا ينحو إلى التغريب، وإنّما ليغدو امتدادا لفترات تاريخية طويلة المدى ترسّخت في الذاكرة الجماعية حتى في الزمن الحاضر.
2) النصب التذكارية: تختزل المنتوجات التقليدية المتداولة في منطقة ما خبرات مبتكريها ومنتيجها عبر الزمن اختزنتها الذاكرة الجماعية لتظلّ حاضرة حتى الآن في بيئتهم المعيشية لتساهم بذلك في التعريف بها من خلال ما امتازت به من نمط فن شعبي جسدتها أيادي الممارسة التشكيلية التقليدية على محامل تلك المنتوجات جلية واضحة في أشكال الزخارف والرموز عبرت السبيل لتصويرها في الزمن المعاصر في أعين المشاهد في فضاءات تعبيرية مختلفة في صور ذات رؤى وتصورات متنوعة متشكلة من أساليب مختلفة من أعمال تشكيلية مُثلت في فضاءات العرض وفي جداريات على واجهات شوارع المدن ونصب تذكارية منحوتة وحتى في قطع الصناعات التقليدية والحرفية. وتحيلنا هذه الأساليب في التعبير عن الموروث إلى الحديث عن منطق "صورة الصورة" التي هي قراءة للصياغة التعبيرية الجديدة لصورة الموروث الواقعية. وعليه يعدّ النصب التذكاري هو الآخر مجالاً هامًّا في الفضاء الحضري لتوظيف عناصر الموروث فضلا عن الجداريات وغيرها باعتباره ما عرف به من تموقعه في فضاء مفتوح وسط مفترقات الطرق والحدائق العمومية والساحات العامة ليلعب دورًا هامًّا في الاتصال المباشر بالجماهير العريضة، وللتعريف بخصوصيات منطقة ما إذا ما شمل موضوع تصميمه جوانب تراثها. وإذا ما أردنا أن نقدم مفهوم النصب التذكاري قبل تحليلنا لنماذج من مناطق الجنوب التونسي، فهو شكل من الأشكال التعبيرية الفنية التي التجأ إليها الإنسان للتعبير عن تصوراته وأفكاره وقضايا مجتمعه على مرّ التاريخ. فالنصب النحتي له تاريخ طويل وقديم قدم الإنسان. إذ شهدت العصور القديمة زيادة على الرسومات البدائية على جدران الكهوف والمغاور محاولته الأولى في النحت والتعبير الثلاثي الأبعاد لشكل الإنسان المتمثلة في منحوتة "فينوس" التي يعود تاريخها إلى العصر الحجري، وتطوّر مفهوم النحت وتقنياته مع الحضارات الكبرى وبرزت معها النصب التذكارية التي لا زالت شامخة إلى يومنا هذا. واستمرّ النصب التذكاري في التاريخ المعاصر وتطوّر مفهومه ليلعب دورًا هامًّا في الفضاء العمومي في مراكز المدن وفي حدائقها العامة فضلا عن التزيين فهي تحمل في تصميمها مواضيع عادّة ما تكون ذات صلة بقضايا المجتمع أمّا أن تكون مرتبطة بحدث تاريخي ما أو شخصية معروفة أو في علاقة بما تزدهر به المنطقة من معالم تراثية موضوع دراستنا. ويتضمن تعريف النصب التذكارية باعتبارها ظاهرة فنية رافقت الإنسان المعاصر في كلّ مكان من مدن العالم في ساحاتها العمومية، حيث تشمل اغلب المدن في مختلف بقاع العالم نُصبًا تذكارية نحتت بأساليب وتقنيات مختلفة وشملت مواضيع متنوعة، وعرّفتها أغلب القواميس والمعاجم بأنّها إبداع نحتي أنشئت أو شيّدت ونُصبت بهدف التذكير بشخصية أو بحدث تاريخي ما، لذلك تأتي غالبا تشخيصية على هيئة شخص ما أو مجموعة من الشخصيات كما يمكن أن تكون في شكل عمود أو مسلّة في شكل بناء إلى غير ذلك توضع عادة في مكان مقصود. وبما تقدم من تعريفات النصب التذكاري وما يلعبه من دور هام في الفضاء المفتوح واتصاله المباشر بأفكار المجتمع ووجدانه، نخلص إلى أنّه عنصرا هامًّا وجب الاهتمام به في مناطق الجنوب التونسي لتشمل مدنها وفضاءاتها العمومية نصبا تذكارية تستمدّ مواضيعها من التراث حتى تقوم بوظيفة التعريف بما تزخر به منطقة معيّنة من موروثات وثقافة فنية مادية. إلاّ أنّه ما لفت انتباهنا خلال زيارتنا الميدانية لمناطق الجنوب التونسي لاحظنا أنّه رغم أهمية هذا العنصر التعبيري فاغلب مناطقها تفتقر منشآتها العمومية ومفترقات طرقاتها