أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - حوار مع الناقد والمفكر العراقي عبدالحسين شعبان















المزيد.....



حوار مع الناقد والمفكر العراقي عبدالحسين شعبان


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 1383 - 2005 / 11 / 19 - 15:31
المحور: مقابلات و حوارات
    


حوار في صنعاءاجراه عبد الباري طاهر*


انه الإنسان ،

إنسان بسيط وعميق تجلس إليه فتحس لغة مديدة لقرون متطاولة "القلوب جنود مجندّة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف".

وتسمع إليه فتستشعر عمق "وفيك انطوى العالم الأكبر"... تحار أيهما يتفوق: تواضعه أم علمه؟ ولكنه تواضع العالم "...من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً"

فهو رفيق درب لهادي العلوي وأبو قاطع وبلند الحيدري ومظفر النواب والجواهري وناظم حكمت وعبدالرحمن منيف وسعدي يوسف ومحمود امين العالم وحسين مرّوة وحيدر إبراهيم والعروي والمرزوقي. انتماؤه لليسار لم يحجب عن بصره ما أصاب تياراته الفلسفية والفكرية والأدبية من مظاهر الدوغما والعصبيات الايديولوجيه والجمود والممارسات القامعة.

انه أديب وناقد وقد استفاد من تعدد مواهبه ومن القراءات الدائمة والمستمرة لتيارات الحداثة والتجديد، فإتخذ المنهج النقدي سبيلا لتقويم الاشياء.

وبعد كل ذلك فهو مفكر غزير الإنتاج والعطاء ومثقف عضوي بحق، فمن النضال في صفوف اليسار العلمي إلى مدافع عن حقوق الإنسان، وقد ترك ثروة عميقة وزاهية، ورفد المكتبة العربية بالكثير من المؤلفات والاضافات، وسجل مواقف خالدة في الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الديموقراطية، عن الصعيد العربي والعالمي.

ولمفكرنا الدكتور شعبان نسب في اليمن (قحطاني الاصول لبطن من بطون حمْير) وقد درس في النجف وبغداد وتخرج من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية "بغداد" واستكمل دراسته في براغ "الماجستير والدكتوراه".

حائز على وسام وجائزة ابرز مناضل في حقوق الإنسان للعام 2003 وللعالم الجليل عشرات الإصدارات ومئات الأبحاث بالعمق والحصافة والموضوعية، فهو باحث عن الحقيقية ومنحاز لقضايا الإنسان والعدالة والديموقراطية وقد ألتقيته في صنعاء وأجريت معه هذا اللقاء.


نص الحوار مع الناقد والمفكر العراقي عبدالحسين شعبان


بماذا تفسرون شيوع التطرف العقائدي وبخاصة الديني في العقود الأخيرة من القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة؟

هناك أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لشيوع ظاهرة التطرف وبخاصة الديني، فالمسألة ليست محصورة بالعالم العربي والإسلامي، بل إنها جزء من ظاهرة كونية، مثلما هو الإصلاح حالياً سيرورة كونية، لا يمكن لأحد إعفاء نفسه منها أو الزوغان عنها.

التطرف والتعصب وإقصاء الآخر وادعاء امتلاك الحقيقة والأفضليات كلها ظواهر ذات سمة عالمية وجدت طريقها إلى أمريكا اللاتينية، لذلك جرى الحديث عن "لاهوت التحرير" منذ وقت مبكر، وكذلك إلى الولايات المتحدة وأوروبا حيث نشطت الاتجاهات الدينية اليمينية الاستئصالية، والأمر لا يقتصر على ذلك حسب، بل سبقه منذ مدة طويلة، حيث كانت هناك ادعاءات ومسوغات دينية ونظرية تستند في غالبيتها الساحقة على "الدين اليهودي" و"الحق التاريخي" بأرض الله الموعودة في "فلسطين".




الصلة الغيبية بالخالق (هي) التي أعطت "الحق" للرئيس جورج دبليو بوش والاتجاهات المسيحية المتطرفة من خلفه وكانت إحدى مبررات ومسوغات احتلال أفغانستان والعراق بحجة مكافحة الإرهاب الدولي بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة.

لعل منظمات متطرفة وإرهابية مثل الهاغانا التي شكلت النواة الأساسية لجيش الدفاع الإسرائيلي فيما بعد كانت قد قامت بمجازر بحق الشعب العربي الفلسطيني لاقتلاعه من أرضه وإجلائه، وقد كانت مجزرة "دير ياسين" بعد قيام إسرائيل ومجزرة كفر قاسم عام 1956م من المجازر الكبرى التي عرفها القرن العشرين، إضافة إلى مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982م إثر غزو لبنان واحتلال أراضيه.

إن قيام إسرائيل عام 1948م جلب معه إلى المنطقة العربية الإرهاب والتطرف الديني، وتياراً مثل الذي قاده الحاخام كاهانا الذي كان يدعو جهاراً نهاراً لقتل العرب، هو عنصر أساس في استراتيجية رسمية وغير رسمية، تملك الركائز القوية, التي أسست للتطرف وبررت أعمال إلغاء الآخر سواء حروب مستمرة ومتواصلة وعدوان واستحواذ على الأراضي والسعي للحصول على مكاسب سياسية، أو من خلال أعمال إرهاب حكومية وغير حكومية ضد حقوق الإنسان الفلسطيني والعربي .

وكي تكتمل الصورة وانسجاماً مع سؤالك، فلا بد من الاعتراف بوجود وتعاظم التطرف في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فهناك تيارات من الإسلام السياسي متعصبة ومتطرفة وشديدة الغلو، ولا تؤمن بحق الآخر ولا تحترم إرادة الغير، فالآخر أو الغير بالنسبة لها هو أجنبي وكل أجنبي غريب وكل غريب مريب.

تيارات الإسلام السياسي أو ما يمكن أن أطلق عليه "الإسلامويين" تحاول تكييف وتوظيف تعاليم الدين الحنيف إلى ما يخدم توجهاتكم الفكرية والسياسية، فهم تحت باب "الجهاد" أحياناً يدعون لقتل المشركين جميعاً دون الأخذ بنظر الاعتبار السياق التاريخي الذي قيلت فيه تلك الآية.. وفي الغالب فإنهم يستندون إلى آيات السيف ويبعدون آيات الإسماح، بما يؤدي إلى نشر الضغائن والكراهية ويشجع على الكيدية والاحقاد.

