|
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 44
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 5104 - 2016 / 3 / 15 - 12:19
المحور:
الادب والفن
4 – أبعاد الفكرة الأساسية للمسرحية
تختفي خلف التجريدية العالية جدًا للمسرحية رمزية معقدة سنحاول توضيحها. يرجع سبب وجود المحاكمة إلى "الشيء"، كان من وراء قصة القتل، وكان للرمزية محور ارتكازها. ما هي والحالة هذه أهمية الشيء؟ لماذا يريد الكل امتلاكه؟ يلعب الشيء دورين، دور الأداة ودور القبعة في وقت واحد. لإثبات الدور الأول يقول الشيء: "إنهم يتكلمون من خلالي معك" (ص 53)، "إننا نُزرع" (ص 53)، "إننا لا نتألم ولا نموت" (ص 54). مما يؤكد أن الشيء هو لسان حال السلطة وأداة دعايتها مثلما هو أداة قمعها، لا رأي خاص يبديه، وأفكاره هي الأفكار المزروعة في رأسه. هو أيضًا مزروع، يُولِدُ خالقوه الآلاف من نوعه بهذه الطريقة. مجرد من الألم، لأنه مجرد من الإنسانية، وهو لا يموت كسائر البشر، لأنه ليس بشرًا. مع ذلك، قيمته استهلاكية: "إنه شيء ثمين!" (ص 57) باعتباره بضاعة تباع بمبالغ باهظة: "إذا عرضناه للبيع فقد يدفعون خمسة آلاف ليرة ثمنًا له." (ص 57) معنى ذلك أنه يعود بالنفع على النظام المتسلط، ويعمل على بقائه، فمعه يمكن امتلاك "كل شيء... كل شيء على الإطلاق." (ص 53) أما كونه يقوم بدور القبعة، فلهذا دلالات ومعانٍ عميقة. بلا علمه يقوم بهذا الدور، لا يفعل ما يجب عليه فعله، ويكون استغلاله في صالح غيره، أهل الحل والربط، أو في طالح غيره، الناس، عندما يتكلم الشيء عن صديقه الذي سقط في مكان ما يقول: "الشيء: ربما سقط على غرفة السيدة، ووجدته أمها في الصباح، فغسلته وكوته وجعلته قبعة! المتهم: ها أنت تتحدث عنه كأنه قبعة فعلاً! الشيء: قبعة أو نبي. أنت لا تعرف كم يجعل الناس منهما شيئين متشابهين. إن أكثر الناس يفضل أن يضع النبي على رأسه من الخارج، مثل القبعة، مثل يافطة ضخمة ملونة مضيئة على واجهة دكان فارغ!" (ص 60- ص 61) يتطابق هنا الشيء مع القبعة مع النبي، والرمز هو الادعاء بالعلم، بالمعرفة، بالنبوة، وكل هذا كذب، لأن أولئك الذين يوهمون الناس بأنهم يعرفون العالم أكثر من غيرهم، وأنهم قادرون على استباق الأحداث واقتياد المستقبل ما هم سوى أولئك الذين يدفعونهم إلى وضع النبوة على رؤوسهم كيافطة ملونة على واجهة دكان فارغة (الشكل جميل والرأس فارغ)، ما هم سوى أولئك الذين يكرسون إيديولوجيتهم من أجل خداع العالم. هنا ينطلق الرمز الأبعد للقبعة-النبي المتجسدة بصورة القبعة-الإيديولوجيا. ويشكل أصحاب هذه الإيديولوجية السلطوية بدعامتيها: السلطة العالمية المتمثلة برقم1، والسلطة العربية المتمثلة برقم2. نبيان كاذبان كما سنرى: "...أنتم الذين تتواطأون على خداع تلك السيدة وخداع العالم كله. كنتم تريدون من كل النساء وكل الرجال الذين شاهدوا حماتي أن يسقطوا ضحية تلك الخدعة القذرة، فيقولون كلما مروا بها: ما أجمل قبعة تلك السيدة!" (ص 68) هنا تنكشف حقيقة القبعة-المظهر، القبعة-التمدن، القبعة-الحضارة، أو القبعة-التخلف، القبعة-الانحطاط، القبعة التدين خاصةً التي تنطوي على الخداع. إن الحاكِمَيْن، أي السلطة الغربية والسلطة العربية، يحاولان خداع البشرية جمعاء كأداة مشبعة بفكرهما ومنطقهما. وبالمقابل، لدينا الإيديولوجيا التي يرمز إليها فكر المتهم وتصوره للعالم. إنه يرفض القبعة-الخداع نسيج نماذج مقررة سلفًا: "...أما أنا فكنت أريدهم هم أن يقولوا: ما أجمل قبعة السيدة، حين تكون قبعة حقيقية." (ص 68) إنه التنسيق بين المكونات، النبي الحقيقي الذي يسعى في طلب إيديولوجية حقيقية، وفي السياق الذي نحن فيه الفلسطيني المتمرد حتى هذه المرحلة. بناء على ذلك، إذا كان الشيء أداة، فهو أداة لتطبيق الإيديولوجية السلطوية التي شيأت الإنسان بالاضطهاد، ويمثل الشيء هنا اليهودي المشيأ، وفي الوقت نفسه الفلسطيني المشيأ: الأول أداة في يد الغرب (الشرطي وساعي البريد أيضًا) والثاني أداة في يد العرب (السيدة وأم السيدة أيضًا).