أعمالاً نحتية نصبية رغم أنّها تعدّ من المناطق السياحية وقبلة للسياح، حتى وإن وجدت بعض النصب فهي لا تتضمن موضوع التراث وغير مرتكزة على مقومات فنية وتقنية جمالية. ونلاحظ إضافة إلى ذلك تباينا في الاهتمام بالنصب أو الجداريات بين مختلف مناطق الجنوب حيث نجد أنّ قفصة تعدّ من بين أهم المناطق التي عنيت بالتعريف بخصوصيات تراثها المادي عن طريق مثل هذه الوسائل التعبيرية (الجداريات والنصب التذكارية)، في حين أنّ بقية المناطق خاصة منها جربة رغم أنّها تعدّ من أهم المناطق السياحية بالجنوب فهي تكاد تفتقر تماما إلى النصب التذكارية وهو ما يدعو إلى التساؤل عن أسباب ذلك. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفضاء الحضري ومكوّناته من واجهات الشوارع ومداخل المدن وساحاتها العمومية يمثل من أهم الفضاءات الأكثر انفتاحا واتّصالا بالإنسان وأفراد المجتمع. ولهذه العلاقة التي تربط بين المجتمع ووسطه الحضري فمن الضروري استغلال خصوصيات ذلك الفضاء المفتوح لتشييد النصب تحت عناية السُّلط المعنية بتهيئة الأوساط الحضرية داخل المدن والتعريف بالتراث وخصوصياته في منطقة ما بغاية الحفاظ على استمراريته في ذاكرة الشعوب، ولابدّ أن تهتم بتجسيده في نصب تذكارية باعتبارها من الأساليب التقنية المعتمدة في تزيين المدن من جهة وما تركن عليه فنيا من دلالات رمزية وتعبيرية من جهة أخرى، يتولّى تشييدها وإنشائها فنان ما أو مجموعة من الفنانين. وعليه يتمثل دور الفنان في هذا العمل في إنشاء منحوته النصبية مرتكزا على مقوّمات وأسس العمل النصبي من جهة، ومن جهة أخرى آخذا بعين الاعتبار عناصر الموروث موضوعا أو منطلق عمله. ولعلّ من أهم ما يرتكز عليه العمل النصبي: - التواصل البصري: والتي يحققها علاقة التكامل بين العمل النصبي في شكله الظاهري والوسط المحيط. والفنان في هذا الإطار يجد نفسه أمام عدة تحديات إذ لابدّ أن يكون العمل النصبي مبنيا بالأساس على مبدأ الديمومة ولتحقيق ذلك لا بدّ أن يكون العمل بنائيا وتشكيليا في علاقة تكاملية بالوسط المحيط متناسقا وخصوصية تطوره وتغير عبر الزمن. وما نسجله في علاقة النصب بالمكان الذي انتصب فيه هو أنّ توظيف موروث منطقة ما للتعريف بها لا يرتبط بالضرورة بمكان معيّن كما في النصب التي تجسم مواضيع في علاقة بحادثة تاريخية أو شخصية فإنّها تتقيّد بالضرورة عند تشييدها بالمكان ذات الصلة، بل يتمّ تنصيبه أو بناؤه في موقع استراتيجي يكون أكثر تواصلا مع أفراد المجتمع؛ كأن يكون في الساحات العمومية أو في مفترق الطرقات الرئيسية أو في مداخل المدن. هذا بالإضافة إلى تحمّل السّلط المعنية مسؤولية اختيار المكان في نطاق مدروس ضمن مشروع تتظافر فيه مجهودات أطراف معينة بمشاركة الفنانين في تحديد الموقع آخذين بعين الاعتبار معطيات الوسط الحضري المتمثلة في تطور المواصلات وكثقافة الحركة في الشوارع وامتداد الأبنية ما يفرض التفكير مليًّا قبل تنفيذ النصب مع توقع تغيير مكانه كلّما دعت الضرورة لذلك وعلى سبيل المثال ما يطرأ من تغيير يطال المكان المحيط من الشوارع وأبنية ما يدفع بالضرورة إلى تغيير مكان النصب. وعليه فإنّ الفنّان مطالب هنا بمراعاة توظيف جانب الديمومة في بنائه لشكل النصب الظاهري في تصميمه وفي موضوعه حتى يتلاءم مع جميع الفترات المستبقبلية والتطور الحضاري والثقافي والمعماري. هذا زيادة على الحرص أن يخضع التصميم إلى خصوصيات الفضاء المفتوح ومعطياته ليأخذ الفنان بعين الاعتبار قياسات منحوتة طولا وارتفاعا وعرضا، والتصميم في أبعاده الثلاثة أي أن يخضع إلى قانون المنحوتة حيث يتسنّى مشاهدتها من زوايا نظر مختلفة وتحيط بها العين المشاهدة في حركة دائرية. ويُحدّد