هذا هو موقفهم من "المرتد" أيضاً، وغالباً ما يلجأون إلى إنزال العقاب بما فيه الموت أو القتل، دون محاكمة وخارج القضاء، بل ويعطون لأنفسهم "حق التشريع"، ثم الحق في إصدار الحكم (القضاء) والحق في التنفيذ دون أن يعطيهم أحد مثل هذا الحق ودون أن يفوضهم الله أو كتابه..

كذلك الموقف من أهل الذمة وعلاقة ذلك بمبدأ المساواة في الدولة العصرية الدستورية والموقف من حقوق الإنسان، والأمر له صلة أيضاً بدفع الجزية وكذلك الموقف من المرأة وحقوقها والموقف من قضايا الأقليات والتقدم الاجتماعي.. إن هذه القضايا بحاجة إلى قراءة عصرية جديدة تستجيب للتطور والتقدم ولروح العصر من جهة والإسلام وتعاليمه السمحاء من جهة أخرى.

أما التقوقع والانغلاق فإنه سيؤدي إلى تحويل الدين من تعاليم ذات أبعاد إنسانية، بما فيها المعاملات والعبادات إلى مجرد تعاويذ أو أدعية مفصولة من الحياة.. التعاليم الإسلامية سواءً الهابطة من السماء أو التي يمكن استنباطها من خلال المعرفة البشرية وتراكمها باستخدام "العقل" الذي هو هبة "ربانية"، هي التي ظلت محجوبة من خلال أطروحات ودعاوى الإسلامويين الذين حولوها إلى يقينيات جامدة لا علاقة لها بالعصر وسماته المتجددة والمتطورة.

إن ذلك حسب تقديري نوع من "الإسلامولوجيا" أي استخدام تعاليم الإسلام ضد روح وجوهر الإسلام وكينونته العقلية البشرية، بما يسيء إلى تعاليم الدين الحنيف.

الوجه الآخر "للإسلامولوجيا" هو "الإسلاموفوبيا" أي كراهية الإسلام أو الرهاب من الإسلام، وهو الوتر الذي حاول أن يعزف عليه المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في نظرية "نهاية التاريخ.." التي أخذ الترويج لها في نهاية الثمانينات والتي استكملها في كتاب صدر له في العالم 1993م، حيث ركز فيه على الخطر الجديد الداهم "للعالم المابعد تاريخي" الذي لا يمكن الدخول فيه دون نزع الأيدويولوجيا، بما فيها الإسلام للالتحاق بركب التقدم والحضارة الجديدة للبشرية، التي يكمن جوهرها في سيادة نمط الليبرالية نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحيداً على المستوى الدولي.

الخطر أو التحدي الكبير الذي تحدث عنه فوكوياما سوف يأتي عبر النفط واللاجئين من دول الجنوب الفقير إلى دول الشمال الغني والإرهاب الدولي، وهو ما دعا مفكر أمريكي آخر هو صموئيل هنتنغتون ليكون أكثر وضوحاً وصراحة، عندما تحدث عن "صدام الحضارات" معتبراً الإسلام الخطر الحقيقي "الراهن"، وهو الاتجاه الذي دعا المثقفين الأمريكان الستين عقب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001م إلى التنديد بظاهرة التطرف الإسلامي في بيان صدر لهم وكأنه "بلاغ حربي" وليس "بيان ثقافي" حتى وإن دعا إلى الحوار.

أعود إلى سؤالك فأقول إن من أسباب شيوع التطرف هو نكوص التيارات الفكرية والثقافية الحداثوية، سواءً كانت يسارية اشتراكية أو قومية أو ليبرالية، بل استقالتها أحياناً عن دورها وتحول بعضها إلى نخب معزولة، في حين توجهت التيارات الإسلامية أو الإسلاموية إلى الشارع واستحوذت عليه وقدمت له "خدمات" وأطروحات تتعلق بأوضاعه الاقتصادية والاجتماعية التي هي في غاية السوء.

إن تدهور وضعف الدور التنويري للحركات والتيارات التقدمية، وتحويل الأفكار إلى معلبات ونصوص مقدسة أقرب إلى اللاهوت، وعدم إعمال العقل ودراسة الظواهر الجديدة والمستجدات والمتغيرات الكثيرة وازدراء دور المثقفين واعتبارهم مجرد تابعين للسياسيين، إضافة إلى الاتكالية الفكرية هو أحد الأسباب في شيوع وتفشي ظاهرة التطرف والانشداد إلى الخلف والعودة إلى الغيبيات خصوصاً بوصول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى طريق مسدود.

النظرية التي جرت "قولبتها" هي مرشد للعمل وأداة للتحليل وليست نصوصاً جاهزة أو مقدسة تصلح لكل زمان ومكان، وكأنه لا يأتيها الباطل لا من أمامها ولا من خلفها.. فديناميكيتها وديالكتيكيتها تقتضي إعادة النظر بالعديد من أركانها وجوانبها التي لم تعد صالحة للحياة، واعتبارها أداة تحليل ومنهج عمل بما يستجيب للتطور العالمي وفي كل بلد، وليس باعتبارها "معبداً" أو "محراباً" نتضرع فيه لتحسين أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية وتشفي به أمراضنا وتسد به جوعنا. وقد كان انجلز يعتقد بضروة اجراء تغيير في الاستراتيجية والافكار عند كل اكتشاف علمي جديد بما فيه في الصناعة الحربية ، فذلك حسب نظره كفيل بإعادة النظر بالكثير من المنطلقات ، ولمواكبة روح العصر والمتغيرات.