5 – العَلاقات بين الشخصيات
مسرحية القبعة والنبي ككل مسرحية عبارة عن نظام من الحِوارات، لكن شخصياتها –لا ككل مسرحية- عبارة عن كودات يعمل كنفاني على فكها، فتفوق في قيمتها ما تنطق، أي أن الشخصيات أهم من الحِوارات، ويتوقف ما تنطق به الواحدة على ما تنطق به الأخرى، أي أن العَلاقات التي تجمعها عَلاقات وثيقة، وهي عَلاقات ذات نوعين، بين شخصيتين أو أكثر، وبين الشخصيات كلها، وفي هذه الحالة لا بد من شخصية تكون محورًا، ألا وهي "الشيء"، والشيء كشخصية لا يمكن تحديده إلا في عَلاقاته بباقي الشخصيات، وما سنفعله حصر هذه العلاقات في ثلاث: المحاكمة، المنافسة، المشاركة. المحاكمة: حادث ثابت، تؤكده كعلاقة كل الشخصيات، وَكَحُكْم للضمير نجده أكثر ما نجده عند الرقمين 1 و 2 الحاكم الأول والحاكم الثاني. المنافسة: أكثر وضوحًا من المحاكمة، وهي تدور كعلاقة بين كل الشخصيات حول الشيء، الذي تتنافس في خَلْقِهِ أسباب عديدة، والمنافسة تكون علنًا، فيها مكر ودهاء وتآمر، كل هذا يبرر للمنافسة كعلاقة اتفقت عليها الشخصيات دون أن تتفق، لهذا جمعت المنافسة في كل المسرحية أبطالها اثنين اثنين المتهم والسيدة المتهم وأم السيدة المتهم وساعي البريد وحتى المتهم والشيء أو ثلاثة ثلاثة المتهم والرقمين 1 و 2 أو المتهم والسيدة وأم السيدة أو أكثر من ثلاثة المحافل والمختبرات والشركات في العالم. المشاركة: كعلاقة في الرأي وفي الهَمّ وفي الوهم، رأي الرقمين 1 و 2 تحت مفهوم الإفحام بالحجج، هّمّ المتهم والشيء تحت مفهوم حرث أرض الجد الجرداء وبناء جنة، وَهْم السيدة وأمها تحت مفهوم شد النفس إلى أوهام. كل شخصية تشارك الأخرى فيما يشغلها. هذه العلاقة هي المهيمنة، دونها لن تكون هناك محاكمة ولا منافسة. من هذه العلاقات الثلاث يتشكل الموديل المسرحي لدى غسان، كعلاقات إنسانية رغم عدم إنسانية الرقمين 1 و 2، ورغم كون الشيء شيئًا، ولا حاجة لنا إلى تصنيف الشخصيات كنماذج خدمة للتحليل، لأنها مصنفة منذ البداية، كل واحدة منها كود قائم بذاته، ولأنها قليلة في عددها، لكل واحدة منها دور أساسي في بناء المسرحية.
ختامًا نقول: 1 – تُبرز المسرحية حالة الإنسان الفلسطيني وحالة الإنسان اليهودي دون أن تسميهما، وتحاول إيجاد حل إنساني لمسألتيهما، مما يجعل منها مسرحية الإنسان. 2 – تعقيد المسرحية بسبب رمزيتها وتجريديتها نتيجة طبيعية للحظة التاريخية المعقدة التي عرفتها مرحلة التمرد. 3 – تلجأ المسرحية إلى الخيال العلمي لأول مرة في الأدب الفلسطيني كوسيلة لحل تلك اللحظة التاريخية المعقدة، وَتُذَكِّر في الوقت نفسه بفيلم ستيفن سبيلبيرغ "إي تي" كأنه نقل عن كنفاني أفكاره. 4 – تعرض المسرحية منذ عقود ما يدور اليوم من صراع إيديولوجي الدين محوره، لو قرأها الناس أو شاهدوها لما وقعت المعارك بيننا، ولكانت الحقيقة التاريخية شيئًا آخر. 5 – ليس ضروريًا أن يكتب غسان كنفاني مسرحية أو أكثر ليصبح كاتبًا مسرحيًا، فقد ساهمت قصصه ورواياته مساهمة كبيرة في إثبات مقدرته على ذلك، سنولي هذه المقدرة عناية فائقة، وسنحلل وجه الكاتب هذا من بين وجوه أخرى في قسمنا الثالث.
يتبع القسم الثالث أشكال ومراحل إعداد جمال غسان كنفاني
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 43
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 42
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 41
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 40
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 39
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 38
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 37
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 36
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 35
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 34
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 33
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 31
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 30
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 29
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 28
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 27
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 26
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 25
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 24
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 23
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|