في هذا الإطار أحمد الأحمد موضع النصب في الفضاء معتبرا إيّاه عنصرا مهمًّا يساهم بنائه التشكيلي في تنظيم الفضاء وقادر على أن يتوحد مع الفضاء المعماري أو المنظر الطبيعي المحيط مستشهدا في ذلك بمنحوتات الفنانين على مرّ التاريخ حيث كانت تجسيدا لما وصلوا إليه من القدرة على خلق انسجام بين المنحوتة والمكان المختار وتعايش العناصر الفراغية. وعليه لابدّ في هذا الإطار أن يتفوق الفنان المنفذ في تصميم منحوتته النصبية أن تتماشى ومحيط فضائها ومعطياته بغض النظر عن الأسلوب المعتمد في طريقة تشكيله سواء اعتمد الفنان الأساليب القديمة (مسلّة أو عمود أو تمثال على قاعدة) أو الأساليب الحديثة (التّضاد عل سبيل المثال) التي يكون وفقها شكل النصب معقّدًا من خلال بنائه المؤلف من عناصر متعددة ومتنوعة. أي أنّه لابدّ أن يكون العمل في بنائه شموليا؛ ويمثل تصميمه وحدة متكاملة بين عناصره التكوينية والوسط المحيط (معمارا كان أو منظرا طبيعيا) وموضوعه تكون جميعها مرتبطة فيما بينها في علاقة تكامل لترتبط بدورها بثقافة المشاهد فكريّا وبصريّا وتأثر فيه وجدانيا، ليضمن بذلك العمل انتصابه "كعمل معماري منظّم في الفراغ" وتماسكه وتواصله مع الفضاء المحيط ومع المشاهد واستمراريته في زمن المستقبل ومع رؤى الأجيال اللاّحقة والتطور الحضاري. - وحدة الشكل والمضمون: لابدّ أن يشمل العمل النصبي تصميم شكله على علاقة توافق وانسجام بين الشكل ومضامينه، خاصة إذا ما تعلق موضوعه بتوظيف عناصر الموروث المادي والتعريف بخصوصيات عناصر التشكيل الشعبي المرتكز على تلك الرموز والعلامات التراثية التي تميز بها منطقة ما من مناطق الجنوب التونسي. فالعمل النصبي يعتبر من العوامل التي تعرف بخصوصيات منطقة ما، خاصة وأنّه يمثل من بين الوسائل التعبيرية التي تفرض التآلف بين الشكل والمضمون لهذا يُعرف العمل النصبي أنّه عمل فني "فن جماعي موظف في فراغ محدد، شعاره التشكيلي هو التواصل البصري". وعليه نجد أنّ العمل النصبي هو عمل فني موجه بالأساس إلى الجماهير العريضة لذلك فإنّ من مرتكزات تصميمها أن تكون منفذة بلغة تشكيلية تكون سهلة القراءة بصريا وفكريا متاحة لمختلف فئاتها حتى يحقق بذلك دوره الأساسي في التواصل مع المشاهد لتنشأ علاقة تبادلية بين الطرفين؛ علاقة تأثر وتأثير يدرك خلالها المشاهد فهم العمل النصبي متأثّرا ومنفعلا. فاللغة التشكيلية للعمل النصبي الذي يتوحد فيه المضمون مع الشكل هي شأن الفنان المنفّذ الذي "يخلق من الفكرة مادة" ويرى الباحثون في هذا المجال أن تلك اللغة يمكن أن تتمحور في جملة من الإشارات والرموز المستخدمة من قبل الفنان، تترجم قصده في تقديم أفكاره وتصوراته الفنية البديلة.ولإمكانية قراءتها وتحصيل الفائدة منها لا بد أن يكون العمل النصبي من الناحية العملية مبنيا شكلا ومضمونا بلغة مفهومة وتعتمد رموزا لها جذورها في التاريخ، تضمن الاتصال الواسع بالمعاني المترادفة. وبناءً على ما تقدم نلاحظ أنّ رغم أهمية العمل النصبي ودوره الكبير في الفضاء العمومي ووظائفه المتعددة خاصة منها الجمالية والمتمثلة في تزيين المدن وقدرته على تنظيم الفضاء وإضفاء مسحة إبداعية على الوسط المحيط سواء أ كان معمارا أو منظرا طبيعيا، ومنها الدلالية من خلال القدرات التعبيرية التي يجسدها الفنان المنفذ في مضامين العناصر البنائية التي تبث معانيها ودلالاتها ورمزيتها للعين المشاهدة وقدرتها في التواصل مع الملايين من فئات مختلفة، لم يخص عنصر الموروث باهتمام كبير في توظيفه في الأعمال النحتية النصبية المشيدة بمناطق الجنوب التونسي، حسب ما لاحظناه من معاينتنا أثناء زياراتنا الميدانية، بخلاف بعض المدن خاصة منها منطقة قفصة المدينة