الثنائية سمة عامة في الفكر الإنساني، وهي أكثر صراحة وجلاءً في التفكير العربي، بينما يلاحظ غيابها في الفكر الصوفي وحكمة الشرق وتحديداً في البوذية، فإلى ماذا يعود ذلك؟

التفكير التبسيطي يميل إلى الثنائية وهو لا ينظر إلى الظاهرة المعقدة من جوانبها المختلفة وذلك للاستكانة وعدم إعمال الفكر، فهناك يقينيات وعلى أساسها يتخذ الموقف : الليل والنهار، الخير والشر، الحرب والسلام، وهكذا، ويتفرع عن ذلك مواقف جاهزة دون الغوص بأبعاد الظاهرة المعقدة، التي تتداخل وتتفاعل وتتواصل فيها المعطيات والقضايا لذلك فإن التفكير التركيبي وليس التبسيطي، الثنوي هو الذي يمكن أن يحلل ويستنبط الأبعاد المركبة للظاهرة دون الوقوع في المواقف الجاهزة التبسيطية التي لا تعطي أحياناً الموقف الفلسفي الحقيقي جوهره ومداه.

في الفكر الصوفي كان التماهي بين "الأنا" وبين "الله"، لدرجة -أحياناً ومن خلال التجليات- لا تجد ما يفصل بينهما، فحب الله هو الحب الذي يوحد الإنسان في عرش الجلالة ليذوب فيه تعبيراً عن الصفاء والنقاء واللانهائية. كان شيخ الصوفيين الحلاج يهيم على وجهه ويصيح "اقتلوني فتؤجروا وأستريح" في رغبة لمعانقة الله لينال السعادة الأبدية. وكان محي الدين بن عربي يقول : الأسفار ثلاثة : سفر من عنده ،وسفر إليه وسفر فيه ،وهذا السفر هو سفر التيه والحيرة وسفر التيه لا غاية له !!

الفلسفة الصينية "التاوية" كانت تدعو الإنسان للتحرر من الخساسات الثلاث على حد تعبيرها: السلطة والمال والجنس، وذلك للتماهي مع روح الحق والأبدية، وهكذا تجد في حكمة الشرق الكثير من المتناظرات أو المتقابلات، وهي تعبير عن التواصل الحضاري الإنساني.. وهو ما دعا المفكر والباحث التراثي هادي العلوي لأن يطلق صفة "المثقف الكوني" على المثقف الذي يترفّع عن الخساسات الثلاث ،استنادا الى الفلسفة التاوية والفلسفة الصوفية في محاولة لمزاوجة ذلك بماركسية "عذرية" كما كان يتخيلها ويدعو لها!!

لقد أخذت الفلسفة العربية الإسلامية الكثير من الفلسفة اليونانية واستطاعت تبيئتها وتكييفها وتطويرها سواءً أفكار سقراط الذي يخاطب البشر بالقول: "أعرف أنك لا تعرف" أو أفلاطون في جمهوريته المثالية والتي كان امتدادها مدينة الفارابي الفاضلة أو أرسطو، وهنا يمكن التوقف عند ابن رشد وابن سينا والكندي وصولاً إلى ابن خلدون.

البوذية حين دعت للتسامح واعتمدت البعد الفلسفي الإنساني، إنما كانت تعبر عن قيم ومثل ومنظومة أفكار، وأحسن شاعر الهند الكبير طاغور حين عبر عنها بذات الروح الإنسانية، ولعلي لا أجد تعبيراً أكثر عمقاً ودلالة من تعبير زعيم الهند العظيم غاندي حين قال: قد لا أحب التسامح، لكنني لا أجد شيئاً أفضل منه.. وهكذا كان يقول فولتير: كلنا بشرٌ هشون وقابلون للخطأ.. ولذلك اقتضى الأمر أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح.. وهو ما عبر عنه قبل ذلك الإمام الشافعي بالقول: رأي صواب ولكنه يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب.. !

وقد دفعت البشرية ملايين الضحايا وما تزال حتى توصلت إلى إقرار مبدأ التسامح في ميثاق الأمم المتحدة الذي يقول: "نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح..." وهو ما طوره ميثاق اليونسكو وإعلان يوم التسامح العالمي 15 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام منذ العام 1995م.

وحسب اليونيسكو فأن الحرب تولد في العقول كما يصنع السلام في العقول، ولذلك اقتضى الامر بذل المزيد من الجهد لتربية الانسان بروح التسامح باعتباره قيمة عليا اخلاقية ومبدأ حقوقيا كيما يأخذ طريقه الى القانون، ليصبح قاعدة واجبة الاحترام بتأكيد الاعتراف بالاخر وحقوقه.

التفكير التركيبي هو الذي يجعل المرء أكثر حرية في الاختيار وفي التحليل وصولاً للحقيقة من خلال البحث والتقصي وليس عبر تبسيطية جاهزة: الأسود والأبيض، الوطني والخائن، التقدمي والرجعي، مع الاحتلال ضد الاحتلال، مع الحصار ضد الحصار، مع الدكتاتورية ضد الدكتاتورية، مع الإصلاح ضد الإصلاح.. وهكذا !!

تشهد الثقافية العربية والفكر بروافده: الإسلامي والقومي والماركسي ميلاً واضحاً للتجديد والحوار، ويجري ذلك بعيداً عن نقد الماضي، وتقديم قراءة جديدة ومختلفة للماضي الشمولي لتجارب هذه التيارات.. ألا يعني ذلك بقاء الحبل السري والارتهان للماضي؟

الرغبة في التجديد شيء والسير في دروبه رغم الوعورة والمعاناة شيء آخر، ولا يمكن الحديث عن التجديد دون نقد الماضي، ونقد الماضي ليس نقد سلبياته حسب، بل تقويم إيجابيته، أي ما له وما عليه، لا بد لنا من رفع درجة الاستحقاق بأهمية القراءة النقدية للتجربة التاريخية والاستعداد لنقد الذات وتحمل المسؤوليات.

أيصّح لمن جلب الهزائم والنكسات البقاء في مواقعه رغم الاخطاء والانكسارات أم لا بد من التنحي عن مواقعه وافساح المجال للجديد وبخاصة لجيل الشباب الذي ينبغي أن يتحمل المسؤولية. لعل الكثير من القيادات هرمت وتجاوزها الزمن وبقاؤها يشكل عائقا أمام التطور وعليها أن تعترف بذلك وان كانت قد قامت بادوار ايجابية في الماضي.