التي شملت العديد من الأعمال الفنية الإبداعية في فضائها الحضري؛ فزيادة على الجدرايات شملت مفترقات طرقاتها العديد من الأعمال النصبية منها ما تضمّن في مواضيعها توظيف عناصر الزخارف التي اشتهرت بها المنطقة في موادها التراثية خاصة منها النسيج، ونذكر منها عمل بدون عنوان من تصميم وانجاز الفنان التشكيلي كمال عمامي" (أنظر من الصورة رقم 01 إلى الصورة رقم 05، وكذلك من الصورة عدد 19 إلى عدد 22). فقد نفّذ العمل بمواد حديدية مهملة تمثلت في قطع من السكك الحديدية كانت تستغل في مناجم الفسفاط التي تميزت بها المنطقة. وعمد هنا الفنان في اختياره للمواد الأكثر صلابة من جهة لتحقيق ديمومة العمل ومن جهة أخرى حاول أن يستعمل مواد من البيئة المحلية في علاقة بموضوع عمله وهو التعريف بخصوصيات المنطقة المحلية. فالمادة المختارة في العمل النحتي تفرض على قارئه أن يضع في عين الاعتبار صفاتها وخصوصياتها التركيبية التي ربّما اكتشف فيها الفنان خاصية عطاء جديدة فسخرها في عمله الفني. واعتمد الفنان في بناء عمله على أسلوب "الاستعادة" (Récupération) من خلال إعادة توظيف مواد صناعية تمثلت في سكك حديدية تمّ التخلي عنها لفقدانها صلوحية استخدامها. واهتدى إليها الفنان ربّما لما اكتشف فيها من طواعية وخصوصيات تعبيرية تتماشى وفكرة موضوع عمله، فأعاد بذلك إحيائها لتقوم بوظيفتها البنائية باعتبارها عنصرا تكوينيا في بناء تركيبي متآلف من عناصر تصويرية استوحى الفنان أشكالها من عناصر واقعية من شكل مكون الشراع في القارب أو السفينة وضعه على مركبة أو تلك العربة المجرورة التي يتمّ استعمالها عادة في السكك الحديدية. ويظهر جانب توظيف عناصر الموروث في العمل في جزء الزخارف، المستوحاة من الرموز المنفذة في القطع النسيجية التي اشتهرت بها المنطقة، قام بتنفيذها في شكل أشرطة داخل فضاء الشراع. (أنظر من الصورة 19 إلى عدد 22) حاول الفنان في تشكيل هذا العمل أن يجمع أهم خصوصيات المنطقة المتمثلة في مناجم الفسفاط والرموز التراثية وخصوصيات المنطقة الصحراوية ترجمها بلغته التشكيلية في عمل نصبي تصويري تآلفت فيه العناصر التكوينية في بناء تشكيلي هندسي متناسقا ومتوازنا بصريّا وهيكليّا في الفضاء المفتوح الذي اختاره الفنان أن يكون خارج المدينة بقليل في مفترق طرق تعتبر رئيسية ورابطة بمناطق مختلفة ليحمل بذلك نواياه في تحديد الموقع أن يكون موجها أكثر لزائر المنطقة في موضع استقبال حتى يمثل العمل في شكل دعاية لما تزخر به المنطقة من خصوصيات حضارية وممارسات إبداعية فنية. فهذا العمل النصبي يرتكز على أبعادا جمالية ورمزية دلالية يمكن للمشاهد استقرائها من عدّة جوانب؛ فمن جانب المواد المستخدمة في النحت النصبي اتّخذ الفنان سكك الحديد المهملة مادة أولية في التشكيل وما ينطوي عليه هذا الفعل من استمرارية البيئة منذ القدم أن تمثّل للفنان مصدر عطاء يستغل من موادها المهملة ليسخّرها مستغلاّ خصوصية طواعيتها في التشكيل ليستطيع تحويلها من مادة مهملة في البيئة إلى عمل فني مارّا بمراحل تشكيلية وتكوينية إنشائية وقوّمها بصفة مقصودة ليخلص إلى صياغة تصويرية تخدم أفكاره من الناحية الفنية التشكيلية والتعبيرية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ القيمة الجمالية للعمل تكمن في كيفية صياغة الفنان أفكاره وتجسيد موضوعها في مواده المختارة ومحاولته في إبراز قيمها الجمالية من خلال إعادة إحيائها بعد التخلي عنها في عملية بنائه التشكيلي. والمشاهد للعمل يمكن أن يلاحظ ارتكاز الفنان على عنصري الشكل والمادة في تكوين البناء الفني، إذ يترائ جليًّا التحام العنصرين فيما بينهما حيث ألّف الفنان بينهما ليصيغ رؤاه التصويرية في أشكال هندسية استمدت وجودها من خلال حركاته النحتية التركيبية وتطويع المادة رغم ما توحي به من صلابة وقساوة، من ناحية وصيغة تصاويرها الإيحائية من خلال تصورات الفنان في التعبير عمّا استلهمه من عناصر الزخارف وما خزنته ذاكرته البصرية من صور ومشاهد تبرز خصوصيات منطقته. وفي الحقيقة إنّ هذين العنصرين هما عماد أي عملية بناء فني عامة والنحت خاصة الذي لا يمكن أن ينشأ ويتواجد دونهما فهما مصدر كينونته وأساس كيانه ووجوده، باعتبار أنّ المادة هي القالب الذي يتقولب به شكل العمل ودورها الفعال في إبراز قيمته الجمالية بما تحمله من دلالات تعبيرية وقيم ملمسية وقراءات فنية. وأخذت المادة في هذا العمل بالإضافة إلى العديد من الأعمال النصبية الأخرى التي تعرّضنا إليها خلال الزيارات الميدانية، دورا آخر زيادة على وظائفها المحورية والموضوعية في تقويم العمل الفني إذ تمثل كذلك مصدر الإيحاء الأساسي تساعد في تجسيد أفكاره الفنية وتصوراته الفكرية والتعبيرية.فالمادة هي التي تفرض على الفنان توخي أساليب فنية وطرق تعبيرية تتماشى وخامتها الطبيعية، إذ كوّن على سبيل المثال كمال عمامي عمله النصبي وألّف بين عناصره البنائية المتمثلة في قطع السكك الحديدية في عمل تصويري، من خلال الاعتماد على تقنية اللحام للربط بينها والتجأ إلى القص وغير ذلك من وسائل تطويع المادة وتشكيلها، ونحا في تجسيد عناصر التراث التي تميزت بها منطقته، إلى إضافة نماذج من رموز تصويرية مقتبسة من المنسوجات القفصية ربّما تمّ نسخها ورسمها تسلسلا بجانب بعضها في مرحلة أولى على مسطحات حديدية على شكل أشرطة ليتنقل في مرحلة ثانية بعد أن اتبع قص محيط أشكال تلك الرسومات إلى إضافتها وسط فراغ شكل مكوّن الشراع في مستويات متوازية أفقيا (أنظر صورة عدد 21). وما لاحظناه تقريبا في أغلب الأعمال النصبية خاصة في منطقة قفصة وفي المناطق المجاورة التابعة لها جغرافيا مثل منطقة لقطار، قد تمّ إتباع نفس هذه الممارسة التشكيلية في توظيف عناصر الموروث إذ يتم في الغالب إضافتها على العمل في مراحل متقدمة من الانجاز أو بعد الانتهاء من تشكيله أو حتى بعد تنصيبه، وتمّ زيادة على ذلك في بعض الأحيان إدخال الإضافة على نصب قديمة مثلما نجده في نصب مدخل قفصة المتمثل في شكل عمود منفذ ملتحمٍ مع معمار الوسط المحيط به تمّ تشييده حسب ما ذكر لنا في زمن التسعينات وقام الفنان سمير سندي وهو عصامي التكوين في سنة 2015 بإضافة نفس رسومات زخارف المنسوجات في طابع تزييني غطّت جوانب العمود النصبي وامتدت على مساحات مختلفة من مدخل المدينة الذي شُّيِدَ النصب في إحدى جوانبه (أنظر من الصورة عدد 23 إلى الصورة عدد 26). ويُلاحظ كذلك فعل الإضافة في النصب المنفذة في منطقة مدنين التي يمكن للمشاهد أن يتأمل في مكوناتها البنائية أنّها شيّدت وأنشئت عبر مراحل متتالية إذ هي على شكل تركيبة من العناصر البنائية ألّفها مصممها في عمل متكامل متكون من أعمدة ذات ارتفاعات مختلفة تربط بينها عنصر بنائي تمثل في مجسم مستوحى من شكل الرداء التقليدي المتداول بالمنطقة وظفه الفنان في الآن نفسه للتعريف بها باعتبارها إحدى العناصر التراثية المادية التي تميزت بها المنطقة من جهة أولى، واستغلّ جانب مرونة القماش وحركيته ليستوحى منه عنصرا تشكيليا وبنائيا يربط بين عناصر العمل من خلال تنفيذه متواصلا بينها، وقام بتغليف كامل العمل بفسيفساء خزفية في ألوان مختلفة، ثم أضاف في مرحلة متقدمة من البناء الفني مجسمات مماثلة لأشكال المصوغ التقليدي في أحجام مكبرة قام بنحتها عن طريق تقنية القوالب، وتمّ تعليقها في جوانب مختلفة في أعلى وأسفل البناء النصبي (أنظر من الصورة عدد 15 إلى الصورة عدد 18).