وعلينا الاعتراف علناً بأخطائنا ونبذ الأطروحات ذات البعد الشمولي خصوصاً وأن تياراتنا نشأت في رحم الفكر الشمولي الواحدي الإطلاقي كسياق تاريخي ليس على المستوى العربي حسب، بل على الصعيد العالمي.. ولذلك اقتضى الأمر تقديم كشف حساب من خلال الشفافية والمصارحة، تمهيداً للمصالحة مع الذات ومع الآخر. التشبث بالمواقع تحت اي ذرائع او حجج لا يعني سوى المكابرة، والمكابرة تقود الى الانتحار البطيء وتدفع الجمهور الى اليأس والاحباط والقنوط ، فالتجديد سمة انسانية بيولوجية للبشر وللافكار ولاشكال العمل والتنظيم.

الخطوة الأولى اذن هي المراجعة والنقد، وبتقديري فانها خطوة لا غنى عنها للبحث عن الحقيقة ولتلمّس سبل التجديد وتجاوز الاخطاء والثغرات والعيوب. أما الخطوة الثانية فهي تكمن في فتح حوار جاد مسؤول وموضوعي حول الماضي بما فيه من إيجابيات وهي ليست قليلة وبما عليه من سلبيات وهي كثيرة وصارخة .

الخطوة الثالثة تتطلب إعادة دراسة الواقع بعين مفتوحة ودون تصورات أو قوالب جاهزة، لا بد من التخلص من سرير بروكست، فصخرة الواقع هي الأساس وليس صومعة النظرية، ولعل القول الأثير الذي كان يستشهد به لينين كثيراً "النظرية رمادية أما شجرة الحياة فتظل خضراء أبداً" هو الذي ينبغي أن يحكم سلوكنا وتصرفنا وتقييمنا للأمور، وللأسف فقد ابتعدنا كثيراً، وتعبدنا في محراب النظرية وتركنا الواقع بكل ما يزخر به من حياة وتغييرات وتطورات..

أريد هنا أن أقول أننا كماركسيين وقوميين وإسلاميين قدمنا النصوص على الواقع، ولم نقم بدراسة معمقة لواقعنا الاقتصادي والاجتماعي وتاريخنا وتراثنا. لقد عرفنا آدم سميث وماركس وتروتسكي وماوتسي تونغ وآلتوسير وغرامشي وبريغنستون وسارتر وكولن ويلسون وسيمون دي بوفوار وميشيل فوكو، أكثر مما نعرف ابن خلدون أو المصلحين الكبار في القرن التاسع عشر وما بعده ولم نقرأ شبلي شميل وسلامة موسى وقاسم أمين أو قبلهم جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده والكواكبي والتونسي والنائيني والطهطاوي وفرح أنطون وغيرهم.

حفظنا عن ظهر قلب البيان الشيوعي وحملنا معنا راس المال وفي الغالب دون أن نفهمه وتحدثنا طويلا عن الاممية الأولى والثانية والثانية والنصف (اممية فينا) والاممية الثالثة ومؤتمرات الكومنترن ولم نتعرف بعمق على القرآن الكريم والسنّة النبوية وحلف الفضول ودستور المدينة والعهدة العمرية ورسالة الحقوق لعلي بن زين العابدين ولم نتوغل في معرفة الفارابي وابن رشد وابن سينا واضرابهم ، تلك الاضاءات التي رفدنا بها الفكر الانساني والتي تشكل اساس تلاحمنا مع الحضارة البشرية.

بدون النقد والمراجعة والقراءة الاستعادية للماضي وإخضاعه لسياقه التاريخي لا يمكن أن نخلق نقلة حقيقية للتقدم او أساسا عميقا للتطور، وهذا لا بد أن يقترن بخطوة أساسية وجوهرية تتعلق بالموقف من الآخر وقبول قواعد اللعبة الديمقراطية والتطور التدريجي والسلمي، فبدون التراكم الحقيقي لا يمكن إحداث تطور بالقوة أو عبر وسائل قسرية، وقد ارتدّت تجارب عالمية وعربية إلى الوراء وانهارت لأنها كانت قائمة على الإكراه وغياب الديمقراطية والمأسسة وتجاهل مبادىء التداولية والتناوبية والمساواة والمواطنة وسيادة القانون، في حين كان الاتجاه السائد هو إعطاء النفس أحقية التفرد أو التفوق أو الاستئثار طبقاً لنظرية الحق الإلهي حسب الإسلامويين أو الحق في استعادة فلسطين وتحرير الأرض والإنسان وإقامة الوحدة العربية حسب القوميين أو مصالح الطبقة العاملة والكادحين استناداً إلى تبريرات الماركسيين والشيوعيين، وفي المحصلة ضاعت وتبددت تضحيات جسام، ناهيكم عن فرص التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان وتم عسكرة البلاد والعباد احيانا بحجة "الخطر الخارجي" الذي يدق على الأبواب، ولكن كانت امتيازات الحكام أو المسئولين ومصالحهم فوق كل اعتبار.

إن قطع الصلة بالماضي لا يعني التنصل عنه أوازدراءه أو التبرؤ منه، فهو جزء منا ولا يمكن دفنه..... أو إخفاء رأسنا في الرمال مثلما تفعل النعامة، بل للاستفادة من الدروس والعبر التاريخية ونبذ ما هو خاطئ وضار ولا يستجيب للتطور سواء على الصعيد النظري أو العملي والممارساتي.

كأديب كبير وناقد ما هي رؤيتكم للاتجاهات الحداثية وبالأخص في الشعر؟

أبدأ بما قاله الشاعر الأمريكي اللاتيني الكبير أكتوفيوباث الحائز على جائزة نوبل: إذا خلا رأس السياسي من الشعر تحول إلى طاغية وأقول إذا كان السياسيون بلا ثقافة فتلك مصيبة كبيرة، ليس فقط لأنهم سيكونون غلاظ القلوب فحسب، بل لأنهم لا يستطيعون أن يقدموا قراءة صحيحة لمسار مجتمعاتهم فضلا عن وضع الحلول والمعالجات للمشاكل والقضايا التي تحتاج إلى جهد كبير خصوصاً في ظل "العولمة" بما لها من وجه متوحش من جهة ومن ضلال إنسانية يمكن توظيفها من جهة أخرى، خصوصاً ما يتعلق بعولمة الثقافة وعولمة حقوق الإنسان وعولمة المعلومات والاتصالات.