خلاصة: ولعلّ من أهمّ ما نختم به ما تقدم من هذا التحليل هذا هي دعوة إلى ضرورة الاهتمام أكثر بالعمل النصبي في مناطق الجنوب التونسي، من قبل المعنيين بتنظيم تشييدها من المؤسسات الحكومية والفنانين، باعتباره من الوسائل التعبيرية الفنية التي يمكن تسخيرها لتوظيف عناصر الموروثات المادية التي تزخر بها كلّ منطقة. فالأعمال الفنية خاصة النصب تعدّ بفضل تميزها بخصوصية الديمومة والبقاء وتحديها للزمن من بين الوسائل القادرة على تسجيل تراث أجدادنا وتأكيد الهوية الجماعية في صياغات تشكيلية فنية مرتكزة على أساليب تعبيرية قديمة تقليدية كانت أو الحديثة بمختلف أنواعها. ونشير هنا إلى ما تضفيه الممارسات الفنية المختلفة من توظيفها لمعالم التراث التقليدي من "مفهوم المكان". إذ أنّ ما تشتهر به منطقة معيّنة من تراث بصفة عامة وبصفة خاصة ما تشتهر به من مواد تراثية التي تنطوي على أنماط فنون معينة مثلما التي هي تتعلّق بالممارسات التشكيلية الشعبية سواء النسيج أو صناعة الخزف أو الوشم التقليدي أو العمارة تنتصب اليوم شاهدا على التراث الثقافي لمنطقة ما. وفي مشاهدتها خاصة في زمن الحاضر في فضاءات التعبير المختلفة تعطي للمتلقي وحتى حامل ثقافتها الإحساس بالمكان وذلك لشدة التصاقها بالبيئة التي نشأت فيها وبثقافة حاملها ووجدانه. فالموروثات المادية هي وليدة المكان التي ابتكرت فيه وما وفّرته من ثقافة متساكنيها ومن مواد أولية ومن أيادي صانعة اجتمعت جميعها في رقعة جغرافية محددة لممارسة فنونها وإنشاء وصنع موادها الفنية أصبحت موروثة حين تمّ تناقلها من جيل إلى جيل فترعرعت بذلك في المكان المنشأ نفسه وتواصلت واستمرّت متناسقة مع نسق التطور الحضاري، لتظلّ اليوم معلمًا تراثيا في المكان الذي نشأت وترعرعت بين أحضان أهاليه. لذلك فالموروثات تعطي بدرجة أولى الإحساس بالمكان والانتماء الذي يتمثل في ذلك الارتباط العاطفي الذي يعيشه الفرد أو الجماعة تجاه المكان الذي ينتمي إليه؛ المتكون من أشياء ملموسة وبصرية مثل المباني وأنماط العمارة وأنماط الفنون التقليدية الشعبية مثل قطع النسيج وأشكال الوشم المتداولة أو الأواني الخزفية وأنماط زخارفها، وأشياء غير ملموسة وهي المرتبطة بالعادات والتقاليد والطقوس والمناسبات الاحتفالية وغيرها يتفاعل معها الإنسان محركة مشاعره. مثلما بين ذلك الباحثون معتبرين أنّ الإحساس يتأتى نتيجة التفاعل المتبادل بين التأثر والتأثير بين الطرفين المكان بمكوّناته ومستخدميه وهم متساكنوه الذين جسد من بينهم مبدعوها ما اختزنته ذاكرتهم البصرية من موروثاتهم العناصر التشكيلية التراثية في أعمال فنية جدارية كانت أو نصبية لتظل شاهدا ورمزا لخصوصياتهم المحلية.
الإحالات والمراجع: 1- اعتمدنا في تحليل هذا العنصر في تعريف مفهوم النصب التذكاري وتحديد مقومات وأسس عملية تشييده وإنشائه بما ورد في مقال لأحمد الأحمد بعنوان "النصب التذكاري في حضارة الشعوب"، مجلة جامعة دمشق للعلوم الهندسية، المجلد 21، العدد الأول 2005. نشر بطريقة (PDF). 2- جاء في معجم الوسيط أنّ النصب ما يقام من بناء ذكرى لشخص أو حادثة. 