يقول البعض أنه في عصر الثورة التكنونترونية ما بعد العلمية التقنية، فإن مجال الشعر سيكون محدوداً، ويذهب البعض الآخر لاعتبار الرواية وهي التي تتحدث عن تفاصيل وشئون صغيرة وكبيرة هي التي لها القدح المعلا ّ وأن الشعر سيضمحل أو يتلاشى دوره ويضعف كثيراً.

لكن الشعر هو الآخر تطور، فلم تعد المعلقّات أو الشعر الكلاسيكي بلغته المفخمة وصوره القليلة هو الشيء السائد، بل إن الصور أخذت طريقها إلى القصيدة الحديثة بدلاً من التفعيلة.. لقد تعرفنا في نصف القرن الماضي أو ما يزيد على قصائد للشعر الحر أو الحديث كما يسمّى وكان هناك الرواد الأوائل مثل نازك الملائكة وبلند الحيدري والسياب وعبدالوهاب البياتي.. هكذا اليوم أصبح مدرسة أساسية تستجيب لروح العصر، ولدينا فيها عمالقة مثل أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف.. يمكننا أن نستعيد على المستوى العربي صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازي وممدوح عدوان وعلي الجندي ومحمد بنيس وعبد العزيزالمقالح ومظفر النواب وعشرات من الأسماء اللامعة.

كناقد ومؤلف وصديق للجواهري أين تضع قصائده؟

يمكنني القول: الجواهري قد يكون الحلقة الذهبية الأخيرة في الشعر العمودي (الكلاسيكي) . لعله كان أحد المجددين الكبار في القصيدة الكلاسيكية، خصوصاً الصور الكثيرة التأثير التي تركتها قصيدة الجواهري:


كم هزّ دوحك من قزم يطاوله

فلم ينله ولم تقصر ولم يطُل

أو حين يقول:

وأركب الهول في ريعان مأمنةٍ

حب الحياة بحب الموت يغريني

ارتبطت مع الجواهري بـصداقه مديدة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان وبخاصه في براغ ودمشق.. أجريت معه حوارات مهمة، كان البوح فيها والمصارحة شديدان، وقدم الجواهري الكبير نقداً ذاتياً شفافاً لبعض مواقفة على نحو جريء وشجاع، كما هو الجواهري دائماً قلت له يا أبا فرات: لا يضر ولا يهم إن كان في الجبل الشامخ ثمة كهوف ومنعرجات وانحناءات.. سيبقى الجبل يعانق السماء وهو السمة الظاهرة والبارزة والأساسية..

وكان يردد: لم أغتصب ضميري سوى مرة واحدة في اشارة الى قصيدة "ته ياربيع" التي قالها بحق الملك فيصل الثاني وعاد وكتب رائعته الشهيرة (كفارة وندم) بعد مدة قصيرة . أصدرت جزءاً من الحوارات (نحو 100صفحة كملحق لكتابي الجواهري: جدل الشعر والحياة في اواخر العام 1996 ومطلع العام 1997م وقبل وفاته) وسأقوم بإصدار أجزاء أخرى لم يتسن لي إنجازها بشكل نهائي في وقت لاحق .

علماً بأنني أجهّز طبعة جديدة من الكتاب وهي طبعة مزيدة ومنقحة وستتضمن آراء عدد من النقاد والادباء بالكتاب الذي حظي بنقد واسع من أدباء ونقاد عراقيين وعرب على امتداد الوطن العربي وفي الخارج، حيث غطت الصحافة ووسائل الإعلام الكثير من الكتابات، إضافةً إلى حلقة دراسية عنه قدمها تلفزيون أوربيت لعدد من أساتذة الجامعات والنقاد اللبنانيين ، وتم تنظيم ندوة مهمة في لندن تكريما للجواهري الكبير بمناسبة صدور الكتاب، ساهم فيها الشاعر والكاتب محمد علي فرحات والاديب والاعلامي محي الدين اللاذقاني والمؤرخ والتراثي جليل العطية والدبلوماسي والمؤرخ نجدة فتحي صفوت والشاعر والكاتب عبد اللطيف اطميش ، اضافة الى مساهمتي .

الوضع العربي العام ينوس بين جديد لم يأخذ هيئته الكاملة وبين قديم ما زال يحكم رغم شواهد موته فماذا ترى؟

على حد تعبير المفكر الايطالي غراشي : الجديد لم يولد بعد رغم أن القديم يحتضر! فلحد الآن لم يحصل التراكم المطلوب والمراجعة المطلوبة ولذلك فإن ثقل الماضي ما زال جاثماً على صدورنا وفوق رؤوسنا وعلى أكتافنا... أما الجديد فما زال بعيد المنال في حين أخذ العالم يتحدث عن عالم ما بعد الحداثة. لم تتحقق الشعارات الكبرى التي دعونا لها مثل الوحدة العربية، والاشتراكية والوطن الحر، والشعب السعيد، ولم تتحقق التنمية والديمقراطية، وعلقنا كل شيء على شماعة الخارج إما بتعويلية أقرب إلى التبعية كما كانت القيادات الشيوعية تفعل ذلك بالنسبة للاتحاد السوفيتي وكذلك القوميين العرب بالنسبة لعبد الناصر والبعثيين العرب بالنسبة لنظامي سوريا والعراق . أو بتعويليه جديدة لاغراض مصلحية ودليل عجز فكري وتخلّف فعلي او فساد اخلاقي .

نحن بحاجة الى وقفة جديدة بانتظار تقييم التعويلية والإصلاح الآتي بثوبه "الجديد"من الخارج بعد أن وصلنا إلى طريق مسدود، وهذه وتلك سواء كانت تعويلية لاعتبارات عقائدية أو مصلحية أو نتيجة عجز إنما تقود إلى الاستتباع ووضع مصالح الدولة الكبرى قبل مصلحة الشعب والوطن. وأقول هذا من باب النقد الذاتي أيضاً، فقد كانت البنية الفكرية والسياسية للحركة اليسارية والقومية تستند الى مثل هذه الاطروحات التعويلته مثلما استندت الحركة الإسلامية على دعم إيران أو دول إسلامية أخرى.