3- يذكر أحمد الأحمد في هذا الصدد أن مبدأ الانسجام أضحى تقليدا وقانونا مقدّسا من قبل الفنانين التشكيليين والمعماريين تواصل تواتره لفترة ما ثم تطورت الفكرة تدريجيا خاصة بعد الحرب العالمية الثانية مع تطور الفكر التشكيلي والتصاميم وخلق أفكار جديدة في إشادة النصب من حيث شكلها إذ أصبحت ترتكز على مبدأ "التضاد" في تشكيل عناصر العمل النصبي عوض البحث عن الانسجام فيما بينها، واعتبر أنّ النحات البولوني كسافيري دونيكوفيسكي (Xawery Dunikowski) من أهم رواد هذه النزعة الجديدة في طريقة التفكير في بناء شكل النصب الذي يذكر ناقدا الأعمال النصبية السابقة وأساليب تنفيذها قائلا:"على امتداد التاريخ الطويل يخطئون الخطأ الكبير نفسه. بالنسبة لهم تبقى مشكلة الانسجام هي الرئيس يريدون أن تكون جميع الأعمال النصبية منسجمة مع العمارة نعم! كل ذلك من أجل أن يبعدوها بصورة نهائية عن النشاط والفعالية...أنا اعتبر فقط دور "التضاد" لكونه يتنافر مع الوسط المحيط. أنا لا اعترف إلا بفعالية من هذا القبيل". وأبدي أحمد الأحمد قبوله بهذا التوجه الحديث في بناء تصاميم النصب التذكارية المبنية على التضاد مقارنة بالأساليب القديمة التي اعتبرها لغة تشكيلية تعتمد على قوانين الانسجام أو الهارموني هيمنت على جميع المظاهر المعمارية والنصبية، وأغلقت في محيطها النظام التخطيطي العام في وحدة متناسبة ومتكاملة. وافترض مقابل قبول التصميم وفق مبدأ التضاد البحث في تحديد مشكلة تنظيم الأعمال الحديثة في الفراغ خاصة في المدن الكبيرة أين تزادا الأمور صعوبة إذ يصعب إيجاد التغييرات في الوسط المحيط، نظرا للموانع العديدة منها تطور المواصلات، والأبنية وكثافة الحركة في الشوارع، لإنشاء النصب بأساليب حديثة التي لابدّ أن تظلّ محافظة رغم تصاميمها المعقدة وكثيرة التراكيب، على دورها في المنظر الطبيعي، وإضفائها في الوسط المحيط بها بعدا جماليا، وأن تكون في الآن نفسه حاملة لمضمون تضاعف من خلاله التأثير على المشاهد. أحمد الأحمد، النصب التذكاري ومكانته في حضارة الشعوب، ص 317. 4- أورد كروتشيه (B. Croce)في هذا الصدد في مقاله أنّه ليس بالإمكان في أي عمل فني تأطير الشكل والمضمون بهدف الفصل بينهما. إذ يعتبر أن من الناحية الفنية كل نتيجة هي تحصيل حاصل للتعامل المشترك بينهما. لذلك يرى أنّه ليس هنالك أعمال فنية يوجد فيها الشكل دون مضمون. وأضاف متسائلا في هذا المجال من الأهم الشكل أم المضمون؟ - ترجمة أحمد الأحمد، النصب التذكاري ومكانته في حضارة الشعوب، المرجع سابق، ص 325. المصدر: B. Croce, Zarys Estetyky, Krakow 1962, S 53-58.
5- كمال عمامي فنان تشكيلي، درس بالمعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة، وترأس جمعية الفنون التشكيلية بقفصة. 6- "الاستعادة" أو "الاسترجاع" (Récupération) أسلوب تعبيري يقوم على إعادة توظيف التقنيات والمواد الصناعية أو إعادة استعمال الفضلات الصناعية (Déchet) في أعمال فنية، قد تمّ اعتمادها من قبل فناني الواقعية الجديدة الذي برز كتيار فني معاصر عرفه رواده بأنه "تصورات استبصارية جديدة للواقع" (Nouvelles approches perspectives du réel) وحاولوا من خلال أعمالهم بث وعيهم بالطبيعة المعاصرة "طبيعة المصنع والمدينة[...]". - Pierre Restany, Manifeste des Nouveaux Réalistes, Ed. Dilecta, Paris, 2007.
7- دأب الفنانون منذ القدم إلى الاستلهام من مكوّنات الطبيعة بأي شكل من الأشكال، واستغلّوا ممّا توفر بها من مواد أولية مهما اختلفت نتاجها وطرزها ومواردها سواء كانت لينة أو خشنة أو صلبة أو معدنية أو لونية... في صياغة أعمالهم. فالرجوع إلى الطبيعة والاستفادة منها أو تحريفها أو دراستها أمر وارد كل يوم في العمل الفني. - عبو فرج، علم عناصر الفن، ج 2، دار الفن للنشر، ايطاليا 1982، ص 579.