لقد أهملنا الجوانب المطلبية والاجتماعية التراكمية ورفعنا أكثر الشعارات رنيناً وصخباً، بل إننا استنكفنا أحياناً من خوض نضالات ذات طبيعة اجتماعية أو اقتصادية أو اصلاحات محدودة ، وكان يهمنا الشعارات الكبرى الضخمة ذات الابعاد الستراتيجية! لهذا ظل الحاكم العربي يقبض بيد من حديد على مقاليد السلطة ويتذرع بالخطر الخارجي، ويجعل خصومه في زاوية التآمر، ويدعي احتكار الحقيقة وحق النطق باسم الشعب، أما الآخرون فليذهبوا إلى الجحيم.

إن نزعة التطرف واليسارية والجملة الثورية خصوصاً اللفظية واستباق دخول المعركة مع الحكام الطغاة كان قد أدى فيما أدى إليه إلى نحر الحركات الثورية وهي في بدايات تكوينها أو تشكلها أو صعودها، لذلك حصلت لدينا ارتكاسات وانتكاسات كبرى لم ندرك خطوراتها إلا بعد فوات الأوان.

إن ازدراءنا للتطور التاريخي والتراكم التدرجي كان فيه مقتلنا قبل غيرنا، هكذا استحوذ العسكر على السلطة بالتعاون مع الفئات الأكثر تخلفاً القادمة من القرى النائية لضرب الطبقة الوسطى وتعطيل التجارب البرلمانية رغم نواقصها وثغراتها وعيوبها. وعلى النقيض من السياسات القصيرة النظر ، الجزوعة، المتشددة، سرنا في حالات أخرى بمنهج تبريري وذرائعي لانظمة مستبدة، وقدمنا تنازلات كبيرة لها واتخذت العديد من القوى مثل هذا الموقف من تداخلات خارجية لتبرير تعاونها مع الاحتلال بحجة "الواقعية السياسية" وعدم وجود طريق آخر.


يقبل الحكم العربي بكل شيء من الاجنبي ما عدا الاصلاح لماذا؟؟

الإصلاح كما أشرت هو مسار تاريخي شامل قانوني وسياسي واقتصادي واجتماعي وديني وتربوي وغير ذلك، أي أنه لا يتبنى بخطوة أو خطوتين، بإعلان أو إعلانين للأطراف المحافظة بما في ذلك السلطات الحاكمة التي تريد صد موجة الإصلاح بحجة الخصوصية والهوية الثقافية، أما العاجزون الذين يدعون إلى الإصلاح بأي ثمن حتى لو أدى إلى احتلال البلدان وتعريض سيادتها واستقلالها للخطر كما حصل في العراق فإنهم يدعون بأن هذه الأنظمة المدججة بالمال والسلاح لا يمكن مقاومتها أو الانتصار عليها إلا بدعم الخارج، وذلك حسب رأيهم هو أحد قوانين "العولمة".

إذا كان الإصلاح ضرورة واختيار في آن وهو استحقاق عالمي فإن لم يأت سلمياً وتدرجياً فسيأتي عاصفاً ومدمراً، وعندها سوف لا يكون ساعة ندم وبهذا المعنى فإن الأنظمة الحاكمة تتحمل المسئولية الأساسية مع القوى الدولية المتنفذة. ولا يمكن التذرع بالخصوصية الثقافية أو الدينية للتهرب من استحقاقات الإصلاح خصوصاً في ظل تطور كوني يستند إلى تطور الفقه الدولي الذي أصبح مبدأ وقاعدة حقوق الإنسان من المبادئ الآمرة الملزمة Jus cogens.. أي أن لها صفة علوية وبهذا المعنى لا يمكن للحاكم أن يتذرع حتى بميثاق الأمم المتحدة الذي يقول بعدم التدخل أو باحترام السيادة للإفلات أو الالتفاف على قضية حقوق الإنسان التي لم تعد قضية داخلية بل إنها تستوجب التدخل الدولي لأغراض إنسانية، وحماية الحقوق التي تنتهك سواء على صعيد جماعي أو فردي، وبالأخص إذا كانت انتهاكات سافرة وصارخة بما يتطلب تحمّل المجتمع الدولي لمسئولياته بالتدخل الإنساني.

إن مبدأ التدخل الإنساني قد أدى إلى تفتت كبير في مبدأ السيادة التقليدية وفي مبدأ عدم التدخل، باعتباره قاعدة علوية لها سمو على بقية القواعد الأخرى في القانون الدولي، وكي لا يذهب الأمر باتجاه خاطئ فلا بد هنا من التفريق بين التدخل الإنساني والتدخل العسكري أو الحربي خصوصاً وأن الولايات المتحدة استخدمته بطريق انتقائية وفقاً لازدواجية المعايير، وحتى التدخل العسكري فإن الولايات المتحدة قد خالفت الشرعية الدولية وميثاق الأمم المتحدة عندما لجأت إليه وفقاً لدعاوى زائفة مثل امتلاك العراق أسلحة دمار شامل وعلاقته بالإرهاب الدولي ودون ترخيص من جانب الأمم المتحدة .

ما العمل اذا حصلت انتهاكات خطيرة وجسيمة لحقوق الانسان واعمال ابادة وتطهير وجرائم ضد الانسانية ؟ أليس ذلك من مسؤولية المجتمع الدولي ، الذي يفترض ان يؤمن الحماية الدولية من تلك الانتهاكات خصوصا اذا عجزت الدولة او تقاعست او كانت هي السبب في ذلك ؟ وهنا تتحدد مسؤولية المجتمع الدولي وهيئاته، التي ينبغي ان يتحملها بجدارة وانسانية، للحؤول دون استمرار هذه الانتهاكات ولانقاذ الضحايا أو التخفيف من معاناتهم . ولكن في الوقت نفسه لا بد من التمييز بين اهداف ودوافع وآليات التدخل وتقديم الاعتبارات الانسانية على التوظيف السياسي والمصالح الضيقة ، فشرط التدخل ان يكون انسانيا ويحظى بالانسجام مع قواعد القانون الدولي والشرعية الدولية .