I. نماذج الجداريات: 1) جداريات منطقة قفصة: صورة عدد 01: جدارية بمنطقة قفصة المدينة، انجاز سمير سندي صورة عدد 02: جدارية بمنطقة قفصة المدينة، انجاز سمير سندي مصادر الصور: صور شمسية (التقاط شخصي)
صورة عدد 03: جدارية بمنطقة قفصة المدينة من انجاز جمعية الفنون التشكيلية بقفصة بإشراف رئيس الجمعية كمال عمامي
صورة عدد 04 391: جدارية بمنطقة قفصة المدينة من انجاز جمعية الفنون التشكيلية بقفصة بإشراف رئيس الجمعية كمال عمامي صورة عدد 05: جدارية بمنطقة قفصة المدينة مصادر الصور: صور شمسية (التقاط شخصي) 2) جداريات منطقة قابس: صورة عدد 06: جدارية بمنطقة قابس المدينة صورة عدد 07: جزئية للجانب الأيمن للجدارية صورة عدد 08: جزئية للجانب الأيسر للجدارية صورة عدد 09: جزئية لبعض عناصر التشكيل من الجدارية مصادر الصور: صور شمسية (التقاط شخصي)
3) جداريات منطقة جزيرة جربة (قرية الرياض): تعرض الصور التالية نماذج من جداريات، حملت مواضيع الموروث الشعبي،أنجزت بقرية الرياض بجربة في إطار تظاهرة فنية تحت عنوان "جربة هود" الذي تم افتتاحه في شكل معرض مفتوح بتاريخ 20 سبتمبر 2014. ونظم هذه التظاهرة الفنان مهدي بن الشيخ بمشاركة أكثر من مائة فنان من جنسيات مختلفة. صورة عدد 10: من انجاز الفنان باتوي من أسبانيا صورة عدد 11: من انجاز الفنان ماريو بالام من البرتغال مصادر الصور: موقع واب web.facebook.com/djerbahood صورة عدد 12: من انجاز الفنان مالاكاي من المكسيك مصادر الصور: موقع واب web.facebook.com/djerbahood
II. النصب التذكارية: 1) نصب منطقة مدنين: صورة عدد 13: نموذج (1) نصب تذكاري بمنطقة مدينن شُيّد بمفترق الطرقات وسط المدينة
صورة عدد 14: جزئية من النصب تبين جزء توظيف عناصر الموروث من خلال عناصر الأشكال الهندسية المتمثلة في الخطوط وأشكال المثلثات وألوانها المستوحاة من عناصر زخارف المنسوجات التقليدية المتداولة بالمنطقة.
مصادر الصور: صور شمسية (التقاط شخصي)
صورة عدد 15: صورة عدد 16:
صورة عدد 17: صورة عدد 18: جزئيتين من النصب تشمل على بعض العناصر التراثية الموظفة في التصميم والمتمثلة في الرداء التقليدي وعنصر "خلال" و"الخلخال" من عناصر المصوغ التقليدي. مصادر الصور: صور شمسية (التقاط شخصي) 2) نصب منطقة قفصة: صورة عدد 19: نموذج (1) لنصب تذكاري بمنطقة قفصة شيد في مفترق طرقات قرب مدخل المدينة من انجاز كمال عمامي بتقنية "الاسترجاع أو إعادة التركيب "Récupération"
صورة عدد 20: مشهد من الجانب الأيمن للنصب مصادر الصور: صور شمسية (التقاط شخصي) صورة عدد 21: 408: مشهد من الجانب الأيسر للنصب صورة عدد 22: مشهد خلفي للنصب مصادر الصور: صور شمسية (التقاط شخصي) صورة عدد 23: نموذج (2) من نصب تذكاري
- شيد النصب في التسعينات في شكل عمود ومدخل بمدخل مدينة قفصة وتمّ تغليفه برسومات زخرفية مستوحاة من عناصر الزخرفة الهندسية والتصويرية المنفذة في "الكليم" و"المرڨ-;-وم" التي اشتهرت بها من المنطقة من قبل سمير سندي بين سنة 2014 و2015.
صورة عدد 24: جزئية من النصب للعمود الأيسر المكون للمدخل
مصادر الصور: صور شمسية (التقاط شخصي) صورة عدد 25: جزئية من النصب صورة عدد 26: جزئية من النصب للعمود الأيسر المكون للمدخل للعمود الأيمن المكوّن للمدخل صورة عدد 27: نموذج (3) صورة عدد 28: جزئية من النصب لنصب تذكاري بمنطقة قفصة
مصادر الصور: صور شمسية (التقاط شخصي)
صورة عدد 29: مشهد خلفي للنصب صورة عدد 30: جزئية من المشهد خلفي للنصب صورة عدد 31:
مصادر الصور: صور شمسية (التقاط شخصي) صورة عدد 32: جزئية من مشهد المعمار مقتطفة من الصورة عدد 31. مصادر الصور: صور شمسية (التقاط شخصي)
#ياسين_بن_علي_قاسمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زاعما سرقة فكرته.. المخرج المصري البنداري يحذر من التعامل مع
...
-
جرأة محفوفة بالمخاطر.. شهادات علنية لضحايا اعتداء جنسي تتحدى
...
-
الفرانكو- جزائري يخرج عن صمته ويعلق بشأن -فضيحة حوريات-
-
نافذة جديدة على العالم.. مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة ا
...
-
شون بين يتحدث في مراكش عن قناعاته وتجربته في السينما
-
تكريم مؤثر للفنانة المغربية الراحلة نعيمة المشرقي في مهرجان
...
-
بوتين يتذكر مناسبة مع شرودر ويعلق على رجل أعمال ألماني سأله
...
-
على طريقة أفلام الأكشن.. فرار 9 سجناء من مركز اعتقال في نيس
...
-
-الجائزة الكبرى للشعر الأجنبي- في فرنسا لنجوان درويش
-
الخنجر.. فيلم من إنتاج RT يعرض في مسقط
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|