الإصلاح في عالمنا العربي من أين أتى وتحت أي ظروف كان لا بد من قبوله إذا كان اصلاحا حقيقيا وليس مزيفا، اصلاحا يستجيب لمصالح الشعب والأمة العربية، وأشدد هنا على مسألة الاستجابة للمصلحة العليا بعيدا عن الحزبية والفئوية والطائفية والاثنية. ومثلما لا بد أن يؤخذ الاصلاح داخليا، فالصحيح ايضا لا بد من تحقيق اصلاح دولي كمنظومة كاملة، بإصلاح نظام العلاقات الدولية باتجاه أكثر عدلاً وتوازناً.. وإصلاح المنظمات الدولية وبخاصة الأمم المتحدة وأجهزتها، وإصلاح النظام العربي الإقليمي وبخاصة جامعة الدول العربية، والمنظمات الاخرى و إصلاح الأنظمة العربية وتحديثها وتطويرها باتجاه احترام سيادة القانون وجعل السيادة للشعب وليس للحاكم عبر ممثلين وإصلاح نظام القضاء بتأكد استقلاله وفصل السلطات وإقرار التعددية والتداولية ومبدأ المساءلة والرقابة والشفافية واحترام حقوق الإنسان.

ولا يفوتني هنا أن أقدم نقداً ذاتياً لمسارات مؤسسات المجتمع المدني والاتحادات المهنية التي هي بحاجة إلى إصلاح خصوصاً وأن العديد من قياداتها قد شاخت واستنفذت أغراضها إذ لا يمكن نقد الحكومات دون نقد مساراتنا والأمر لا يتعلق بالجلد الذاتي أو نشر الغسيل الوسخ بمقدار ما هو أجراء مراجعة حريصة ومسئولة لتقدم حركتنا ودفعها إلى الأمام لمواكبة التطور وللمساهمة فيه بتقديم إجابات على الأسئلة التي تطرحها علينا الحياة، إذ من دون كشف الأخطاء والنواقص على الملأ لا يمكن التقدم إلى الأمام بثقة كبيرة . وحتى الحركات السياسية التي تدعو الى الاصلاح فهي الاخرى بحاجة الى اصلاح وتحديث ونبذ اساليب الماضي الاستبدادية والتثبت بالمواقع القيادية واحيانا ثوريثها سواء في السلطة او المعارضة .

يلاحظ العودة الى الطائفية وعصور ما قبل الدولة ما تعليل ذلك؟!

الطائفية أحد الأمراض الاجتماعية والسياسية الخطيرة التي تعاني منها الكثير من المجتمعات العربية، دعني أذكر لك ما حصل في العراق فقد جاء الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر بصيغة طائفية تمهد لمجلس حكم انتقالي وفقاً لمحـددات وقياسات تركت تأثيراتها على المجتمع العراقي بل إنها ساهمت في إذكاء نار التوتر الآثني والاحتقان الطائفي، خصوصاً بتخصيص ثلاثة عشر مقعدا للشيعة وخمسة للسنة وخمسة للأكراد وواحد للتركمان وواحد للكلدو - أشوريين.

وعلى أساس هذا المبدأ البغيض بدأت التقسيمات من الوزير إلى الخفير، وأدّى هذا إلى مضاعفة الطائفية السياسية التي استندت إليها احيانا الحكومات السابقة وبخاصة النظام السابق وفقاً لقوانين شاذة للجنسية حيث وضعت درجتين للجنسية (أ)و(ب) بما ادى الى التمييز منذ قانون الجنسية لعام 1924م وقانون الجنسية لعام 1963م، وقرارات مجلس قيادة الثورة، وخصوصاً القرار 666 الصادر في 7 آيار (مايو) 1980م والذي بموجبه تم طرد نحو نصف مليون مواطن عراقي إلى إيران بحجة التبعية المزعومة..

أقول ذلك خصوصا وأن الأمر انتقل الآن من الطائفية السياسية إلى الطوائفية المجتمعية التي هي قد تكون الوجه الآخر، وربما أشد بشاعة من الطائفية السياسية السابقة وأقتبس هنا قولا أثيرا لعالم الاجتماع العراقي الكبير علي الوردي الذي وصف هؤلاء "الطائفيون" من الاتجاهين بأنهم طائفيون بلا دين، فالمتدّين الصحيح والمسلم الحقيقي لا يؤمن ولا يقبل بالطائفية أساسا للحكم أو للتقييم كما أن ذلك يضعف مبدأ المواطنة والمساواة ركنا الدولة العصرية الدستورية، وهو يضعف من الوحدة الوطنية ويجعل الولاء للهوية الطائفية التجزيئية بدلاً من الولاء للهوية الوطنية العراقية الجامعة.

ولا شك أن هناك أمراضاً أخرى مثل العشائرية أو القبلية أو المناطقية التي هي سمات متخلفة لحكام لا يستندون إلى الإرادة الشعبية وإلى مبدأ المواطنة بل يتعكزون على انتماءات محلية ضيقة وتفتيتية خصوصاً إذا ما استفحلت فستترك بصماتها القاتمة على مستقبل بلداننا وأمتنا العربية، ولن يكون المستفيد سوى أعداء الأمة الذين يعملون وفقا مشروع معلن وليس عبر مؤامرة سرية فحسب، إلى تطييف وتفتيت وتقسيم البلدان العربية إلى كانتونات ودوقيات وسلطنات ودويلات للطوائف بدلاً من الهوية العربية الإسلامية الغالبة، والمواطنة والانتماء للأمة الذي هو الأساس الجامع .

يجري خلط عامد بين المقاومة والارهاب لتجريم المقاومة فكيف ترون ؟
المقاومة حق مشروع لكل شعب تحتل أراضيه ولا أعتقد أن شعباً احتلت أراضيه لم يقاوم الاحتلال بكل الوسائل الممكنة السلمية والعنفية إلا إذا كان شعباً من العبيد، ولا أظن أن الشعب العراقي هو كذلك فهو شعب نابض بالحياة والحيوية ويتوق إلى الانعتاق والحرية ويريد أن يعيش مثل بقية شعوب الأرض تحت الشمس في ظل نظام ديمقراطي وسيادة كاملة وتنمية شاملة دون تدخل خارجي أو احتلال.

عشية غزو العراق قلت في مقابلة لي مع صحيفة القاهرة التي يرأس تحريرها صلاح عيسى أعتقد أن النظام سيسقط سريعاً وقد لا تدوم الحرب أكثر من ثلاثة أسابيع، ولكن المحتلين سوف لا ينعمون بالاسترخاء تحت شمس بغداد الذهبية فسرعان ما ستبدأ مقاومة ضارية وشرسة للاحتلال وبتقديري قد لا تمضي ستة أشهر إلا وتكون المقاومة قد بدأت، وفعلاً ابتدأت المقاومة لكن بعد بضعة أيام أو أسابيع من الاحتلال، وليس ستة أشهر كما توقعت..

المقاومة تريد جلاء المحتل ولعل هناك الكثير من القوى التي تنخرط في صفوفها أو تدعمها أو تؤيدها خصوصاً لهدف إنهاء الاحتلال وأضيف هنا لا بد من ربط إنهاء الاحتلال بإقامة نظام ديمقراطي عصري يقطع الطريق على إعادة إنتاج الاستبداد والدكتاتورية . هناك مجموعات تنشط في إطار المقاومة قسم منها من العسكريين السابقين الذين رماهم بول بريمر الحاكم المدني الامريكي إلى الشارع في خطوة انتقامية عندما حل الجيش والأجهزة الأمنية وهناك تيارات دينية ووطنية لا تريد للاحتلال أن يستمر خصوصاً وأن الاحتقان والتوتر الطائفي وصل ذروته. والأكثر من ذلك استمرار قوات الاحتلال في إذلال العراقيين كما حصل في سجن أبو غريب، واستباحة مدنهم وقراهم ومداهمة منازلهم كما حصل في الفلوجة والنجف والرمادي وسامراء والكوفة ومدينة الصدر (الثورة) وكركوك وبعقوبة وصلاح الدين والموصل وتلعفر والبصرة وغيرها.

وأود هنا أن أشدد على ضرورة التفريق بين عمليات المقاومة التي تستهدف القوات الأمريكية وقوات الاحتلال بشكل عام وهو أمر يعترف به القانون الدولي وبين العمليات الإرهابية التي تطال السكان الأبرياء المدنيين العزل كما حصل في تفجيرات الحلة والكاظمية والنجف وغيرها، إضافة الى عمليات الخطف وأخذ الرهائن وقطع الرؤوس وجز الأعناق واعمال الجريمة المنظمة ، فمثل تلك الاعمال مدانة بكل المعايير الانسانية والاخلاقية والدينية والحقوقية والقانونية.

إن الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة والنداءات الطائفية التي يصدرها الزرقاوي حسب تقديري لا علاقة لها بمقاومة المحتل، خصوصاً إذا شملت السكان المدنيين واستهدفت طائفة بكاملها، واعتبرت الموت المجاني والعقاب الجماعي سلاحا تدميريا لتخريب كل شيء . ومثل هذه النظرة العدمية السادية غير المسؤولة والافكار التكفيرية والاعمال الارهابية تلحق أفدح الاضرار بالمقاومة السلمية والمسلحة التي تستهدف الاحتلال، وعلى الاخيرة ان تميّز نفسها وتعلن تبرؤها منها.

نحن الآن في أتون الحرب الأهلية، واذا لم نكن في أتونها ، فنحن على أبوابها بل إن بوادرها لاحت في الأفق وانتشرت نيرانها في الكثير من مناطق العراق التي شهدت إجلاءا وعزلاً وتطهيرا. والحرب الأهلية ليست كما يتصور البعض بين السنة والشيعة أو بين العرب والكرد، أو بين الكرد والتركمان، او بين المسلمين والمسيحيين او من أتباع الديانات الاخرى، وهي تبدأ بقيام خمسة "زعران" من هذا الطرف أو ذاك بتفجير هذه الحسينية أو ذلك الجامع أو هذا المقر أو تلك المنطقة ليتم الرد بالمقابل حتى تشتعل، وإذا اشتعلت لا سمح الله فيصبح إطفاؤها عسيراً..

ومخاوفي تكمن في أن المحتل يريد إيصالنا إلى هذه المحطة التي يبدأ فيها القتل على الهوية.. وتصبح حرب الجميع ضد الجميع، عندها سيكون المحذور الذي نندد به الآن ونقاومه ونفضحه "حلاً"، وربما مطلباً خصوصاً إذا ما حصلت إبادات شاملة، هذا ما يريده المحتل وربما بعض المعاقدين معه.

أما ما يريد الوصول إليه فهو التفتيت ولذلك إذا استطاعت المقاومة من إلحاق المزيد من الخسائر البشرية والمادية بالاحتلال فقد يعيد النظر ويفكر بالانسحاب وعلينا أن نعدّ العدّة لتحديد موعد زمني وخطة انتقالية خاصة بالانسحاب ويمكن أن تكون بمساعدة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والمؤتمر الإسلامي تمهيداً لإجراء انتخابات حرة ومشاركة جميع الأطراف والحرص على التوافق الوطني والوحدة الوطنية لإنجاز مشروع دستور دائم جديد ، وسواء فاز مشروع الدستور الحالي أم لم يفز ؟ فان تعاظم التهديد الطائفي لا يقل خطرا عن تهديد الاحتلال فهذا الاخير صائر الى زوال لا محالة، لكن الخوف من استمرار التطاحن والتوتر الطائفي.
عبد الباري طاهر
* رئيس مؤسسة العفيف الثقافية
ورئيس تحرير مجلة الحكمة
ونقيـب الصحافييـن اليمنيـين سابقـاّّ



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رؤية في مشروع الدستور العراقي الدائم
- هل هو فعل إكراه أم فعل ارادة ؟
- الفيدراليات العراقية بين التأطير والتشطير
- تقرير متخصص يسلط أضواء جديدة علي الوضع الانساني (2-2) أكثر م ...
- العقوبات أسهمت في تفاقم انتهاك حقوق الانسان


المزيد.....




- الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي ...
- -من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة ...
- اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
- تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد ...
- صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية ...
- الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد ...
- هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
- الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
- إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما ...
- كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟


المزيد.....

- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- «صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية ... / نايف حواتمة
- الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي / جلبير الأشقر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - عبد الحسين شعبان - حوار مع الناقد والمفكر العراقي عبدالحسين شعبان